1481
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السادس والسبعون
اليهودية بين العرب
يهود اليمن
والموضع الثاني الذي عششت فيه اليهودية وباضت، هو اليمن. ففي هذه الأرض من جزيرة العرب ظهر اليهود فيها ظهوراً واضحأَ، وصارت اليهودية ديانة البلاد الرسمية. أما كيفية مجيئها وانتشارها هناك، ومتى كان ذلك، فليس لدينا علم واضح دقيق عن ذَلك. ويزعم أهل الأخبار ان تبعاً، وهو التبع "تبّان اسعد ابو كرب"، اهتدى إلى هذه الديانة عند اجتيازه بيثرب وهو عائد إلى اليمن من حرب قام بها في الشمال وفي ايران، وذلك بتاًثير بعض الأحبار عليه، ومنذ ذلك الحين صارت هذه الديانة ديانة رسمية للبلاد.
وتجعل بعض روايات الأخباربين اسم هذا التبع "تبع بن حسان " أو "حسان"، وهو "تبع الأصغر"، أو "أبو كرب بن حسان بن اسعد الحميري" أو غير ذلك. وتزعم ان حبرين من أحبار اليهود من بني قريظة عالمين راسخين في العلم، هما اللذان هديا التبع إلى اليهودية، وأبعداه عن عبادة الأوثان.
وقد يكون لهذه الروايات شيء من الصحة، غير أني أرى ان دخول اليهوديه إلى اليمن مردّه ايضاً إلى اتصال اليمن من عهد قديم بطرق القوافل التجارية البحرية والبرية ببلاد الشام. وفي قصة سليمان وملكة سبأ إشارة إلى تلك الصلات، والى هجرة جماعات من اليهود إلى هذا القطر عن طريق الحجاز، بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى الخارج،. وهروبهم من اضطهاد الرومان لهم، وعوامل أخرى جعلتهم يتجهون من الحجاز إلى اليمن، فأقاموا هناك.
وأما يهود اليمن المحدثون فإن أحبارهم ورجال العلم والفهم منهم يرجعون وجودهم في اليمن إلى أيام السبي، أي إلى ايام "بخت نصر"، وهم يزعمون أنهم بقوا في اليمن منذ ذلك الحين ولم يعودوا إلى فلسطين. وقد غادروا اليمن بعد التقسيم.
وقد أشار حبر يسمى "ربي عاقبة" "رباي عقيبة"Rabbi'Aqiba، في حوالى سنة "130 م"، إلى زبارته لملك عربي كوشي "مليخ عرابيم" كانت زوجته كوشية كذلك، وإلى تحدثه معه. ويراد ب "كوش" الأحباش غير ان بعضهم كان يقصد بها العربية الجنوبية،كذلك. ولا يستبعد ان يكون مراد الحبر بذلك اليمن،أو منطقة أخرى من العربية الجنوبية كان الحبش قد استولوا عليها. وربما قصد منطقة افريقية ساحلية كان يحكمها ملك عربي في ذلك الوقت.
وتدل رحلة "ربي عقيبة" R.Aqiba هذه إلى اليمن على وجود يهود فيها، إذ لا يعقل سفره هذا إلى تلك البقعة النائية وتجشمه مشقته، لو لم تكن هناك جالية يهودية فيها. وقد يجوز ان تكون سفرته إلى اليمن مجرد سفره استطراق وعبور، لغاية الذهاب من اليمن إلى الحبشة، ولكني لا أستبعد مع ذلك وجود اليهود في اليمن في هذا العهد، إذ كان "أوليوس غالوس" قد جاء بجمع منهم معه في حملته على اليمن، فيجوز ان يكون بعضهم قد فضّل البقاء في اليمن والسكن فيها لطيبها ولخصب أرضها وتعبهم من السفر، ففضلوا لذلك البقاء على الرجوع وتحمل المشقات والجوع والعطش والهلاك. وقد هلك بالفعل القسم الأكير من رجال الحملة بسبب صعوبة الطريق والحر الشديد والجوع والعطش.
وقد عثر على كتابة من كتابات القبور في "بيت شعا ريم" Beth She'arim في جنوب شرقي حيفا، ورد فيها:"منحم قولن حميرن" Mnhm Kwin hmyrn اي "مناحيم قيل حمير". والموضع الذي وجدت هذه الكتابة فيه، هو مقبرة من مقابر كبار الأحبار، وقد وجدت معها كتابات أخرى، تشير إلى أسماء أحبار معروفين، قبروا فيها. لذلك فإن "مناحيم" "قيل حمير" هو يهودي، قد كان جاء إلى فلسطين للزيارة أو للاتصال بعلماء اليهود الذين كانوا قد تجمعوا في "بيت شيعا ريم"،. فمرض ومات هناك. ودفن في مقبرة هذا الموضع. ويرجع الباحثون تأريخ الكتابة المذكورة إلى حوالى سنة "200 م".
واستدل بعض المستشرقين بنص دوّ نه "شرحبيل يعفر بن أبي كرب اسعد"على سد مأرب، وردت فيه جملة "بعل سمن وارضن"، أي "رب المسماء والأرض" على تهوده بحجة ان هذه العبارة تشير إلى التوحيد الخالص، والتوحيد الخالص هو عقيدة يهود.
وقد ذكر المؤرخ النصراني "فيلوستورجيوس"Philostorgius في حوالى سنة425 م، ان أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "ابراهيم"، ولكنه ذكر أيضاً انهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وان بعضاً منهم كان على دين يهود،وانه قاوم رسالة "ثيوفيلس" Theophilus الذي أرسله القيصر قسطنطين "ه 340 - 361 م" للتبشبر بين الحميريين. وذكر المؤرخ "ثيودور لكتور" Theodorus Lecrtor، وهو من رجال النصف الأول للقرن السادس للميلاد، ان الحميريين كانوا في بادىء أمرهم على دين يهود، دخلوا فيه في ايام ملكة سبأ المعروفة بقصتها مع سليمان، بدعونها اياهم إلى هذا الدين. ولكنهم كما يقول هذا المؤرخ عادوا فارتدوا إلى الوثنية، ثم دخلوا بعدئذ في النصرانية في ايام القيصر "أنسطاس" Anstasius"491 - 518م". ولم يشر هذا المؤرخ إلى وجود اليهودية بين الحميريين، كما انه لم يشر ولا المؤرخ الآخر إلى تهود احد من ملوك حمير.
ويفهم من الجمل: "وان اليهود الكائنين في طبرية يرسلون سنة فسنة وقتاً فآخر كهنة منهم إلى هناك لإثارة السجس بين نصارى الحميريين. فلو كان الأساقفة نصارى وليسوا بشركاء لليهود، ويودّون ان تستقيم النصرانية، لرغبوا إلى الملك وعظمائه، ليلقوا القبض على رؤساء كهنة طبرية و بقية المدن،ويلقوهم في السجن. ولا نقول هذا لنجازي سيئة بسيئة، بل ليتوثقوا منهم بكفلاء حتى لا يعودوا يرسلون رسائل وأشخاصاً وجيهين إلى ملك الحميريين، فيصب صاعقة الأرزاء على شعب المسيح في حمير..."،وهي جمل اقتبسها من رسالة "شمعون" عن تعذيب نصارى نجران، ان يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، بل كانوا على اتصال بهم، وان أحبار طبرية كانوا يرسلون رجالا منهم إلى اليمن ومعهم أموال ووجوه إلى يهودها وملكها وكبارها للتأثير فيهم ولتوثيق صلاتهم وروابطهم بهم، وقد نسب شمعون إلى أحبار طبربة، انهم كانوا يحرضون ملك حمير ويهود حمير على الضغط على نصارى اليمن وعلى اضطهادهم انتقاما منهم،فطالب الحكومة والنصارى على الضغط على يهود فلسطين وعلى أحبار طبرية بصورة خاصة، ليكتبوا إلى يهود حمير بالكف عن التحرش بنصارى اليمن، وعن تهديدهم بانزال العقوبات بهم انتقاما منهم إن لم يسدوا لهم النصح.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق