إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 7 يناير 2016

865 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع و الأربعون الكرم


865

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
 
الفصل السابع و الأربعون

الكرم


وقد ضرب المضل بجماعة من الجاهليين عرفوا بجودهم وكرمهم، حفظ العرب ذكرهم لجودهم، وما زالوا يحتفظونه حتى اليوم، يتذاكرونه ويروونه في كتاباتهم وفي أنديتهم وفي كلامهم. من هؤلاء ثلاثة سُموا "زاد الراكب" و "أزواد الركب"، لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم. كانوا من أهل مكة هم: أبو عمرو بن امية. "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وأبو أمية بن المغيرة المخزومي، و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّى "زمعة بن الأسود بن المطلب". وقد ضرب بهم المثل، فقيل: أقرى من زاد الراكب.

وقد كان "عبد الله بن أبي أمية"، المعروف ب "زاد الركب" شديد الحلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجراً من مكة يريد النبي، فلقيه ب "الصلوب" فوق العرج، فأعرض عنه رسول الله، ثم عفى عنه.

وفي معنى "زاد الركب" معنى "جفنة الركب"، و الجفنة: الرجل الكريم. قيل له: "جفنة الركب"، لأنه كان مطعاماً يضع جفنته ويطعم الناس فيها، ومن يكون معه في ترحاله. فسميّ باسمها.

وكانت العرب تقول: السفر ميزان القوم، كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم. إذ يتبين الكريم من اللئيم في سفره. فاللئام إذا ما سافروا ضجروا، لخوفهم من تقديم ما عندهم إلى من هم دونهم من فقير ومحتاج، أما الكريم، فإنه لا يبالي في سفره فيعطي وينفق ويساعد من يسافر معه بما يجود به عليهم. فهو على عكس اللئيم فرحٌ بسفره هذا مستبشر.

وزعم الأخباريون إن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. ومعنى هذا انه أول من وضع الأرائك لراحة الناس في الجاهلية، ولعلّهم قصدوا أرائك وضعت، في الحرم لجلوس الناس عليها. كما ذكروا إن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي" و "أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بِن سعد بن سهم" وكانا يسقيان العسل بمكة، بعد سويد بن هرمي. وقد كان "عديّ بن نوفل" يسقي الحجيج اللبن والعسل على ما ذكره أهل الأخبار. وقد عدّت السقاية من مفاخر قريش.

وقد كان من عادة الأجواد إيقاد النار في الظلام ليراها الغريب والمحتاج، الجائع من مسافة بعيدة فيفد إليها، فيجد له من يقريه ويقدم له ما يحتاج إليه من طعام. ويقال لها "نار القرى" و "نار الضيافة". وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل. وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة، لتكون أشهر. حتى زعم إن منهم من كان يوقدها بالمندلي الرطب، ليهتدي إليها العميان، بشم رائحة الطيب التي تفوح منها عند الاحتراق. وهي من أجل الأعمال عند العرب. وقد ذكرت في الشعر الجاهلي.

ويعدّ الشتاء محكاً للأجواد ولكرام الأنفس. فالشتاء عدو الفقير، يؤلمه ببرده ويوجه بفقره ويضيف آلاماً على آلامه. فخيمته الممزقة البالية، لا تقيه من رياح ولا من مطر ولا من برد. والصيد يختفي ويقلّ، و الأعشاب تزول، فلا بحد الفقير أمامه سوى ما ادخره من قوت فيعيش عليه. فإذا أكله أو كان قليلاً، فليس أمامه من ملجأ سوى الاستجارة بأهل الجود والسخاء. ممن كان إذا جاء الشتاء ادنوا إليهم الناس و أطعموهم، فيقتلون بذلك جوع الشتاء. ولهذا عرف الواحد منهم ب "قاتل الشتاء".

وغاية الجود إن يجود الإنسان بأعز ماله لغبره، يقال: "انه لمنحار بوائكها، أي ينحر سمان الإبل"، وهو للمبالغة، يوصف للجود. فهو ليس من أولئك الذين يبخلون بمالهم العزيز، فينحرون الهزيل من الإبل، حرصاً على العزيز، بل يقدم أقصى ما عنده لضيوفه.

ويعد العرب "إقراء الضيف" و "الرفادة": "رفادة الحج" في جملة "ارث إبراهيم و إسماعيل. ويدخل أهل الأخبار في جملة هذا الإرث: تعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه وقمع الظالم ومنع المظلوم. فالكرم إذن من للسنن القديمة الموروثة عن سنة إبراهيم على أهل الأخبار.

ولا يعدّ الكريم كريماً إذا وهب ماله في سبيل غرض. فمن وهب المال لجلب نفع أو دفع ضرر أو خلاص من ذم فليس بكريم.

وبقال للعطيةّ الجزيلة "الدسيعة". ويقال للجواد، هو ضخم الدسيعة، أي كثير العطيّة. وقيل هي المائدة الكريمة والجفنة على سببل المجاز، لما عرف به الأجواد من تقدم الطعام للأضياف. ويقال للجواد المعطاء السيد الحمول: "الخضرم"، تشبيهاً بالبحر الخضرم وهو الكثير الماء.

وقد يعبر عن غاية الجود بقولهم: "هو جبان الكلب"، أي نهاية في الكرم وكثرته، لأنه لكثرة تردد الضيفان إليه يأنس كلبه فلا يهر أبداً. قال حسان ابن ثابت: يُغشون حتى ما تهر كلابهم  لا يسألون من السواد المقبل

ومن الجود والكرم: الرفادة. والرفد: العطاء و إعانة المحتاج. ومن ذلك ما فعلته قريش من "الرفادة"، حيث اتفقت إن بخرج كل إنسان مالاً بقدر طاقته، يشترون به للحاج الجُزر والطعام والزبيب للنبيذ، فيجمعون من ذلك مالاً عظيماً، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وذكر إن "هاشم بن عبد مناف"، كان أول من قام بالرفادة، و أول من هشم الثريد، وقد سُميّ هاشماً لهشمه الثريد.

وذكر علماء اللغة إن السخاء مراتب ثلاث: سحاء وجود و إيثار. فالسخاء إعطاء الأقل و إمساك الأكثر. والجود إعطاء الأكثر و إمساك الأقل، و الإيثار إعطاء الكل من غير إمساك. وهو اشرف درجات الكرم.

ويعبر عن السخاء ب "الندى". ويقال "هو الذي الكف"، إذا كان سخياً. و "طلحة الندى"، أي السخي الكريم.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق