856
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع و الأربعون
المستضعفون من الناس
والمستضعفون من الناس، كثيرون، وقد نظر إليهم مجتمعهم نظرة ازدراء واستهجان، و اعتدّهم من الطبقات الدنيا. إما لفقرهم وضيق ذات يدهم، ومنهم الفقراء والصعاليك والمحتاجون وأبناء السبيل، و أما لطيشهم وخروجهم من مجتمعهم، ومنهم الطريد والضالّ والخليع، و أما لانشغالهم بحرف يدوية، وهي حرف لا تليق بالرجل الكريم، ولا سيما الحرف الدنيا مثل الحلاقة والحجامة والحمالة وأمثالها، و أما من ناحية أصلهم، مثل إن يكونوا عبيداً أو عبيداً مملوكين.
ولاستصغارهم شأن الحرف اليدوية، لم يقبل عليها الأحرار و أبناء البيوت، إلا من اضطرته الفاقة و وجد إلا سبيل له إلى العيش إلا بالاشتغال بها، فانصرف إليها صاغراً. وهذا كان اكبر أصحاب الأعمال اليدوية من الرقيق والأعاجم واليهود. و إذا أخذنا بروايات أهل الأخبار نجد إن عدد أصحاب الحرف اليدوية كان قليلاً جداً، فلم يكن في مكة مثلا أحد من النجارين البارعين على ما يفهم من رواياتهم كروايتهم عن إعادة بناء الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، أو كانوا قلة يعدّون عداً. وكذلك يقال عن بقية الحرف، و يقال مثل ذلك عن يثرب. ولا استبعد إن تكون في روايات أهل الأخبار مبالغات، ولكننا لا نستطيع نكران ازدراء العرب للحرف والصناعات.
وكانوا يعيرون من يتزوج من ابنة صائغ أو حداد أو نجار، ويعرون نسله، ولا سيما إذا كان من بيت رفيع. وقد وجد أعداء "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة وحساده في أمه "سلمى" التي قيل إنها ابنة قين أو صائغ يهودي، سبباً قوياً من أسباب استهزائهم به والاستصغار لشأنه. أما الحرفي، أي الذي يشتغل بالحرف اليدوية، فلم يكن من السهل عليه التزوج من بنات الأحرار، لما قد تتعرض له أسر البنات من تعيير وسبّة وإهانة بين الناس، بتزويجهم ابنة حرة لشخص وضيع مستصغر.
وأدنى المتعيشين بالحرف منزلة، الحلاقون والحجامون والحمالون، ثم أولئك الذين يعيشون على تلهية الناس، مثل سائس قرد، وهو الشخص الذي يربي القردة ويعلمها القيام ببعض الألعاب لتسلية المتفرجين وإضحاكهم في مقابل صدقة يقدمونها لقردته وله، ومثل أناس آخرون يربون حيوانات أخرى للغرض نفسه، أو يتخذون لهم مهنة إضحاك الناس عليهم لدر عطفهم والجود عليهم، ومثل المخنثون والمغنون المطربون.
وقد عرف المعدمون المتربون، وهم الدين لا يملكون شيئاً ب "بني غبراء"، للزقهم بغبراء الأرض، ويقال لهم " الصعاليك" أيضاً، وقد ذكرت قبل قليل ورود لفظة "غبر" في الكتابات القتبانية، وان لها صلة ب "غبراء الناس" وب "بني غبراء" في عربيتنا. وقد تكون لهذا المصطلح صلة بمصطلح اختلف علماء التوراة في المراد منه، هو مصطلح "عم ه - ارز"، أي "ناس الأرض" "أهل الأرض"، فقد ذهب بعض العلماء إلى إنها تعني طبقة وضيعة من سواد الناس، أو "الفلاحين" الذين يعيشون على استغلال الأرض.
ونعت الخادم الذي يخدم بطعام بطنه "بالعضروط"، وهو الصعلوك، والعضاريط الصعاليك. وتعهد إلى العضروط مختلف الخدمات، مثل العناية بالراحلة وأداء أي عمل آخر يقوم به في قابل طعام بطنه. و يقال للعضروط: اللعُموظ، وهو الذي يخدم بطنه. و "العضارِط" الأجراء.
و "الخول" العبيد والخدم، ويقال: القوم خول فلان، أي أتباعه؛ وهم حشم الرجل وأتباعه. ويقع على العبد والأمَة فهم إذن الأتباع المغلوبون على أمرهم الخاضعون لحكم المتحكمين في رقابهم من السادة.
والمملوك خلاف الحر، والرقيق: المملوك واحد وجمع. والرقيق العبد. ورَقَّ صار في عبودية. والعبد: المملوك خلاف الحر. ونجد لعلماء اللغة تفاسير كثيرة لمعنى "العبد"، والرقيق، وفي مدى حرية كل واحد منها. وقد استعملت لفظة "العبد" للدلالة على معان مجازية، ومعان حقيقية. فقد قصد بها الخضوع والتذلل، ولهذا نهي عن استعمالها بهذا المعنى في الإسلام، فورد: "لا يقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتَي، وليقل: فتاي وفتاتي". وقصد بها أيضاً العبودية الحقيقية.
ولفظة "عبد" و "العبد" لفظة عامة في الأصل، وقد وردت بهذا المعنى في أكثر اللغات السامية، فاستعملت في معانٍ مجازية وفي معان حقيقية، ولم تكن تعني شخصاً مملوكاً بالمعنى الحقيقي من لفظة "مملوك" بالضرورة. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا، مثل: "ومن هو?إنما هو عبد من عبيدي"، و "أنت عبد من عبيدي"، وذلك تعبيراً عن ازدراء شخص لشخص آخر، واستصغاراً لشأنه، لأنه جعله في منزلة خدمه وعبيده.
واستعملوا لفظة: "عبد" و "العبد" بالمعنى الحقيقي الخاص بالعبودية، وقصدوا بها "مملوكاً"، فقالوا: "كان عبداً روميّاً"، وقالوا: "كان عبداً حبشياً"، فقصدوا بها "مملوكاً" كائناً ما كان لونه، أو جنسه والظاهر إن المتأخرين قد غلَّبوا استعمالها على العبيد والسُّود، فأطلقوها عليهم من غير ذكر صفتهم، وعنوا بها الرقيق الأسود حَسْبُ.
وقد ذكر بعض علماء اللغة إن "العبد" إذا ملك ولم يملك أبواه، أو الذي سبي، ولم يُملك أبواه. وقالوا: هم عبيد مملكة، وهو إن يغلب عليهم ويسُتعبدوا وهم أحرار. وفي الحديث: "إن الأشعث بن قيس خادم أهل نجران إلى عمر في رقابهم، وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا، أبوا عليه، فقالوا: يا أمر المؤمنين إنا إنما كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن. أي إن يغلب عليهم فيستعبدهم وهم في الأصل أحرار.
وذكر علماء للعربية إن القن: العبد الذي مُلك هو و أبواه، ران العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع إن يخرج عنك. وعبد قن خالص العبودة. فالقن إِذن، هو العبد المملوك، الذي تنقل إليه العبودية عن أبيه. وقد أسلفت إن هذه اللفظة وردت في لغة المسند، و إنها كانت تعني هذا المعنى عندهم أيضاً. ويشبه العبد القن، العبد الذي يقال له "CERF" عند الرومان. و لا القين": العبد والجمع قيان.
ويعبر عن العبد بلفظة "مولى" أيضاً، ويراد نجها المعتق كذلك. وتؤدي معاني اجتماعية أخرى ذكرها علماء اللغة منها: الحليف، والعقيد، والربّ والمالك، والسيد. ويتبن معناها من الاستعمال. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى من جزيرة العرب عدد كبير من الموالي.
والعبيد هم حاصل الحروب. فإذا وقع إنسان أسيراً في غزو أو حرب صار ملكاً لآسره، إن شاء مَنّ عليه ففك رقبته، وان شاء ملكه فصار عبداً له. يحتفظ به لنفسه إن أراد، أو أن يهديه لغيره فيصير في ملك من أهدي له، أو إن يبيعه، فيقبض ثمنه، فتنتقل ملكية العبد إلى شاريه. فالسباء هو مصدر مهم من مصادر الرقيق.
ومورد آخر أمد الجاهليين بالعبيد، هو التجارة: تجارة العبيد. وقد اختص بها قوم عرفوا بالنخاسين. يأتون بالرقيق من مختلف الأماكن ويبيعونه. وكانت تجارة رابحة.
ومن العبيد، قوم كانوا مدينون فلم يتمكنوا من سداد ديونهم فبيعوا رقيقاً. ومنهم من صار رقيقاً لعدم تمكنه من دفع مال يجب عليه تأديته. كالذي روي من تقامر أبي لهب و العاص بن هشام، على إن من قمر صار عبداً لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه ابله.
ويكون عدد ما بملكه الإنسان من الرقيق إمارة علي الغنى والمنزلة والجاه والقوة. هم قوة لأنهم عُدّة لسيدهم في القتال وفي الدفاع عنه حتى وان كرهوه. وهم خدم له يؤدون له كل ما يطليه منهم من أعمال، ولا يخلو منهم بيت. وذكر إن بعض السادات كان يملك المئات من العبيد فلما وفد "ذو الكلاع ملك حمير" على أبي بكر "ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته وعليه التاج، وما وصفنا من البرود و الحلل".
وكان كثير من ملاك الرقيق ذوو قلوب غلاط، لا يرحمون عبيدهم ولا يرفقون بهم. و إذا شهد العبد غزواً أو حرباً وغنم فلا يعطى حقه له. ويؤخذ سهمه ويعطى إلى سيده. ولم يكونوا يثقون بأمانة رقيقهم لذلك حقد العبيد على سادتهم، وانضموا إلى أعدائهم إن وجدوا فرصة مؤاتية لهم أملاً منهم بإصلاح الحال. ولما حاصر الرسول الطائف نادى مناديه: "أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسولهِ" فنزل جمع منهم وأسلموا وصاروا أحراراً.
ويذكر علماء اللغة طبقة سمّوها "القطن"، وهم في عرفهم تبّاع الملك ومماليكه، والخدم والأتباع. وقالوا أيضاً: إن القطين تبع الرجل، ومماليكه، وخدمه.
ويقال للرعية من الناس "السُّوقة" سمّوا بذلك لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم. و أما "سواد الناس"، فعامتهم.
وكل من ذكرت من الطبقات الدنيا هم " سوقة" أو "عوام"، و "سواد".
ويقال للأخلاط والسفلة من الناس: الأوباش. وهم مثل الأوشاب. و أما الأشابة فأخلاط الناس تجتمع من كل أوب و التأشب التجمع. ويقال: أوباش من الناس و أوشاب. وهم الضروب المتفرقون.
ويذكر علماء اللغة إن أهل اليمن يطلقون على المستضعفين من الناس "مستخمرون". و "المستخمرون" هم الجيران الضعفاء. من "اخمره الشيء"، بمعنى أعطاه إياه أو ملكه بلغة اليمن.
ويقال لأوغاد الناس و أرذاَلهم "الطغام" و "الطغامة". وذكر إن "طغامة" و "دغامة" الأحمق. وورد "باطاسة الأحلام"، بمعنى من لا عقل له ولا معرفة، وقبل: هم أوغاد الناس و أسافلهم.
وعرف أوغاد الناس ب "أولاد درزة". وذكر إن أولاد درزة: السفلة والسقاط والغوغاء من الناس، كذلك أولاد ترنى. و "أولاد درزة" أيضاً الخياطون. ويقال: أولاد درزة هم الحاكة، وهم من أسافل الناس، كما صرح به المفسرون في قوله تعالى: واتبعك الأرذلون. وابن درزة الدعي، أو ابن أمة تُساعي، فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق