846
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع و الأربعون
الناس منازل و درجات
وأهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن: أحرار و عبيد، يستوي في ذلك الأعرابيّ وأهل المدر. والحرّ نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة. والحرّ هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء. و أما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له إن يفعل شيئاً من غير رضا سيده ومالك رقبته. و يعبر عن الحر بلفظة "حرم" في المسند، فيقال: "حرم"، أي "حرّ". والجمع "أحرر"، أي "أحرار".
والجاهليون وان بدوا "دمقراطيين" شعبيين، لا فرق عندهم بين حر وعبد، كبير أو صغير. يخاطب الفقير ملكه أو سيد قبيلته بلهجة بسيطة تنم عن "دمقراطية" عميقة أصيلة. إلا انهم في الواقع طبقيون يعاملون الناس حسب منازلهم و درجاتهم، ويعملون بمبدأ عدم التكافؤ بين الناس. وآية ذلك عُرف جلوس الناس في مجالس الملوك والمجتمعات، وعرفي تقديم الطعام أو الشراب مبتدئين بالملك ثم بمن يجلس على جانبه الأيمن باعتبار انه أشرف القوم ثم بالجالس على الجانب الأيسر من الملك، على ترتيب الناس في درجات جلوسهم أو حسب إشارة الملك إلى السافي أو مقدم الطعام. ثم في نظرتهم إلى "الحق" و إلى الأعراف الاجتماعية كالأخذ بالثأر والزواج. فلهم في الأخذ بالثأر مبدأ مقرر معروف. هو إن القتيل إذا كان شريفاً في قومه، وكان قاتله وضيعاً صعلوكا، أو عبداً فلا يقبل أهل القتيل ب "القوَد"، بل بعرف تكافؤ الدم. فعندهم إن دم القتيل الشريف، لا يغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا إن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئاً للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر. وقد يكون المقتول وهو ما يحدث في الغالب بريئاً ولا علاقة له بالقتيل ولا القاتل. ولكن العرف القائم على نظرية التكافؤ بين الطبقات، لا يفهم براءة بريء، وحق قتل القاتل وحده، بل يدين بعقيدة إن الدم لا يغسل إلا بدم مواز له، فلا بد من قتل شريف بشريف إذن حتى ينام أهل القتيل.
والى ما تقدم من الإسراف في القتل وقتل البريء بدم مقتول، أشير في القرآن الكريم: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قتل مظلوماً، فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل(. "وذلك إن أهل الجاهلية، كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلاً عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده، وقال لرسوله، عليه السلام، قتل غير القائل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله. وان قتلت القاتل بالمقتول، فلا تمثل به".
وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا تقييم أثمان الديات، أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أعلى ما دفع ثمناً عن دم. إذ جعلت دية الملك ألفاً من الإبل، شرفت لذلك بدية الملك. تليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم حسب الشرف والمنزلة حتى تصل إلى ديات المغمورين المطمورين فتكون أقلها ثمناً. إذ تبلغ خمساً من الإبل، وقد تنقص في ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على "الفوقية" و "التحتية"، قدرت فدية الأسرى أيضاً. ففدية الملوك الذين يقعون في أسر آسر ألف من الإبل، وعرفت ب "فدية الملوك" وفدية من هم دونهم أقل حتى تصل إلى أبخس ثمن، وهي فدية سواد الناس. ولهذا حرص الأسير الشريف الذي لا يعرفه آسره على اخفاء شخصيته وعلى التظاهر بالإملاق وبأنه من المغمورين ليجنب نفسه دفع فدية عالية قد يفرضها آسره عليه، فتوجعه ولؤلمه.
ومن هذه النظرة أيضاً ولد اعتقاد أهل الجاهلية إن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب. فإذا كُلب إنسان أتوا رجلاً شريفاً فيقطر لهم من دم إصبعه فيسقون المكَلوب فيبرأ. أو يسقونه من دم ملك فيشفى. جاء في المثل: دماء الملوك شفاء الكلب. ودماء الملوك أشفى من الكلب. قال أهل الأخبار عن الكلب: "وأجمعت العرب إن دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه"، فيشفى بذلك من الكلب. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد في اشفاء دماء الملوك والأشراف لمن يصاب بالكلب. وبعدم شفاء دم غيرهم لهؤلاء المرضى.
ومن هذه النظرة أيضاً، تولد امتناعهم من تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة. وهو عرف يراعونه ويحافظون عليه إلى يومنا هذا. ويزدرون من شأن الخارج على "التكافؤ" بين البنت والولد في الزواج. وقد يرفضون تزويج رجل ثري مكتنز للمال، من امرأة فقيرة شريفة الأصل، إذا كان الرجل من أصل ذابل، كأن يكون أبوه أوجده "صانعاً" أو "خضاراً"، لأن الأصل في نظر العرب فوق المال. والشريفة يجب ألا تزوج إلا من شريف مثلها، مراعاة منهم لمبدأ نقاوة الأصل وانجاب الأولاد النجباء. و من هذه النظرة امتنع العرب من تزويج بناتهم من الأعاجم حتى لو كان ذلك الأعجمي ملكاً. وقد رأينا كيف إن "النعمان بن المنذر"، رد طلب "كسرى" لما طلب منه تزويجه إحدى بناته من أحد أبنائه. وشقَّ ذلك عليه حتى انه لم يمالك من ضبط نفسه، ففال للرسول: أما في عين السواد وفارس ما تبغون حاجتكم. ومراده من لفظة "عين" البقر. ومن اغتنام "زيد بن عديّ بن زيد العبادي" هذه الفرصة، وكان هو الذي اقترح على "كسرى" إن يزوج أحد ولده من بنات النعمان، فقال لكسرى: "قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وان ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياشر، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرنجك هذه حتى انهم ليسمونها السجن". ومن قوله له: "أيها الملك: إن شر شيء في العرب وفي النعمان انهم يتكرمون عن العجم". فكان ما كان من غضب "كسرى" على النعمان ومن القضاء عليه على النحو الذي تحدثت عنه.
وقد جعل بعض العلماء تخوف العرب من القهر. عليهم و من طمع غير الأكفاء في بناتهم، في جملة العوامل التي حملتهم على وأد البنات. "قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدّهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن". ومن شروط الكفاءة في الزواج عند الجاهليين، التكافؤ في النسب والحسب والمكانة وفي الأصل.
وسبب امتناع العربي من تزويج ابنته إلى أعجمي، هو تكرم العرب عن الأعاجم واستعلاؤهم جمليهم. ونظرتهم إلى الأعاجم على انهم دونهم في المنزلة والكرامة. لذلك رأوا إن تزويج بنت عربية إلى علج أعجميّ، خسة ما بعدها خسّة ودناءة ما وراءها دناءة. حتى وان كان العربي فقيراً لا يملك شيئاً. بل اعابوا العربي الذي يتزوج اعجمية بسبب النسل، واستصغروا شأن المولود من أب عربيّ ومن أم أعجمية. فهو وان كان عربياً في عرف العرب من اجل إن النسبَ إلى الأب، ولكنه أعجميّ من ناحية الأم، فهو دون الأصيل في المرتبة.
وفي غنى العربية بالمصطلحات الكثيرة التي تطلق على السادة والأشراف وعلى الفقراء. و المعدمين الترِبين وعلى الطبقات الأخرى، دلالة ليس فوقها دلالة على وجود هذه النظرة الطَبقية عندهم، وعلى نظرتهم إلى أنفسهم على انهم منازل ودرجات، وانهم غير متكافئين. وان القيادة في المجتمع يجب إن تكون للبيوت.
ثم إن الأحرار على منازل ودرجات. وهم متفاوتون من حيث الشرف والمال. ويظهر التفاوت بين أهل المَدَر أكثر مما يظهر بين أهل الوبر، ذلك لأن الأعرابي فخور بنفسه، يرى انه "شريف" مثل غيره نبيل وان قل ماله وشح. ثم إن التفاوت بين الطبقات لا يمكن إن يظهر في البادية ظهوره بين الضواحي والقرى، لأن طبيعة البادية لا تساعد على ظهور ذلك التباين، حتى إن عبيد الأعراب لم يكونوا يكوّنون طبقة خاصة مضطهدة، ينطر إليها نظرة أهل القرى بازدراء، بل كانوا يعدون في البادية كأعضاء من أعضاء الأسرة.
والتباين الطبقي هو على ما أوضح ما يكون في اليمن، لأن الطبيعة قد حبت أرض اليمن خيرات وجوّاً لم تحبُ المناطق الأخرى من جزيرة العلاب مثلها، فكانت نتيجة ذلك ظهور الاقطاع فيها، واشتدت الحاجة إلى شراء الرقيق واستجلابه لإستغلال التربة واستثمار خيرات الأرض وتشغيله في المهن الوضيعة، وظهر في اليمن أغنياء ومتوسطو حال وفقراء معدمون، أي طبقات اجتماعية كونت ذلك المجتمع بشكل واضح لا نراه في المجتمعات العربية الأخرى، أشير اليهم في الكتابات.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق