1464
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والسبعون
الحنفاء
وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، في نفس ميالة إلى التقشف والتصوّف، مؤمنً بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة ? وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه ? أوهو من نظم من عاش بعده في الإسلام ? وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبى. وقد كان على الحنيفية،واليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة،فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم ياًمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتام.
هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطورٍ واصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من ايذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيراً هادئاً، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك منغص.
لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان ان منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني ارم. ولكن الاْخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنُزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظانّ التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، باهمالهم الاشازة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة مهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وابان ظهوره.
وبؤكد أهل الأخبار ان بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة ابراهيم وشريعته، وان بعضاً آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسالء عنها، وانهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشام وأعالي العراق. اي المواضع التي كانت غالبية اهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا اليهم الأحبار أحياناً،. وذكروا ان الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين ابراهيم واسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقّداً بدين ابراهيم حنيفاً، غير مشرك بربه أحداً.
أما كيف كانت شريعة ابراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك ? فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة ابراهيم، شريعة التوحيد الحق.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان لأتباع ابراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب، وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات ابراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية: )وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فاًتمهن(. ذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن تلك الكلمات هي عشر: "خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فاًما التي في الرأس، فالمضمضة والاستنشاق وقصّ الشارب وفرق الرأس والسواك. وأما التي.في الجسد فألاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان". ومن سنن شريعة ابراهيم الاختتان. وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى، فلم يكونوا يختتنون. فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" آن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى ثقيف ممن سقط في هذه المعركة مع هوازن وجدوا عبداً، عندما كشف ليستلب ما علية وجد أغرل. فلما تبين ذلك للانصار، نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفاً غُرل ما تختتن. فقام اليه المغيرة بن شعبة، وهو من ثقيف، فأخذ بيده، وخشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل تلك فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين ? ويتبين من هذا الخبر أن العرب كانوا يعدون الغرل شيئاً معيباً، ومنقصة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعاً كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التي تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك كاليهود. وقد ورد في الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب. ولعل التوراة،التي ذكوت قصة اختتان اسماعيل، أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق