إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 7 يناير 2016

864 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع و الأربعون الكرم


864

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
 
الفصل السابع و الأربعون

الكرم


ومن الأعراف عرف إكرام الضيف، وتقديم حق الضيافة له مهما كانت درجة تلك الضيافة ومنزلة المضيف. يقدم له ما يقدر عليه وما يتسع حاله له. والضيافة درس من الدروس التي لقنتها الطبيعة للإنسان أيضاً. لقنته إن الإنسان مهما كان فقيراً، عليه إن يقدم ما عنده لمن يأتيه من ضيف قريب أو غريب ليضيفه، إنقاذاً لحياته من قحط البادية ومن شحها. فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ مهما قبل فيها، لكنها قوارب النجاة أو جزر صغيرة في محيط واسع شاسع. لا يطمع الإنسان منها إلا في الاستراحة وإمضاء أمور سفره إلى الموضع الذي يريده، و إذا امتنع صاحب الخيمة عن أداء حق الضيافة، عرض حياة ضيفه للخطر، وعرّض حياته نفسه إلى ذلك الخطر، فلا بد إن تنزل به في يوم ما حاجة ما، ولا بد إن يقطع البادية مراراً في حياته بحثاً عن رزق، فإذا بخل ولم يضيف غيره، لم يستضيفه الآخرون فيقع في ضنك قد يكون به هلاكه وهلاك من معه.

والعرف إن الضيافة ثلاثة أيام و ثلاث ليال، فاذا انتهت المدة، سقط حق الضيافة من رقبة "المضيف" إلا إذا جددهاً، وزاد عليها. ويعبر عن منزلة. الضيف عند المضيف بجمل و تعابير تعبر عن ترحيب المضيف بضيفه، مثل جملة: "بيتي بيتك"، وعلى الضيف بالطبع إن يتأدب بأدب الضيافة، فيصون حرمة بيت مضيفه، فلا يسرق منه، ولا ينظر إلى العائلة بسوء وألا يقوم بأي عمل يخل بعرف الضيافة.

ونظراً إلى ما للمعابد من حرمات، اعتبر الوافدون عليها لزيارتها والتقرب. لأصنامها ضيوفاً لها، وعدّوا الذين يعتدون عليهم خارجين عن العرف مارقين، بالنسبة لمجتمعهم. فمن كان يفد إلى مكة يقال له "ضيف الله"، وقيل للحُجاج "ضيوف الكعبة"، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ومن وقع اعتداء عليه، يجد حتما من ببن أهل مكة من يدافع عنه.

والجود، وهو السخاء صفحة أخرى من صفحات الكرم. وهو إن يمطر الرجل غيره بمعروفه، وان يجود على غيره بما هو عنده. وقد بالغ بعضهم بجوده حتى ضرب به المثل. ومن هؤلاء حاتم الطائي. وهو "حاتم بن عبد الله ابن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عديّ بن أحزم" من قبيلة طيء.

وقد ضرب به المثل في الجود والسخاء، فقيل "أجود من حاتم"، ورووا عنه قصصاً كثيراً في الجود والسخاء، يرينا إن الجود فيه سجية، نبت فيه،مذ كان صغيراً، فقد روي انه اختلف مع والده، وهو صغير، لأنه فرق إبله وغنمه وكان يرعى بها على قوم مرّوا به، فيهم: عبَيد بن الأبرص، وبشر ابن أبي خازم، والنابغة الذبياني، فطرده أبوه، وقالَ له: إذن لا أساكنك بعدها أبداً ولا آويك، فقال حاتم: إذن لا أبالي.

ويذكر: انه كان إذا أبل شهر رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل، وأطعم الناس ؛ وانه كان يقول لغلامه يسار، إذا اشتد، البرد وكلب الشتاء: أوقد ناراً في بقاع من الأرض: لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيقصد نحوه. وكان يوقد نار القِرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس. وذكروا انه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي، إلى غير ذلك من أخبار في كرمه وسخائه.

يذكر عنه انه قسم ماله بضع عشرة مرّة؛ وانه مرّ في سفر له على بني عنزة ولهم أسير في القدّ، فاستغاث به، ولم يحضره فكاكه، ففاداه وخلاّه، وأقام مقامه في القدّ حتى أدي فداؤه. ورووا انه ذبح فرسه، ووزع لحمها على جيرانه، لأن امرأة كانت جارة له جاءت إليه مستغيثة به، تقول له: أتيتك من صبية يتعاوون من الجوع ولم يكن لديه ما يعطيها، فذبح فرسه، مع انه و عائلته كانوا جياعاً مثل صبيتها، فلما مانعت زوجته في ذبح فرسه، قال لها: إن هذا للُؤم إن تأكلوا وأهل الحيّ جياع.

وينسب أهل الأخبار إليه شعراً، في جملته قصيدة تتعلق بالكرم وبمكارم الأخلاق وبالحكم، وقد جمعوا من شعره ديواناً، وذكروا انه من الشعر البليغ الجيد.

وضرب المثل بجود " كعب بن مامة الإيادي". ويذكر أهل الأخبار انه هلك بسبب جوده، فقد مات عطشاً، لأنه أعطى الماء غيره، فمات هو من العطش. وقد فضله "الجاحظ" ورَجَّحه على "حاتم للطائي" في الجود. ذلك لأن حاتماً كان يجود على غيره بماله، أما "كعب"، فقد بذل النفس حتى أعطبه الكرم، وبذل المجهود في المال، فساوى حاتماً من هذا الوجه و باينه ببذل المهجة. فهو على رأيه فوقه في الكرم بمنازل و درجات. وذكر إن من عادة "كعب بن مامة" انه إذا جاوره رجل قام له بكل ما يصلحه وعياله، وحماه ممن يريد وان هلك له بعبر أو شاة أو عبد أخلف عليه، وان مات وداه، فجاوره "أبو دواد الإيادي"، الشاعر، فكان يفعل به ذلك ويزيد في برّه، فصارت العرب إذا حمدت جاراً بحسن جواره، قالوا: كجار أبي دُواد. وقد افتخرت به إياد. وعد من مفاخرها. وذكر "عبد الملك بن مروان" إياداً، فقال: هم أخطب الناس لمكان قس، و أسخى الناس لمكان كعب، ولشعر الناس لمكان أبي دواد، و أنكح الناس لمكان ابن الغز.

و "أوس بن حارثة بن لأم الطائي". يذكرون إن "النعمان بن المنذر" حباه حلة نفيسة بحضور وفود العرب من كل حيّ، وكانوا قد اجتمعوا عنده، فقال لهم: "إني ملبسٌ هذه الحلة أكرمكم" فألبسه النعمان الحلة. ويذكرون انه تمكن من الشاعر "بشر بن أبي خازم"، وكان "أوس" قد نذر لئن ظفر به ليْحرِقنَّه، لأنه أسرف في هجائه، حتى تجاسر فهجا أمه "سُعدى". فلما ظفر به، أشارت "سعدى" على "أوس" بأن يمنّ على بشر، فخلى سبيله وأكرمه وأحسن كسوته وحمله على نجيبه وحباه، فصار "بشر" يمدحه، ويذكر أهل الأخبار، إن أوساً وحاتما وفدا على "عمرو بن هند"، فأراد امتحانهما، والوقوف على رأي أحدهما في الآخر، فما انتقص واحد منهما الآخر. فقال عمرو: والله ما أدري أيكما أفضل! وما منكما إلا سيد كريم.

و "هرم بن سنان المُريّ"، من أجواد الجاهلية أيضاً. وهو سيد غطفان. وكان والده سيّد غطفان كذلك. وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم وقد كان هرم أعطاه مالا كثيراً. من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: "أجود من هرم". وقد أدركت بنت له أيام عمر فسألها عن أبيها وعن صلته بزهير.

قال "أبو عبيدة": "أجواد العرب ثلاثة: كعب بن مامة، وحاتم الطائي، وكلاهما ضُرب به المثل، وهرم بن سنان صاحب زهير".

وقد ضرب المثل بجود "عبد الله بن حبيب العنبري" فقيل: "أقرى من آكل الخبز". ذكر انهُ سميّ آكل الخبز، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن. وأكل الخبز ممدوح عند العرب. وهو عندهم من علامات الغنى والمال. وعرف "ثور بن شحمة العنبريّ" بالجود كذلك، وقد كان قومه "بنو العنبر" إذا افتخروا، قالوا: "مناّ آكل الخبز، ومنا مجير الطير". وقد عرف "ثور بن شحمة" ب "مجير الطير" لأنه كان يشفق على الطيور فيطعمها و يشبعها لجوده وكرمه.

واشتهر "عبد الله بن جُدعان" برده كذلك، وقد كان يسمى ب "حاسي الذهب"، لأنه كان يشرب في إناء من الذهب، وقيل: "أقرى من حاسي الذهب". وكان يجود على "أمية برت أبي الصلَّت"، ويقرِي أهل مكة ومن يأتي إليها، وله جفنة كبيرة يأكل منها الناس، ويصنع لهم "الفالوذج"، ولم يكن معروفاً قبله بمكة، فما كان بالعراق، أكله و استذوقه، وجاء منه بطبّاخ ليطبخ له "الفالوذج". وهو من "بني تيم". وكان ممن حرم الخمر على نفسه بعد إن كان بها مغرى، لما رأى فيها من ضرر و إسفاف يلحق بشاربها. وذكر انه لما كَبُرَ وهرِم، أراد قومه إن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فَكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشُد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل، أعطته بنو تيم من مال أبن جُدعان. وقد ضرب المثل بفالوذج ابن جُدعان في أطايب الأطعمة.

وقد عدّ في "مطعمي قريش"، وهم سادات قريش وأشرافها ممن كان يطعم الناس ويفتح بيته للضيوف، ولا يمنع جائعاً من دخول داره. كهاشم بن عبد مناف. وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب، إذا وقع في إحداها صبيّ غرق. فجرى بها المثل في العظم.

وللتعبير عن إسراف الأجواد في جودهم، وفي قراهم الضيوف، نعت أحدهم ب "مطعم الطير" كناية عن كرمهم، وعن كثرة طعامهم المهيأ، حتى كانت الطيور تشارك الضيوف في أكل الزاد، وهو كثير. وقد نعت "حسان ابن ثابت" عمه "خالد بن زيد" المعروف ب "ابن هند"، وهِو من "بني النجّار"، ب "مطعم الطير"، كناية عن انه كان ينحر الإبل للأضياف، فيأكل منها الناس والطير. ونعتت "ليلى بنت الخطيم بن عديّ بن عمرو"، وهي أخت الشاعر "قيس بن الخطيم" أباها بأنه "مَطعم الطير ومباري الريح"، و ذلك أمام الرسول.

ومن الأجواد من كان يجود في أوقات الشدة والحاجة بصورة خاصة، في مثل حلول الجدب. وقد عرف نفر من العرب ب "مطاعيم الريح"، وذلك لأنهم كانوا يطعمون إذا هبت ريح الصبا، لأنها لا تهب إلا في جدب، فمدحوا. ومن هؤلاء: "كنانة بن عبد يا ليل الثقفي". عم أبي مِحْجَن. وزعم "ابن الأعرابي" إن "مطاعم الريح"، هم أربعة. منهم: كنانة ابن عبد يا ليل الثقفي المذكور و "لبيد بن ربيعة".

ويقال للرجل الذي بهتز للمعروف والعطية "الأريحي"، وهو السحي. و "الأريحية" السخاء.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق