1433
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الرابع والسبعون
الكعبة
و "باقوم" كما يقول الاخباريون. هو الذي أشرف على إقامة البناء و هندسته. وهو الذي سقف للبيت وأقامه على عمد. ولا أستبعد ان يكون هو الذي رسم تلك الصور وحده أو بالاستعانة بإخوانه من بني جنسه الروم. وقد كان هؤلاء نصارى، فرسموا على جدران البيت أو أعمدته صور قصص كتابي، ومنه صور الانبياء، للزينة والزخرف. لم يجد أهل مكة فيها ما يناقض عقيدتهم في الاصنام. ومن يدري، فلعله رسم لهم ذلك على أن له صلة بعقيدتهم التي كانوا عليها، فلم يعترضوا لذلك عليه. أما طمس الإسلام لتلك الصور، فللعلماء في ذلك كلام. وقد أشير اليه في كتب الحديث، وأكثرهم على أن الرسول لم يستثن من ذلك الطمس صورة.
وفي الحرم بئر "زمزم"، وهناك مقام ابراهيم، وبين زمزم ومقام ابراهيم كان موضع الذبح، ذبح القرابين. ويري "ولهوزن" احتمال كون موضع المقام هو المكان الذي كان الجاهليون يذبحون فيه.
ويرجع الأخباريون تأريخ بئر "زمزم" إلى يوم بناء الكعبة وعهد اسماعيل. ويقال لها "بئر اسماعيل" أيضاً. وهي في الحرم في جهة الجنوب الشرفي من للكعبة في الجهة المقابلة للركن. ولا نعرف من أمرها شيئاً يذكر. ويظهر من روايات أهل الأخبار عنها انها دفنت في ايام جرهم، وان أهل مكة صاروا يستقون الماء من آبار أخرى احتفروها، ويستوردونه من الخارج اليها، حتى اذا كانت ايام عبد المطلب، القى في قلبه ان يحتفرها، فحفرها واستخرج منها كنزأَ، وظهر الماء بها منذ ذلك اليوم. ولأهل الأخبار تفاسير عديدة للفظة "زمزم"، تدل على انهم لم يكونوا على علم باًصل التسمية، مما جاء فيها ان الملك "سابور" لما حج للبيت اشرف عليها وزمزم فيها، فقيل لها "زمزم". وهكذا جعلوا "سابور" من المؤمنين الحجاج للبيت الحرام، المتبركين بماء زمزم !
وكان حرم "الكعبة" كما يظهر من روايات أهل الاخبار واسعاً شاسعاً ذا نبت وشجر. ولم يجرؤ أحد على احتطاب شجره أو قطعه لحرمة المكان ولحرمة ما فيه، فبقيت أشجاره على ما هي عليه، حتى إذا ما كانت ايام "قصي"، ضاقت مكة بمن وفد عليها من قريش، ممن جاء بهم "قصي" اليها، وقطعها "قصي" رباعاً، وأرادوا للبنيان، ولكنهم هابوا قطع شجر الحرم للبنيان، وتذكر رواية أنهم قالوا لقصي: كيف نصنع من شجر الحرم ? فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك. فكان أحدهم يحوف بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله. وتذكر روايات أخرى العكس. تذكر أن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه. وبذلك تقلصت أرض الحرم وقلت أشجاره بالتدريج.
وتذكر رواية ان اهل مكة كانوا يهابون حتى في الإسلام قطع شجر الحرم.
وقطع كل شجرة دخلت من أرض الحرم في دور أهل مكة. وان "عمر" لما قطع "دوحة" كانت في دار "اسد بن عبد العزى"، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين.بالكعبة، وذلك قبل ان يوسع المسجد، و دّاها بقرة. وتذكر ايضاً ان "عبد الله بن الزبير" حين ابتنى دوراً ب "قعيقعان" ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان، وجعل دية كل شجرة بقرة. وذكر ان "أبا حنيفة "، قال إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يغرسها الناس ويستنبتونها فلا فدية على من قطع شيئاً منها، وإن كان من غيرها ففيه القيمة بالغاً ما بلغت.
وفي الحديث ان الله حرم مكة، وحرم شجر الحرم في جملة ما حرمه على الناس. ويظهر ان أرض مكة كانت كلها في الأصل قبل ايام "قصي" حمى للكعبة، على عادة الجاهلين.في تخصيص "حمى" لأربابهم تكون حول بيوتها، ولهذا كانت أشجار هذا الحمى أشجاراً مقدسة لا يجوز قطعها ولا احتطابها، سوى أخذ بعض أغصانها أو لحائها لعمل قلائد منها للاحتماء منها، فلما استباح أهل مكة لأنفسهم ا!تطاول على الحرم، أي على هذا احمى، بقطع شجره وتحويل أرضه إلى بناء، أو بابقاء بعض أشجاره في داخل الدور، بقوا ينظرون إلى ذلك الشجر الباقي في البيوت نظرة هيبة وتقدير، باعتبار انه من بقايا الحرم القديم. وبذلك صغرت مساحة الحرم، وقلت مساحته، حتى اضطر الخليفة "عمر" إلى توسيعه بشراء البيوت التي أقامها الناس عليه وادخالها في الحرم من جديد، وذلك حين ضيق الناس على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال: " إن الكعبة بيت الله، ولا بد للبيت من فناء، وانكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم "، فاشترى بعض الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم اشترى عثمان دوراٌ أخرى وأغلى في ثمنها ثم زاد في المسجد من جاء بعدهما حتى وصل الى النحو الذي هو عليه الآن.
ولم يكن للحرم في الجاهلية سور، إنما كانت تحدد معالمه وحدوده أنصاب نصبت على اطرافه. لتكون علامة على ابتدائه وانتهائه. أما ما نراه في الوقت الحاضر من وجود سور مرتفع له، أي حائط به غرف، فإنه مما حدث في الإسلام. وذكراهل الأخبار ان الحرم قد شرب على حدوده بالمنار- القديمة التي بيَن ابراهيم مشاعرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام، لانهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون ان ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم. فما كان دون المنار،فهو حرم لا يحل صيده ولا يقطع شجره، وما كان وراء المنار، فهو من الحل يحل صيده، إذا لم يكن صائده محرماً.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق