982
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
التيجان
ويضع الملوك شيئاً فوق رؤوسهم، يتوجون به أنفسهم ليميزهم بذلك عن الرعية، يسمى "التاج" في عربيتنا.
ولا نعرف في الزمن الحاضر اسم "التاج" في العربيات الجنوبية. لعدم وروده في نصوص المسند. اما أهل الحيرة والغساسنة وعرب نجد والعربية الشرقية، فقد عرفوه واستعملوه، فورد في نص النمارة من سنة "328 م." حيث ورد "ذو اسر التج" أي "الذي حاز التاج". وهذا النص هو أقدم نص تأريخي مدون وردت فيه هذه الكلمة. وقد وردت الكلمة في الشعر، إذ جاء "تاج آل محرق" وفي أخبار."النعمان" حيث عرف "بذي التاج". وذكر علماء اللغة أن التيجان للملوك.
وقد رصع ملوك الحرة تيجانهم بالأحجار الكريمة على طريقة الفرس. وقد ورد في بيت شعر لمالك بن نويرة اليربوعي ان تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب.
ونحن إذا جهلنا اليوم التاج أو أي شعار آخر يشير إلى الملك والحكم كان يصنعه ملوك العربية الجنوبية على رؤوسهم ليكون سمة لهم تميزهم عن الرعية وعمن هم دونهم، فان ذلك لا يعني اننا ننكر وجوداً لشعار الملك عندهم، بل إني أرى انه لا بد أن يكون لأولئك الملوك من تاج ومن شعارات أخرى، كانوا يتخذونها لتميزهم عن غيرهم ولتشعرهم بأنهم أصحاب السلطان. وإذا كان لملوك الرومان والروم والحبشة والفرس تيجان، فِلمَ لا يكون لملوك العربية الجنوبية تيجان، وقد كانوا يحاكون ملوك زمانهم في رسوم الملك وأسلوب الحكم ? وفي عربيتنا لفظة أخرى استعملت لتمييز شخص، عن بقبة أناس في المنزلة والدرجات، هي لفظة "الإكليل". فلمن يضع الإكليل على رأسه منزلة رفيعة، إلا انها لا تبلغ درجة "ملك" ولا تؤدي معنى "تاج". فالتاج لا يكون إلا للملوك. وأما "الإكليل" فلمن دونهم. وقد كان شيئا يضعه الشخص فوق مفرق رأسه، قد يعلق به خرز وأحجار وقد لا يعلق. وقد ورد في بعض الأخبار أن "هوذة بن علي الحَنفي"، صاحب اليمامة، كان يضع إكليلا على رأسه، واليه أشار الأعشى في شعره: له أكاليل بالياقوت، فصهّلـهـا صواغها لا ترى عيباَ ولا طبعا
وقد عرف "الإكليل" انه شبهه عصابة مزينة بالجواهر،ويسمى التاج إكليلاً. وقيل: إن الإكليل يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس.
وقد ورد في روايات أخرى ان كسرى أعطى "هوذة" قلنسوة فيها جوهر، فكان يلبسها، فسمّي ذا التاج. غير ان أكثر الروايات تعارض في حصول "هوذة" على التاج، وفي بلوغه منزلة ملك. وترى ان تلقيبه ب "ذي التاج" هو على سبيل المجاز، وان الذي كان يضع على رأسه هو إكليل،لا تاج من التيجان.
وذكر بعض الأخباريين أن التيجان كانت لليمن، وذكر أن غيرهم كانوا يتوجون أنفسهم بخرزات تنظم لهم. ويقال إن الملك كان إذا ملك سنةً زِيد في تاجه وقلادته خرزة،ليعلم عدد السنن التي ملك فيها. وذلك كالذي ورد في بيت شعر من قصيدة قالها لبِيد في رثاء النعمان بن المنذر، وهو قوله:. رعى خرزاتِ الملك عشرين حجة=وعشرين،حتى فادَ والشيب شامل وقد ورد في شعر أعشى بكر في هوذة بن علي الحنفي الذي كان يجيز لطيمة كسرى في كل عام: من يَرَ هوذة يسجُدْ غيرمُـتـئِب إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا
له أكاليل بالياقوت فصـلـهـا صوّاغها لاترى عيبا ولا طبَعا
ويتبين من ذلك ان هوذة كان من أصحاب التيجان. غير أن بعض العلماء ينكرون وجود التيجان عند غير أهل اليمن، ويقولون كما ورد عن أبي عبيدة عن أبي عمرو: " لم يتتوج معدّي قط، وإنما كانت التيجان لليمن. ولما سئل عن هوذة بن علي الحنفي، قال: إنما كانت خرزات تنظم له.
وذكر ان عادة نظم الخرز في عقدْ يوضع على الرأس، ليكون شعارا للملك والحكم، عادة كانت معروفة في الحجَاز. وقد ورد ان "عبد الله بن أبي بن سلول" كان رجلاً شريفاً في يثرب لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره،وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملكوه عليهم. فما راعه إلا مجيء الإسلام إلى يثرب وقدوم الرسول اليها، فانصرف قومه عنه، فضغن على الإسلام، وراى ان الرسول قد استلبه ملكه.
وورد فىِ الحديث أن الرسول: "شكا إلى سعد بن عبادة، عبد الله بن أُبَي، فقال اعف عنه، يا رسول الله، فقد كان اصطلح أهل البحيرة، على أن يعصبوه العصابة. فلما ا جاء اللّه بالإسلام، شرِق لذلك". ويعصبونه: معناه يسودونه ويملكونه، وكانوا يسمّون السيد المطاع معصباً، لأنه يعصب بالتاج. وفي ذلك قال عمرو بن كلثوم: وسيّد معشرٍ قد عصـبـوه بتاج الملكِ،يحمي المحجَرينا
فجعل الملك معصباَ أيضاً، لأن التاج أحاط لي رأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعصب التاج على رأسه، إذا استكفّ به، ومنه قول قيس الرقيات: يعتصب التاجُ فوق مفرقه على جبينٍ كأنه الذهـب
ولا تؤدي لفظة "سموط" معنى "تاج"،بل ولا تبلغ في المنزلة منزلة "إكلبل". و "اسمط": الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظماَ فيه. وقد استعملت كلمة سموط في مقام التاج، للتعبير عن تاج ملوك الحيرة، غير انني أرى ان ذلك على سبيل التجوز، لا التخصيص. وقد ذكر علماء اللغة ان السمط يشدّ في العنق والجمع سموط.
ومن مظاهر الملك "السرير"، ويقال له "العرش" كذلك. ويعبر بالسرير عن الملك والنعمةْ. ويذكر أهل الأخبار ان أول من جلس على السرير من ملوك العرب "جذيمة الأبرش"، وهو أول من وقعت له السمعة من ملوك العرب، وأول من لبس الطوق. وقد أشير في القرآن إلى عرش ملكة سبأ، ويكنى به عن العزّ والسلطان والمملكة. ولذلك يقال: "عرش فلان" و "عرش الممكة" و "ثل عرشه"، و "أصحاب العروش" أي الملوك.
وذكر أهل الأخبار أن "السرير": الوِ ثاب. وقيل: السرير الذي لا يبرح الملك عليه، واسم الملك "موُثبان". والموثبان بلغة حمير: الملك الذي يقعد، ويلزم السرير. والوِ ثاب المقاعد. قال أمية بن أبي الصلت: بإذن اللّهِ، فإشتدت قـواهـم على ملْكين، وهي لهم وثاب
وقد كان الملوك يلبسون قلائد عرفت ب "قلائد الملك". تكون من الذهب والأحجار الكريمة. وربما كان "السمط" قلادة تنظم من اللؤلؤ والأحجار الكريمة، يتقلدها الملك للزينة ولتكون شعاراَ للملك.
وذكر علماء اللغة أن كل ما يضعه الملوك والرؤساء على رؤوسهم من تاج أو عمامة أو قلنسوة أو غيره، فهو "عمارة". و "العمارة"، رقعة مزينة نخاط في المظلة علامة الرياسة، وهي "التحية" أيضاً.
ومن عادة الملوك استخدامهم الحراس يمشون معهم إذا ركبوا، دلالة على الملك، ولحراستهم. يمشون معهم، وقد تقلدوا سلاحهم ولبسوا ألبسة خاصة تشعر انهم من حرس السلطان. ويذكر أهل الأخبار ان أول من مشت الرجال معه، وهو راكب، "الأشعث بن قيس الكندي". كانت "بنو عمرو بن معاوية" ملّكوه عليهم وتوّجوه. وكَان من عادة الاشراف والسادات حتى في الإسلام، أن تسير مع ركابهم حاشية يتناسب عدد افرادها مع منزلة الشريف ومكانته وغناه. فكان "كريب بن أبرهة" سيد حمير في زمانه، إذا سار بالشأم خرج وتحت ركابه خمسمائة نفر من حمير يسعونْ.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق