1512
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل التاسع والسبعون
النصرانية بين الجاهليين
فقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجىء يرتاحون فيها ومحلات يتجهزون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب: يأنسون بأزهارها ويخضرة مزارعها التي أنشأها الرهبان، ويطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتاز بصنعه الرهبان. وقد بقيت شهرة تلك الأديرة بالخمور والنبيذ قائمة حتى في ايام الإسلام. ومن هؤلاء الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف هؤلاء الضيوف شيئاً عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر. وقد أشير إلى هؤلإء الرهبان الناسكين في الشعر الجاهلي،وذكر عنهم انهم كانوا يأخذون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل.
وقد كانت هذه الأديرة، وهي بيوت خلوة وعبادة وانقطاع إلى عبادة الله والتفكير فيه، مواطن تبشير ونشر دعوة. وقد انتشرت حتى في المواضع القصية من البوادي. واذا طالعنا ما كتب فيها وما سجله أهل الأخبار أو مؤرخو الكنائس عن أسمائها،نعجب من هذا النشاط الذي عرف به الرهبان في نشر الدعوة وفي اقامة الأديرة للاقامة فيها في مواضع لا تستهوي أحداً. وهي متقاربة عديدة في بلاد العراق وفي بلاد الشام. بل نجد لها ذكراً حتى في الحجاز وفي ونجد وفي جنوبي جزيرة العرب وشرقيها: تتلقى الاعانات من كنائس العراق والشأم ومن الروم، حتى تمكنت من التبشير بين أكثر القبائل. ولولا ظهور الإسلام ونزول الوحي على الرسول في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه ألآن. كان العرب على دين النصرانية وتحت مؤثرات ثقافية اجنبية، هي الثقافة التي اتسمت بها هذه الشيع النصرانية المعروفة حتى اليوم.
وقد ذكر "ابن قتيببة الدينوري": ان النصرانية كانت في ربيعهَ، وغسان،وبعض قضاعة. وقال "اليعقوبي": "وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني تميم: بنو امرىء القيس بن زيد مناة،ومن ربيعة:بنو تغلب، ومن اليمن:طيء ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم".
وطبيعي أن يكون انتشار النصرانية في العرب ببلاد الشام واضحاً ظاهراً أكثر منه في أي مكان آخر. وأقصد ببلاد الشام ما يقصده علماء الجغرافيا العرب من هذا المصطلح. فقد كان لعرب هذه الديار علاقة مباشرة واتصال ثقافي بغيرهم من سكان هذه الأرضين الذين دخل أكثرهم في الديانة النصرانية، والذين صارت هذه الديانة ديانة بلادهم الرسمية بعد دخول الروم فيها واتخاذهم النصرانية ديناً رسمياً للدولة منذ تنصر أول قيصر من القياصرة، فكان من أولى واجبات الروم السعي في تنصير الشعوب الخاضعة لهم، لا تقرباً إلى الله وحده، بل لتمكين سلطانهم عليهم، واخضاعهم روحياً لهم. ولهذا كان من سياسة البيزنطيين نشر النصرانية بين أتباعها وفي الخارج وارسال، المبشرين والاغداق عليهم ومدهم بالأموال لنشر الدعوة وتأسيس مكاتب للتبشير، وبالفعلة لبناء الكنائس الفخمة الجميلة على طراز فني أنيق جميل غير معروف بين من سيبشر بهذا الدين بينهم. وبذلك تبهر عقولهم، فتشعر أن للدين الجديد مزايا ليست في دينهم، وأن معابده أفخم من معابدهم،ورجال دينه أرقى من رجال دينهم. وبذلك يأتون اليها. وللبهرجة والفخفخة أثر عظيم في كثير من الناس، فالعين عند أكثرالبشر، تقوم مقام العقل. وقد يكون ما قام به الأحباش في اليمن من انشاء الكنائس العظيمة فيها وتفننهم في تزويقها وتجميلها وفي فرشها بأفخر الرياش والفراش لصرف الناس عن الكعبة كما يزعم أهل الأخبار دليلاً على ما أقول.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق