872
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع و الأربعون
وقول الطرمّاح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا و لو سلكت طرق المكارم ضلّت
إلى غير ذلك من شعر، يجب إن نأخذه بحذر. وان نعالجه دائماً على انه يمثل العواطف الشخصية والانفعالات النفسية، والتهيج الآني. وان شعراً من هذا القبيل لا يمكن إن يحمل محمل الصدق، وان نقول عنه انه يعبر عن الواقع. بل نأخذه كما سبق إن فكرت عن شعر المديح على انه تعبير عن نوع من أنواع الأدب في ذلك الوقت. وعلى انه باب بحب إن يدرس من الوجهة النفسية، لأنه يفيد في الوقوف على النفسية العربية و العقلية الجاهلية في ذلك الوقت.
ولم يكن الهجاؤون يراعون الصدق في كلامهم، وكيف يراعونه وهم يريدون هجو خصومهم والإساءة إليهم والى سمعتهم بأية طريقة ووسيلة كانت، حتى وان علموا إن سامعي الهجاء لا يصدقونه. ومن هذا القبيل رمي بعض القبائل أو الأُسر بأنها من أصل أعجمي، وفي كتب الأخبار أمثلة عديدة على ذلك، وقد يكون ذلك بسبب وجود دم أعجمي من أم أو من أب بعيد أو قريب، وقد لا يكون أي أثر من ذلك. شتم "عمرو بن الأشم" "قيس بن عاصم"، فقال له ولقومه: إن تبغضونا، فإن الروم أصلكـم والروم لا تملك البغضاء للعرب
وقد عير "حسان بن ثابت" "بني المغيرة" وسبهم بأنهم عبيد قيون، أبوهم قين لدى كيره" جاثم. يأخذون "الاهالة"، وهو الدهن الذي يستخرج من اللحم، ويبيعونه من الدباّغين. فما ذكره فيهم هو من أعمال العجم والصعاليك، لا العرب الأصلاء و الأقحاح.
وذكر إن "الوليد" المعروف ب "الوليد بن المغيرة" لم يكن عربياً، و إنما كان عبداً رومياً، وكان اسمه "ديم"، واسم أبيه. "صقعب"، فرغب فيه "المغيرة"، فادّعاه، والحق صقعباً بالشام، فاشتاق إليه، فصوره في الحائط. وقد هجاه "حسان بن ثابت"، فقال له إن والدك "صقعباً" كان قيناً، و أما أمك فهي "حباشة"، وهي عبدة سوداء. وقد تباهيتَ إذ صرت غنياً، و إنما صرت ثرياً بكلبتك هذه، وهي آلة من آلات الحدادين، يشير بذلك إلى انه كان حداداً، يعرف ضرب النصال، وحسن الرقع للبرم. وهي القدور. ويظهر من شعر حسان ومن شرح الشرّاح إن "الوليد" كان مصهوّراً ماهراً متمكناً من فنه، حتى صور اباه، إن صح هذا الادعاء من " حسان".
ولحسان بن ثابت هجاء شديد لثقيف، قال في بعضه خلوّا "معداً" ولا تنتسبوا إليها، واتركوا "خِنْدفاً"، فما لكم من ولادة فيها، وذلك على عاداته وعادة الشعراء والناس عند هجاء قوم، حيث يرمونهم بكل قبيح، ويجردونهم من كل مكرمة، إلا انه لم يصرح في شعره بأنهم من ثمود، إذ كانوا وقت هجاء "حسان" إياهم من "قيس". وقد نسبهم بعضهم إلى "الفهود بن بني جائر بن إرم، اخوة ثمود"، ونسبهم آخرون إلى "وحاظة" بن حمير ؛ وقال آخرون إن "ثقيفاً"، هو عبد كل ذلك نكاية بثقيف.
وذكر أهل الأخبار إن "الازرق"، وهو غلام رومي في الأصل كان للحارث ابن كلدة الثقفي. وقد ادعى نسله إن "الأزرق" هو ابن "عمرو بن الحارث ابن ابي شمر الضاني"، فهم من غسان. وذكر انهم ادعوا في أول آمرهم انهم من تغلب، ثم من بني عكب؛ ثم أفسدتهم خزاعة، ودعوهم إلى اليمن، وزينوا لهم ذلك، وقالوا: انتم لا يغسل عنكم ذكر الروم إلا إن تدعوا إنكم من غسان. فانتموا إلى غسان بعد.
وقد عَيَّرت العرب وسبَت من كان ذا أصل خامل، كأن يكون قينا، والقين العبد والحداد. ولعلها جمعت هذا المعنى من الرابط بين الحرفة والمنزلة، فقد كلبن القيون من العبيد. وقد عيّر "حسان بن ثابت" "بني عوف بن عوف" بأنهم منتسبون إلى قريش، ولكن نسبهم ليس منهم، بل من جذع قين لئيم العروق عرقوب والده اصهب. فرماهم بأنهم ليسوا من قريش، ولا من العرب، بل من الروم، ووالدهم اصهب به حمرة، وليست الصهبة من لون العرب. وقال لهم: ولذا أردتم الانتساب إلى العرب، فانتسبوا إلى "تغلب"، انهم شرّ جيل، وليس لكم غيرهم مذهب. ويبعث قول "حسان" هذا في "تغلب" على الظن بان أقواماً من الغرباء دخلوا في تغلب، وصاروا منهم. ولعله قصد إن من تنصر، دخل في تغلب، حتى دخل فيهم من ليس من العرب بسبب نصرانيته، حتى دخل فيهم قوم أصلهم من الروم.
و عُير ب "أولاد درزة م، ويراد بهم الغوغاء. وبنو درز: الخياطون و الحاكة، والعرب تقول للدعيّ: هو ابن درزة وابن ترني. وذلك إذا كان ابن أمةٍ تُساعي، فجامت به من المساعاة، ولا يعرف له أب، وقال: هؤلاء أولاد درزة وأولاد فرتني. للسفلة و السقاط.
والسب: الشتم، والسباب: الشتائم والمشاتمة. و أما "السبّة" فالعار. و كانوا يتشاتمون جماعات و فُرادى، و يعير بعضهم بعضاً وقد يقذعون في السب، ولا سيما في الأمور إلى تتغلب فيها العواطف، على العقل.
ومن شتائم الجاهليين وسبابهم "عضضت بأير ابيك"، ويا ابن الزانية، ويا ابن الفاعلة، و "يا عاض اير أبيه، و "يا مصفر أُسته"، و "يا ابن ملقى ارحل الركبان".
و عيرت العرب بالبخل. و البخل هو على نقيض الكرم. وقد ذُمّ بعض الجاهلين لبخلهم ولحرصهم الشديد على مالهم وعدم مساعدتهم للفقراء. و المحتاجين. وقد انتخبوا من بينهم رجلاً زُعم انه ابخل الناس في الجاهلية اسمه "مادر"، "بخل مادر" و "ابخل من مادر". وهو رجل من "بني هلال بن عامر". ذكر انه كان إذا أتى ماءً روي وأروى، ملأه مدرا ضنا على غيره بوروده. وانه بلغ من بخله انه سقى ابيه، فبقي في الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض بالسلح، أي لطخه. وورد في الأمثال: "ألأم من مادر".
وعّيرت بالغدر. قال بشر: رَضِيعَةُ صَفْحٍ بالجباه ملـمةُ لها بَلَقٌ فوق الرؤوس مشهَّرُ
وصفح رجل من "بني كلب برت وبرة"، جاور قوماً من "بني عامر"، فقتلوه غدراً. يقول غدرتكم ب "زيد بن ضباء الاسدي"، اخت غدرتكم بصفح الكلبي.
و عيرت من ينكر الصنيع الجميل و الفعل الحميد، فينسى احسان من احسن له. وعيرت من لا يفي، ولا سيما من أكل الخبز والملح، وهما من موجبات الوفاء، فقالوا: "ملحه على ركبتيه"، في عدم الوفاء.
وإذا سبت العرب أحد الموالي، قالت: يا ابن حمراء العجان، أي يا ابن الأمَة. كلمة تقولها في السبّ والذمّ. والعرب تسميّ الموالي: الحمراء. وكانوا يعيرون "الأتاوي"، و هو الغريب في غير موطنه، ولا يعدلون أحداً من الأتاويين باصحاب المحلات. قال الشاعر: لا تعدلن اتاويين قـد نـزلـوا وسط الفلاة باصحاب المحلات
وقالت امرأة من الكفّار، وهي تحرض الأوس والخزرج، حين نزل فيهم النبي: أطعتم أتاويّ من غيركـم ظلا من مرُاد ولا مذحج
أرادت إن تؤلب وتذكي العصبية.
وكانوا إذا أرادوا الاستهزاء برجل جاهل سفيه، قالوا له: هذا من اشد سباب العرب، أي إن يقول الرجل لصاحبه إذا استجهله يا حليم! أي أنت عند نفسك حليم وعند الناس سفيه.
ويعيَّر الإنسان بأبويه، أو بأحدهما، إذا كان بهما أو بأحدهما مثلبة ومنقصة يؤاخذ عليها، كان يكون ابن أمة أو ابن سبي بيع في السوق. وقد رأينا انهم كانوا يزدرون الهجين، ولا ينظرون إليه نظرتهم إلى إنسان صريح، كما كانوا يزدرون منَ أمه أو أبوه من أصحاب الحرف. و قد عيِّر "النعمان بن المنذر" لأن أمه "سلمى" كانت ابنة قَينْ، على زعم بعض الرواة. وكانوا إذا شتموا ابن امة، قالوا له: يا ابن آستها.
وقد كان للجاهليين أعراف في إهانات الناس، من مثل سب الشخص على ما ذكرت، وتحريض الأطفال على العبث بمن يريدون اهانته، ورميه بالحجارة والركض خلفه، وبأمثال ذلك، أو بتحريض السفهاء على التحرش بالشخص، أو تحريض النسوة بسبِّه، وبالإقذاع في كلامهم معه، وبما شاكل ذلك من وسائل دنيئة لا تنم على قدرة المحرض ولا على جرأة عنده، فيعمد إلى أمثال هذه الأمور.
و أما المقتدرون المتمكنون، فكانوا إذا أرادوا إهانة إنسان أهانوه بأسلوب يدلّ على قدرة المهين وتمكنه من مُهانه وازدرائه، فكان أحدهم إذا تمكن من عدوّه، عد إلى إهانته بنتف لحيته. و نتف اللحية من الإهانات الشديدة عند العرب، لأن اللحية من سيماء الرجولة، فإذا نتفت عدّ نتفها انتقاصاً من شأن ذلك الرجل، وازدراءً شديداً به.
وما يقال عن الإهانة التي توجه إلى الرجل بنتف لحيته، ينطبق كذلك على
"جز الناصية". فجزّ الناصية من وسائل التحقير والازدراء، و فيه دلالة على ازدراء مَنْ جَزَّ الناصية بمن جُزّت ناصيته، بعد إن تمكن منه. وقد كان في إمكانه استرقاقه، أو المنّ عليه بفك أسره، أو بفك رقبته بفدية، ولكنه لم يفعل كل ذلك، ولم يطمح في الفدية إمعاناً في ازدراء خصمه بإفهام الناس إن ذلك الشخصر لا يساوي شيئاً، وان المتمكن ارفع من إن يقبل فدية عن رجل وضيع خامل.
وكانوا إذا ذكروا خصومهم، تمنوا لهم الشرّ والأذى، واستعملوا جملاً فيها هذه المعاني. مثل: أخس الله حظه، وأبعده الله وقبحه، أو رضيع اللؤم، أو ابعد الله دار فلان، وأوقد ناراً في أثره، وقد يذكرونهم بهزء وسخرية. ويكثر ذلك عند أهل القرار.
ومن معاني الشتم لفظة "لحى"، اليّ تعتي "شتم". يقال "لحى الله فلانا"، أي قبحه ولعنه. و "الملاحاة" المنازعة وفي المثل من لاحاك، فقد عاداك.
وكان من دعاء بعضهم على بعض قولهم: "حبناً و قداداً". والحبن الاستسقاء، والقداد، وجع في البطن.
وكان إذا دعا الرجل على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلاً بسلاً، أي آمين آمين. وكان يحلف الرجل ثم يقول بسل، أي: آمين. وكان "عمر" يقول في دعائه: آمين وبسلاً، أي إيجاباً و تحقيقاً. وهي في معنى الويل، يقال: بسلا له أي ويلاً له.
وكانوا إذا ما أرادوا التكنية عن الكذاب، قالوا: "أبو بنات عبر". و "بنات عبر" الكذب والباطل.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق