832
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والأربعون
من أعراف للعرب
وللأعراب بصورة خاصة أعراف أوجبت الطبيعة عليهم إطاعتها والعمل بها لأن في تنفيذها مصلحة الجميع، وفي الخروج عليها ضرراً بالغاً. من ذلك وجوب الأخذ بالثاًر، والبحث عن القاتل لقتله مهما طال الزمن، لان "الدم لا يغسل إلا بالدم". وقد أملت طبيعة المحيط الذي يعيش فيه العرب عليهم هذا العرف. فليس في البادية من يحول بين قتل الناس بعضهم بعضاً إلا الأخذ بالثأر، و قيام أهل القتيل والعصبية بالأخذ بدمه. ولولا الخوف من الأخذ بالثأر لَعَمَّ القتل الحياة: فالحياة في البوادي وفي أكثر أنحاء جزيرة العرب شدة ومحنة و فقر وقسوة. وليس في البادية أي خير كان مما يستمتع به أهل الحواضر، ولا سيما تلك التي امتازت بوفرة الماء فيها و بحسن جوّها واعتداله. لذلك صارت حياة الأعراب ضنكاً في العيش وفقراً مُرّاً، وصار كل شيء تقع عليه عين الأعرابي ذا قيمة وفائدة عنده مهما كان تافهاً، فيريد الاستيلاء عليه وسلبه من صاحبه، لأنه محتاج إليه وفقير، ويرى إن من حقه إن يستولي على كل ما يراه عند من هو أضعف منه، وان أدى ذلك إلى إزهاق حياته. ولكن الطبيعة التي علمت الأعرابي هذا المنطق و درّسته هذا الدرس درّسته في الوقت نفسه إن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل، يؤذيه ويهلكه، وانه لاُ بد له من الحدّ من غلوائه ومن أعدائه على غيره، ووضعت له حدوداً و قيوداً من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر، وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سنناً متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة، ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية.
والقاعدة عند العرب إن الدم - كما سبق إن قلت - لا يغسل إلا بالدم، وان تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة و ذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلاً يقبلون إلا بالقصاص وبأخذ الثأر، وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامًة الناس أو من عبيدهم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصاً منه، إذ انه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على إن يكون مكافئاً للقتيل، حتى يغسل الدم. وان كان ذلك السيد بعيداً عن القاتل ولا صلة له به. فالسيِّد سيّد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعلّ الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة أو غيرهم، ممن قد يحرضون العبيد أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم. فإذا عرفوا إن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سفكة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم، وبذلك ينظفون المجتمع منهم، و يخلصون الناس من سفاكي السماء.
والأصل في القتل: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. فيطالب أهل المقتول
بالقوَد وهو قتل النفس بالنفس. وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمداً، فهو قود". و إذا لم يتم، القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فرّ القائل، فلا بد من الأخذ بالثأر. ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ يثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبّات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزوّن شعورهم، ولا يأكلون لحماً، ولا يميلون إلى ضحك ولا سماع دعاية ولا إلى الاستراحة، حتى ينالوا منالهم من الأخذ بثأر القتيل. كالذي روي في قصة طلب امرئ القيس الكندي ثأر أبيه من بني أسد. وقد آلى على نفسه إن لا يمس رأسه غسل ولا يشرب خمراً حتى يثأر بأبيه. فلما ظفر ببني أسد قَتَلَتهَ وأدركّ ثأره حلّ له ما حرم على نفسه. وكالذَي روي في قصة طلب قيس بن الخطيم ثأر أبيه أو عن "يوم الأقطانيين"، إذ أقسموا إلا يغسلوا أجسامهم حتى يأخذوا بثأرهم.
وقد يستغرق طلب الأخذ بالثأر.عشرات السنين، لا يكلّ في خلال هذه المدة أصحاب القتيل عن إدراك الثأر. وينظر إلى الذين يتوانون عن إدراك الثأر نظرة ازدراء واحتقار، وقد يلحق بهم وبنسلهم العار من هذا الإهمال، وقد يلحق ذلك العشيرة أو القبيلة برمتها ويكون لهاُ سبّة، إذا كان القتيل من أشرافها أو من سادتها. لهذا لا يتهاون أهل القتيل عن تتبع آثار القاتل أو أقربائه أو أفراد قبيلته التي ينتمي. إليها لغسل هذا العار، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم.
ومتى أدرك أهل الثأر ثأرهم، ووجدوا المقتول كفؤاً لدم القتيل ورضوا عن ذلك، قالوا هذا النوع من الثأر "الثأر المنيم". وقد عرفه بعضهم: أنه الذي إذا أصابه الطالب رضى به فنام بعده. وقيل هو الذي يكون كفؤاً لدم وليّك. ويقال أدرك فلان ثأراً منيّماً، إذا قل نبيلاً فيه وفاءٌ لطلبته، وكذلك أصاب الثأر المنيم. قال أبو جندب الهذلي: دعوا مولى نفائة ثم قالوا: لعلك لست بالثأر المنـيم
أي لست بالذي ينيم صاحبه، أي إن قتلتك لم أنم حتى أقتل غيرك، أي لست بالكفؤ فأنام بعد قتلك.
ومتى أخذ بثأر القتيل بكته النساء. لأن من عادة نساء الجاهليين ألا يبكين المقتول إلا إن يدرَ ك بثأره، و إذا أدرك بثأره، بكين.
ويشبه الثأر إن يكون عقيدة من العقائد الدينية عند العرب. لما يكتنفه أحياناً من "حلف" و "قسم" بوجوب الأخذ بالثأر. ولما تحوط به من شعائر يحافظ عليها، من أخذ على نفسه القسم بوجوب الأخذ بالثأر. وهي من شعائر الدين عند الجاهلين. ولا يتركها حتى يبر بقسمه.
و إذا عجز الإنسان عن أخذ ثأره بنفسه، استغاث بغيره لينجده على ثأره. و على من قبل نداء الاستغاثة ووافق على النجدة، مساعدة المستغيث في الأخذ بالثأر وعدم تركه حتى يأخذ بثأره من طلبته.
وقد لعب الأخذ بالثأر دوراً خطيراً في الإسلام كذلك. ولا سيما في الأحداث السياسية. فلما قتل "عثمان" ارتفع نداء: يا لثارات عمان. قال حسان: لتسمعن وشيكاً في ديارهم الله أكبر يا ثارات عثمانا
ومن ذلك قولهم: "يا لثارات الحسين"، و "يا لثارات زيد" إلى غير ذلك. وهو لا يزال يلعب دوراً خطيراً في الحياة العربية إلى اليوم.
وقد عير أحد الشعراء "بني وهب"، لأنهم أخذوا دية قتيل، فاشتروا بها نخلاً، فقال لهم: إلا أبلغ بني وهب رسولا بأن التمر حلو في الشتاء
أي اقعدوا وكلوا التمر ولا تطلبوا بثأركم.
وهناك رجالُ ضرب بهم المثل في إدراكهم الثأر. ويقال للواحد من هؤلاء: البيهس.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق