1021
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثالث والخمسون
حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل
البريد
وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثمُ سمي الرسول الذي يركبه بريداً، والمسافة التي بين السكتين بريداً. والسكة موضع كان يسكنه "الفُيوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة. فالبريد إذن بمعنى رسول،وموضع البريد، والشئ الذي يرسل مع البريد، أي الرسول حامل البريد، ودابة البريد.
إني أنصُّ العيس حتى كأنني عليها بأجواز الفلاة، بريدا
ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من اعمالهم اطلاع كبار الموظفين والامراء والملوك على الاحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسؤولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم واعلانهم العصيان على الدولة.
ونسب "الجاحظ" إلى " امرىء القيس" قوله: ونادمت قيصر في ملكه فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة سبقت الفرانق سبقاً بعيدا
وقد نسب غيره إلى "امرىء القيس" أيضاً قوله: على كل مقصوص الذنابي معاودٍ بريد الشرى بالليل، من خيل بربرا
ومعنى هذا، إن صح بالطبع أن الشعر المذكور هو لامرىء القيس حقاً، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على انها من خيل البريد.
وقد اشير الى البريد في الحديث: جاء " لا تقصر الصلاة في اقل من اربعة برد "، وهي ستة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في إلحديث أيضاً "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد"، اي لا احبس الرسل الواردين علي. وورد إذا أبردتم الي بريداً فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد ب "سكك البريد". كل سكة منها اثني عشر ميلاً.
وقد أشير إلى البريد في فى شعر ينسب إلى "ورقة بن نوفل"، يقال انه قاله حينما مات "عثمان بن ألحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله. وعرف "أبو قيس" ب "راكب البريد".
وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانين، فقال: "وكانت البُرد منظومة إلى كسرى،من أقصى بلاد اليمن إلى بابه،أيام وهرز،وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة "ْ. "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان والى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، والى مشكاب، والى المنذر بن ساوى، وكذلك.كانت برده إلى عمان، والى الجلندي بن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرنها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام ؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان ألروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس ب الشام ات إلى القسطنطينية.
وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام،وفيروز بن الديلمي والي اليمن، والى المكعبر مرزبان الزارة، والى النعمان بالحيرة، إلا البغال ? وهل وجدوا شياً لذلك أصلح منها".
فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة. فهي سكك تمتد مسافات طويلة.ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال.
ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة
وغيرهم استخدموها في ادارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. واصها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها،فأعربت وخففت، ثمُ سميّ الرسول الذي يركبه بريداً. والمسافة التي بين السكتين بريداً، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبهَ أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة ولعل ما ورد في شعر امرىء القيس من "على كل مقصوص الذنابيّ"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم".
وقد ذكر علماء اللغة ان "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب. وقيل هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج" واشاروا الى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا انه قاله هو: ام كيف جزت فيوجاً، حولهم حرس ومريضاً، بابه بالشـك صـرار?
قيل الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون.
ويظهر أنهم فَرّ قوا هنا بين "البريد"، أي الرسول الراكب، الذي ينقل البربد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالاّ كثيرة. فهوبريد محلي ينقل الاخبار الى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبراً، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية. فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماشٍ ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، براقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه، يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة ايقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها واخبار من يدخل ويخرج منها.
وأما الأبنية العامة،مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بانشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالأتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء.
وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع اليها، للانفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون الى المعبد. ولم ترد في الكتابات اشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحاً عليها أي ربا، أم كانت تعطيها قرضاً حسناً من غير فائض. ويعبر عن ضرئب المعبد التي نجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين، فيعبر عنه ب "دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عتثر"، أي "بالضرائب التي داينها"أقرضها" الإله عتثر".
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق