إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 5 يناير 2016

815 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون النسب


815

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

النسب


النسب هو جرثومة العصبية وأساسها ولهذا حرص العربي على حفظ نسبه، ولا يزال يحرص عليه، فيروي لك شجرة نسبه حفظاً ويرفعها إلى جملة أجداد.

وقد وجد السياح أعراباً سرحوا لهم نسبهم سرداً من غير كتاب مكتوب إلى عشرات من الأجداد، وقد تأكدوا بعد فحوص واختبارات إن ما قيل لهم وسرد عليهم كان صحيحاً في الغالب.

و أما أهل المدر، فإن حرصهم على حفظ نسبهم، وإن لم يكن حرص أهل الوبر، غير إن فيهم من يحفظ شجرة نسبه، و فيهم من يحتفظ بها مكتوبة، وقت شهد على صحتها جماعة من النسابين. وفي جملة من يعتني بنسبه اعتناء كبيراً، ويأبى الزواج من غير الأسر الكفوءة له، السادة المنتمون إلى الرسول، من ذوي الجاه و الحسب والنسب، والأشراف السادات من أهل الحضر والوبر.

وحفظ النسب هذا هو استمرار لما كان عليه الجاهليون من حرص على حفظ أنسابهم. و إذا كُنا لا نملك اليوم جرائد جاهلية في النسب، فإن في بعض الكتابات الجاهلية تأييداً لما نقول. فبين أيدينا في هذا اليوم كتابات جاهلية ذكرت أسماء جملة أجداد لأشخاص دَوّنوا أسمائهم في تلك الكتابات. وقد دوّن على شاهد قبر "معنو" "معن"، اسم أبيه وجدّين من أجداده، كما عثر على أسماء عشرة أجداد في بعض الكتابات الصفوية. وهنالك أمثلة أخرى من هذا القبيل، تثبت عناية العرب في الجاهلية بتدوين أنسابهم وحفظها. وهي من أهم المزايا التي حافظ عليها العرب إلى هذا اليوم.

ويبدأ النسب بالأب في الغالب، وب "الأم" في الأقل في حالات تتغلب فيها شهرة الأم على شهرة الأب، ويكون "البيت" إذنْ جرثومة النسب. وحين ينسب إنسان يقول انه: "ابن فلان". ويشمل نسب البيت الأب و الأولاد و البنات والزوجة أو الزوجات، وهم أكثر الناس التصاقاً بالأب. وقد يقال انه من "بيت فلان" تعبيراً عن الانتساب إلى رئيس ذلك البيت. وقد عرف بعض علماء اللغة النسب: انه القرابة، أو هو في الآباء خاصة، وان النسب إن تذكر الرجل فتقول: هو فلان ابن فلان، وذكر انه يكون من قبل الأم والأب.

والبيت هو بيت أب. ولما كان المجتمع مجتمع بيوت، صار النظام فيه نظاماً أبوياً. السلطة العليا فيه للاب، إليه ينتسب وهو المسؤول قانوناً عن العائلة. يتساوى في ذلك مجتمع الحضر ومجتمع أهل الوبر.

ويذكر أهل الأخبار إن العرب تنسب ولد المرأة إلى زوجها الذي يخلف عليها بعد أبيهم. وذلك عنى حسان بن ثابت بقوله: ضربوا علياً يوم بدر ضربة  دانت لوقعتها جميع نزار.

أراد بني كلّ هؤلاء من كنانة. وهم بنو عبد مناة. و إنما قيل لهم بنو علي عزوة إلى عليّ بن مسعود الأزدي. وهو أخو عبد مناة لأمه، فخلف على أم ولد عبد مناة. وهم: بكر وعامر ومرة و أمهم: هند بنت بكر بن وائل النزارية فرباهم في حجره فنسبوا إليه.

و إذا توفي والد وله مولود في بطن زوجته، أو كان طفلاً رضيعاً وكان له أعمام، تركه أعمامه عند أمه حتى يكبر، ثم يأخذه أعمامه. وقد تأتي أمه معه. و لكن العادة إن الأم تبعُ أهلها أي عشيرتها، فإذا توفي زوجها و هي من عشيرة أخرى، تركت عشيرته لتعود إلى عشيرتها، فإذا كبر المولودُ خير بين البقاء مع أمه أو الالتحاق بأعمامه، أي بعشيرة والده. والأغلب إن يختار الولد عشيرة الوالد، لأن نسب الولد من نسب والده. فيلتحق المولود بعشيرة الأب. وتقدم عشيرته على عشيرة الأم. إذ يشعر إن عشيرة أمه وان كانت قريبة منه، إلا إن قربه منها ليس كقربه من عشيرة والده، وقد يعير باختياره عشرة أمه عشيرة له. ولدينا أمثلة تشير إلى تعيير الأولاد أولاداً آخرين، لالتحافهّم بعشيرة أمهم وتركهم عشيرة والدهم، كالذي كان، من أمر عبد المطل في يوم كان طفلا، إذ عيره أطفال عشيرة أمه بلجوئه إلى عشيرتهم، إذ لا عشيرة له. ولو كانت له عشيرة للحق بها. مما حمله على ترك يثرب والرجوع إلى أعمامه بمكة. فالعم في نظرهم بمنزلة الوالد. وهو اقرب الناس إليه، وهو وريثه في العصبات.. وبهذه الحجة احتج العباسيون على العلويين في تقدمهم عليهم بحق الخلافة.

ومن هنا في العرب يوصون بأولاد العم خيراً، و إلا يتهاتروا معهم ولا يختلفوا مهما وقع بينهم من خلاف. وفي هذا المعنى يقول أبو الطمحان: إذا كان في صدر ابن عمك إحنة  فلا تستثرها سوف يبدو دفينهـا

وللخؤولة مكانة كبيرة في العصبة عند العرب. قد تقوى على العمومة، فإذا هلك إنسان، وكان إخوته على خلاف مع زوجته أو كان حالهم ضعيفاً، قامت الخؤولة مقام العمومة في رعاية الأولاد وحمايتهم ومدّهم بالعصبية. بل قد نجد إن عصبية الخؤولة أقوى عند العرب في الغالب من عصبية العمومة وفي تأريخ الجاهلية. والإسلام أمثلة كثيرة على ذلك.

ومن حسن حظ الإنسان في الجاهلية إن يكون له أعمام وأخوال كثيرون، خاصة إذا كانوا أصحاب جاه وسيادة. لأنه سيعتز بهم، ويفتخر بكثرتهم. وكان الجاهليون يقولون: رجل معم ورجل مخوِل وأخول، إذا كان له أعمام وأخوال. ويقال: كريم الأعمام والأخوال، على سبيل المدح والتقدير ومنه قول امرئ القيس: بجيدُ معمّ في العشرة مخول. وقول الشاعر: تروح بالعشيّ بكل خرق  كريم الأعممين وكل خال

والنسب، نسب أهل، ويقوم على الدم القريب، ونسب قبيلة، و يقوم على العصبية للدم الأبعد. دم جد القبيلة يجري في عروق المنتسبين إليه.

والعرب من حيث النسب صرحاء. وحلفاء و جيران وموالي وشركاء يستلحقون بالنسب. أما الصريح، فهو المحض من كل شيء، والخالص النسب. ويقال جاء بنو فلان صريحة إذا لم يخالطهم غيرهم.

والنسب إذن، نسب آباء، و هو نسب الصرحاء الخلص من العرب المنحدرين من صلب جد القبيلة، على حد تعبير أهل الأنساب، ونسب حلف أو جوار، أي نسب استلحاق. والغالب إن يتحول نسب الاستلحاق إلى نسب صريح، حين تطول إقامة الدخيل بين من دخل بينهم: فينسى أصله، ويأخذ أحفاده نسب من دخل جدهم فيهم. ويشمل ذلك نسب القبائل أيضاً. وفي في كتب أهل الأخبار أمثلة كثيرة من أمثلة تحول الأنساب، حيث نجدها تنص على دخول نسب فلان في نسب بني فلان، ونسب قبيلة في نسب قبيلة أخرى.

ويقال للقوم الذين ينسبون إلى من ليسوا منهم "الدخل". والدخيل هو الرجل الغريب الذي ينتسب إلى قوم ليس هو بواحد منهم. وذكر أيضاً إن "الدخل" بمعنى الخاصة، وأيضاً الحشوة الذين يدخلون في قوم وليسوا منهم، أي في المعنى المتقدم.

وفي كتب أهل الأخبار أمثلة عديدة على تنقل الأنساب واثبات نسب قوم في قوم ليسوا منهم لغاية ومأرب. وقع ذلك في الجاهلية وفي الإسلام. قال "الكندي": "كان أبو رجب الخولاني وفلان وفلان يتحرشون أهل الحرس ويؤذونهم، فمشى أهل الحرس إلى زكريا بن يحيى كاتب العمري، فقالوا له حتى متى نؤذى ويطعن في أنسابنا. فأشار. عليهم زكريا بجمع مال يدفعونه إلى العمري ليسجل لهم سجلاً بإثبات أنسابهم، فجمعوا له ستة آلاف دينار، فلما صار المال إلى العمري لم يجسر على إن يسجل لهم، وقال: ارفعوا إلى الرشيد في ذلك، فخرج وفد منهم إلى العراق وانفق مالا عظيماً هناك، وادعى الوفد إن المفضل بن فضالة قد كان حكم لهم بإثبات أنسابهم وانهم بنو خوتكة بن الحاف ابن قضاعة، ثم عاد الوفد بكتاب محمد الأمين إلى العمري بالتسجيل لهم، فدعاهم العمري إلى إقامة البينة عنده على أنسابهم فأتوا بأهل الجوف الشرفي و آهل الشرقية. وقدم جماعة من بادية الشام، فشهدوا. انهم عرب فسجل لهم العمري. ثم تجدد نظر القضية فيما بعد وفسخ حكم القاضي العمري. ورد أهل الحرس إلى أصلهم القبطي".

وأشار أهل الأخبار إلى قبائل كانت تتنقل من قوم إلى قوم، فتنتمي إليهم، قالوا لها: "النواقل". والنواقل من انتقل من قبيلة إلى قبيلة أخرى فانتمى إليها. والتنقل دليل على إن النسب لم يكن من الصرامة والشدة على نحو ما يصوره لنا النسابون المتأخرون.

وفي الذي يذكره علماء النسب عن أنساب القبائل، أمور لا يمكن لنا قبولها، لا سيما ما يتعلق منها بالتعصب القبلي وبسرد الأنساب وتشجيرها وفي تفرعها. وأنساب القبائل موضوع لم يبحث بعد بحثاً علمياً، وهو يحتاج إلى تفرغ وتتبع والى مقارنة ما جاء عند العرب فيه بما جاء عند غيرهم من الساميين وغيرهم عنه. فقد لعبت الأنساب دوراً خطيراً عند البشرية، لأنها كانت الحماية والوقاية للإنسان، قبل إن تتولد الحكومات الكبيرة التي رعت الأمن وبسطت سلطانها، وبذلك خففت من غلواء النسب و الانتساب.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق