إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

161,180

الثلاثاء، 12 يناير 2016

1014 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثالث والخمسون حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل موارد الدولة


1014

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
  
الفصل الثالث والخمسون

حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل

موارد الدولة

ولا بد لكل دولة من موارد تستعين بها في ادارة امورها وفي الانفاق على التابعين لها المكلفين القيام بأعمالها من موظفين ومستخدمن مدنيين وعسكريين ويدخل في هذه الموارد كل ما يحصل عليه الملك أو سيد القبيلة من أرباح ودخل يرد من استغلال الأرض والأملاك الخاصة، ومن الأتجار، ومن الضرائب التي تفرض على التجار والمواطنين والزرّ اع، ومن الغنائم، إلى غير ذلك من واردات تجمع وتقدم الى الحكام ملوكاً كانوا أو سادات قبائْل أو رؤساء مدن. أضف إلى ذلك"الجزية" التي كانت الحكومات تفرضها على من تحاربه أو تغزوه فتنتصر عليه، ثم تنسحب من أرضه على ان يدفع "جزية" يقررها المنتصر تتناسب مع حال المغلوب.

ولم يكن من المعتاد في تلك الأيام التفريق بين "الخزينة الخاصة" و "الخزينة العامة"، أو بين الوارد الخاصة بالملك، مما يجبى من أملاكه وعن اتجاره وبين الوارد الذي يجب ان يصرف وينفق على الأعمال العامة التي تمس الشعب كله، مثل انشاء الطرق والحصون وادامة الجيش واغاثة المحتاج وما شابه فلك، فإن الحاكم في ذلك الزمن كان يرى ان كل ما يجبى يعود اليه، لا فرق عنده بين الخزينة الخاصة والخزينة العامة، وان الانفاق يتوقف على رأيه، إن شاء وهب هذا مالاً وأقطع هذا ارضاٌ، وان شاء صادر مال شخص وضمه اليه، ولا حق لأحد ان يعترض عليه. فأموال الدولة هي امواله والخزينة هي خزينته،وهو الذي يأمر بالإنفاق. وما يعطيه للشعراء ثواباً على مدحهم له، أو ما يقدمه من أموال للمنافع العامة وللنفقات الخاصة بالجيش وبمرافق الدولة،يكون كله بأمره وبموافقته، يتصرف كما يتصرف اي مالك كَان بملكه.

وقد اختار الملوك لهم رجالاً وكلوا لهم امر ادارة أملاكهم واستثمارها، كما وكلوا لاخرين. أمر الاتجار بأموالهم، إذ كان الملوك يتاجرون ايضاً في الداخل وفي الخارج، كما وكلوا للموظفين امر جباية الضرائب واستحصالها من الزرّأع ومن التجار، فكانوا يذهبون إلى المزارع لتقدير حصص الحكومة كما كانوا يقفون في الأسواق لأخذ العشر من المبيعات. وهناك موظفون يقيمون عند الحدود وعند ملتقى الطرق لأخذ حق المرور من القوافل.

" وقد وجدت بعضالحكومات مثل حكومة "رومة" ان طريقة تعيين الجباة لجباية الضرائب، هي طريقة تكلف الدولة اموالاً تزيد على الاموال التي تردها من الجباية، لان الجباة كانوا يسرقون اموال الجباية ويسيؤن الاستعمال، وان الشدة معهم لم تنفع شيئاً، لذلك عمدت إلى وضع الجباية في "المزايدة العلنية" بأن يعلن عنها، فيتقدم من يرغب في أخذها، فيزيد على غيره ممن ينافسه، وهكذا حتى ترسو على آخر المتزايدين، فيتولى هو جمع الجباية عن طريق تعيينه موظفين يقومون بجباية الضرائب المقررة، فيقدم هو للحكومة المبلغ الذي رسا عليه، ويأخذ الفضل لنفسه وقد تألفت في "رومة" شركات كبيرة خصصت نفسها بأمور جباية الضرائب من المقاطعات الواسعة التابعة لانبراطورية "رومة" وكانت تتزايد فما بينها حينما تعرض الحكومة جباية الضرائب في "المزاد".

وقد فعلت هذه الشركات كل ما اًمكنها فعله لجمع أكثر ما يمكن جمعه من أموال من المكلفين لتغطية مبلغ التعهد الذي أعطته للحكومة وللحصول على أرباح مفرطة لها، بأن أرهقت كاهل المكلف بأخذ أضعاف ما حدد من مقدار الصريبة، ولم تنفع الرقابة الحكومية التي وضعتها الحكومة على هذه الشركات وعلى الجباة، ذلك لأن "الحكام" حكام الولايات ومن بيدهم أمر الرقابة المالية ومن كان بيده أمر النظر في عرض الجباية على المتزايدين كانوا مرتشين، فكانوا يغضون الطرف عن تعسف الجباة ولا ينصفون المشتكين من الناس منهم. وقد ضج الناس من أصحاب المكس، وأشير إلى ظلمهم في الإنجيل، وعدّوا من أصحاب الإثم أهل الخطيئة Sinners فكانوا من المبغَضين. وقد ندد بهم و بظلمهم في كتب الحديث.

وقد عين "الأباطرة" أحياناَ عمالاً Procurator على المقاطعات للاشرأف على جمع الجباية، وعينوا موظفين في الموانئ والثغور لجباية الضرائب عن الأموال المصدرة التي تصدر الى الخارج، وعن الأموال الني تستورد إلى الانبراطورية، ومن التجار الرومان، أو التجار الأجانب.

وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية مصطلحات لها علاقة بالضرائب وبألأرباح، منها مصطلح "نعمت"، أي "نعمة"، وتعني هنا ما أنعم به على الإنسان، أي ما يحصل عليه من السوق، وما يربحه من تجارته. فهي بمعنى الربح. وللحكومة أو القبيلة أو لأصحاب السوق حق أخذ نصيب مقرر من هذه "النعم"،أي الأرباح. ويعبر عن النصيب الذي تأخذه الحكومة من الأرباح ب "زعرتم" "زعرت" "زعرة"،من أصل "زعر". وتعني"زعر" قَلّ وتفرَّق، فكأن العرب الجنوبيين عبًّروا عن نصيب الحكومة بهذه اللفظة، لأن ما يدفع للحكومة هو مما يقلل من المبلغ ويصغره، فالربح اذن هو "نعمتم"، "نعمة"، "نعمت"، وهو كل ربح يصيب أحداً. وأما ما يؤخذ عن الأرباح ويدفع للحكومة: فهو "زعرتم" "زعرت" "زعرة"،أي ضريبة.

وترد لفظة "همد"بمعنى الضريبة في العربيات الجنوبية، أي ما يفرز ويعطى للحكومة أو للمعبد أو للسادات القبائل،والارضين التي يهيمنون عليها. و "الهميد" في عربية القرآن الكريم "المال المكتوب عليك في الديوان" و "المال المكتوب على الرجل في الديوان" فيقال: هاتوا صدقته، وقد ذهب المال و "الصدقة". وهذا التفسير قريب من المعنى المقصود من اللفظة في العربيات الجنوبية.

وقد أخذت حكومات العربية الجنوبية بطريقة تعيين موظفين خاصين بجمع الضرائب وبالأشراف على الجباة وعلى كيفية الجباية، كما أخذت بطريقة ايداع الجباية الى الإقطاعيين وسادات القبائل، فهم الذين يجمعون الحقوق من أتباعهم، ويقدمونها إلى الحكومة. وذلك بالالتزام. وللحكومة موظفون واجبهم التحقق من أن هؤلاء الملتزمين لا يأكلون حق الحكومة، ويأخذون من أموال الجباية النصيب الأكبر، ولا يقدمون للدولة الا شيئاً قليلاً من استحقاقها.

وفي كل الحالات المذكورة كان المكلف يرهق بدفع الضرائب إرهاقاً، ويجبر على دفع ضرائب تزيد على طاقته خاصة، وقد كانت الضرائب متنوعة عديدة. ضرائب للحكومة، وضرائب للمعبد، وضرائب للسيد صاحب الأرض، أو سيد القبيلة، ثم عليه السخرة أي العمل الإجباري دون مقابل وعليه الانخراط في سلك المحاربين حين الطلب، فأثر كل ذلك في الوضع الاقتصادي، وفي المجتمع العام تأثيراً كبيراً،و نهك السواد الأعظم من الناس، مما جعلهم يتذمرون من الحكام والحكومة والسادات،ولا يؤدون ما عليهم من واجبات وخدمات عامة الا مكرهين.

ولعل هذا الإرهاق الذي نزل بالرعية في دفع الضرائب، هو الذي حملها على اطلاق "الآكل" و "الآكال" و "آكال الملوك" و "مآكل الملوك" على ما يجعله الملوك مأكلة لهم، لأنهم جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، و اما "المأكول"، فهو الرعية، لأن الملوك تأكل أموالهم. فالملوك تأخذ ولا تعطي، والرعية تعطي ولا تأخذ ولا تستفيد مما تدفعه لملوكها من ضرائب أية فائدة.

والضريبة في تعريف علماء اللغة: ما تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها، مثل ما يؤديه العبد إلى سيده من الخراج المقرر عليه،ومن الضرائب: ضرائب الأرضين وهي ضرائب الخراج عليها، وضرائب الإتاوة التي تؤخذ من الناس.

وعرف علماء اللغة الإتاوة: أنها الرشوة والخراج، وقال بعضهم: كل ما أخذ بكره، أو قسم على موضع الجباية وغيرها، فهو اتاوة. وفي ذلك قال "حُنَيّ بن جابر التغلبي": ففي كل أسواق الـعـرإق إتـاوة  وفي كل ما باع أمرؤ مكس درهم

وذكر "ابن فارس" أن "الإتاوة" من الألفاظ التي زالت بزوال معانيها، فهجرت لذلك.

ويقال للإتاوة: الأريان. والاريان بمعنى الخراج أيضاً. وقد ذكرت اللفظة في شعر "الحيقطان"،شاعر اليمانية،وكان قد قال قصيدة يرد فيها على الشاعر "جرير"، فهجا بها قريشاً، وكان مما قال فيها: وقلتم لقاح لا نؤدي إتاوة=فإعطاء اريان من الفرّ أيسر فقال: قلتم إنا لقاح ولسنا نؤدي الخراج و الاريان،فإعطاء الخراج، أهون من الفرار و اسلام الدار للأحابيش، وأنتم مثل عدد من جاءكم المرار الكثيرة.

ويقصدون باللقاح الحي لم يدينوا للملوك ولم يملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سبأ.

والإتاوة في الأصل الجباية عامة. أي جباية كل شيء. وهي كلمة عامة تشمل أخذ كل عطاء،أي كل ما يؤخذ طوعاً أو كرهاً عن شيء، فتشمل الخراج والجزية والجباية والرشوة،وما يفرض تعنتاً وزوراً،والمكوس. والخراج إتاوة. يقال أدى إتاوة أرضه، أي خراجها، والجباية إتاوة. يقال ضربت عليهم الاتاوة، اي الجباية، وهي بمعنى الرشوة. يقال شكم فاه بالإتاوة، أي الرشوة. وتدخل فيها الرشوة أي الماء. وجاء في قول الجعدي: موالي حلفٍ لا موالي قرابة  ولكن قطيناً يسألون الاتاويا

أي هم خدم يسألون الخراج.

وقد ذكر "الجاحظ" الإتاوة في جملة ما ترك الناس في الإسلام من ألفاظ الجاهلية، إذ تركوها، وأحلوا لفظة "الخراج" محلها.

وكانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية شيئاً. كانت تأخذ بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، إتاوة. ولما خرج "ظويلم" الملقب ب ""مانع الحريم" في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي،فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، امتنع عليه "ظويلم" وقال: يا رب،هل عندك من غفيره  إنّ مني مانعه المـغـيره

ومانع بعد منـي ثـبـيره  ومانعي ربّـي أن أزوره

وذلك سمي "الحريم". وظويلم الذي منع "عمرو بن صرمة" الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان.

ويعبر في عربية القرآن الكريم عن الشيء الذي يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم ب "الخرج" و ب "الخراج"، فهو إتاوة تؤخذ من أموال الناس. و "الخرج" كما يقول علماء اللغة أعم من الخراج، وجعل الخرج بازاء الدخل. والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض. وقيل: العبد يؤدي خرجه، أي غلته، والرعية تؤدي الى الأمير الخراج. وقد خصصت لفظة "الخراج" في الإسلام بما وضع على رقاب الأرض، وخصصت الجزية بما يدفع عن الرأس. و "الخرج"،مما يدفعه الرقيق إلى سيده وماله عن خراجه. وقيل: هو الأجرة، وان الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم.

ويقابل "الخراج" بالمصطلح الإسلامي لفظة pnoros في اليونانية، فهي ضريبة الأرض عند اليونان. وقد كان البيزنطيون قد فرضوا "الخراج" على غلة الأرض يدفعها كل من خضع لهم. وكان يدفعها عرب الشام لهم أيضاً، لأنهم كانوا في حكمهم. وأما عرب العراق، فقد دفعوا "الخراج" إلى الفرس. ويقال للخراج "خرجا" في لغة بني إرم،ووردت في "التلمود" بلفظ: "خرجه" و "خرجا". وهي عند الساسانيين خراج الأرض، أي الضريبة الخاصة بحاصل الأرض. ولكن الفرس القدماء لم يكونوا في القديم يفرقون بين الخراج والجزية، أي ضريبة الرأس، بل كانوا يطلقونها على الضريبتين. وقد وردت لفظة "خرجا" في التلمود بمعنى ضريبة الرأس،وأطلق "التلمود" على ضريبة الأرض اسم "طسقه" "طسقا" Taska "ط س ق". وهي بهذا المعنى عند الفرس. وقد أخذ العبرانيون اللفظة من الفرس. وقد كتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل الذمة أسلما: "إرفع الجزية عن رؤوسهما، وخذ الطسق من أرضيهما". وعرف علماء العربية "الطسق" بأنه شبه الخراج، له مقدار معلوم، وما يوضع من الوظيفة على الجريان من الخراج المقرر على الأرض. وقد ذكروا أن اللفظة فارسية معربة.

وقد وردت لفظة "الخرج" و "الخراج" في القرآن الكريم، مما يدل على ان اللفظتين كانتا معروفتين عند أهل الحجاز قبل نزول الوحي على الرسول، وانهما كانتا من الألفاظ المستعملة عندهم في الأمور المالية المتعلقة بدفع الضرائب إلى الحكومات والى ذوي السلطان. ويرى بعض،المستشرقين ان الجاهليين أخذوا اللفظة من "بني إرم"،وانهم وقفوا على "خرجه"، "خرج" و "خرجا"، وحولوهما إلى "خرج" و "خراج".

ولما فتح المسلمون العراق و الشام،أبقوا النظم المالية والإدارية على ما كانت عليه في أول الأمر، لأنها نظم قديمة، لم يكن من السهل تغييرها و تبديلها، فكان "الخراج" في جملة ما أبقي من النظم المالية. وقد دفع عيناً أي غلة، فكان محتسب الخراج،يذهب إلى القرى عند دنو أجل دفع الخراج، فيأخذه من المزارعين عيناً، كأن يدفع بُرّاً أو شعيراً، أو مالاً، أي نقداً بالدنانير أو الدراهم. ثم غاب الدفع نقداً على الدفع عيناً،وصار هذا النقد مورداً مهماً من موارد بيت المال.

والجزية من الألفاظ المستعملة عند الجاهليين كذلك، بدليل ورودها في القرآن الكريم. وقد خصصت في الإسلام بما يؤخذ من أهل الذمة على رقابهم.

وقد كان الجاهليون يأخذون الجزية من المغلوبين، وكانت عندهم الضريبة التي تؤخذ عن رؤوس المغلوبين، يدفعونها إلى الغالب. فدفعتها القبائل المغلوبة للقبائل الغالبة، على أساس الرؤوس.

والظاهر أن المسلمين في صدر الإسلام لم يكونوا يفرقون بين الخراج والجزية،فقد استعملوا الخراج عن الرؤوس وعن الأرض، كما استعملوا لفظة "الجزية" بمعنى خراج الأرض، ورد في الحديث: " من أخذ أرضاً بجزيتها".

وأشار الطبري إلى أن "المثنى"،وضع على أهل الحيرة بعد كفرهم وارتدادهم "أربعمائة ألف سوى الحَرَزة". و يذكر علماء اللغة أن "الحرزة" خيار المال لأن صاحبها يحرزها ويصونها. والحرائز من الإبل التي لا تباع نفاسة بها.

وجعلها بعضهم "الخرزة". وقالوا انها نوع من جزية الرؤوس، كانت معروفة في زمن الأكاسرة،يؤديها كل من لم يدخل في جند الحكومة.

و "المكس"، دراهم تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية. ويقال لجابي المكس: صاحب المكس،و الماكس و المكاّس.و المكس الجباية. و"الماكس" الذي يتولى المكس. قال العبديُّ في الجارود: أيا ابن المعلّى خلتنا أم حسبتـنـا  صراريَّ نعطي الماكسين مكوسا

وكان "الماكس"،ويقال له العشاّر،يشتط في كثير من الأحيان، ويظلم الناس في الجباية، إذ يزيد عليهم في المقدار، فكانوا لذلك مكروهين، حتى لقد ورد في الحديث:"لا يدخل صاحب مكس الجنة ".

وقد أشير إلى المكس والى الإتاوة التي تؤخذ من أسواق العراق في شعر "جابر ابنُُ حنيّ": أفي كلّ أسواق الـعـرِاق إتـاوة  وفي كلّ ما باع امرؤُ مكسُ درهم

فإن ملوك العرب كانت تأخذ من التجار في البرّ والبحر، وفي أسواقهم، المكس،وكانوا يظلمونهم في ذلك. ولذلك قال جابر بن حنيّ، وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد، وهو قوله: ألا تستحي منّا ملـوك وتـتـقـي  محارمنا لا يبـوو الـدم بـالـدم

وفي كل أسواق الـعـراق إتـاوة  وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

ولهذا زعم الأعراب أن اللّه لم يدع ماكساً إلاّ أنزل به بلية، وأنه مسخ منهم اثنين ضبعاً وذئباً. فلهذه القرابة تسافدا وتناجلا،وإن اختلفا في سوى ذلك.فمن ولدهما السمع و العِسبار. وفي هذا المعنى قول الشاعر: مسَخَ الماكسين ضبعاً وذئباً  فلهذا تناجلا أم عـمـرو

وضريبة "العشر" هي ضريبة معروفة بين الجاهليين، فقد كانت الحكومات تتقاضى عشر ما حصل عليه التاجر من ربح في البيع والشراء، وكان المتولون أمور الأسواق يتقاضون العشر كذلك. وقد أشير اليها في كتابة قتبانية،حيث كانت حكومة قتبان تتقاضى هذه الضريبة من المعاملين في البيع والشراء،إذ كانت تأخذ عشر الأموال، وتوسعت في ذلك حتى عمت هذه الضريبة على كل ربح أو وارد يصيبه الرجل سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجازة والإرث.

وقد كانت هذه الضريبة مقررة في كل جزيرة العرب وفي خارجها، ففي كل سوق من الأسواق عشارون يجبون العشر ممن يبيع ويشتري،بأمر المشرف على السوق ومن في أرضه تقام، ويقدم ما يجمع اليه. ومن أخذ العشر من التاجر، قيل لجابيه: العشار والمعاشر، وهو الذي يعشر الناس.

وقد كان التجار العرب الذين يقصدون بلاد الشام للاتجار في أسواقها يدفعون العشر إلى العشارين،ففي "بُصرى" وغزّة، وهما أشهر الأسواق في تلك البلاد بالنسبة إلى العرب، كان تجار العرب يؤدون ضريبة العشر إلى الجباة الذين عيّنهم الروم، كذلك كان يعشر أصحاب الأسواق من يفد عليها من التجار.

ويؤخذ العشر عيناً أو نقداً بحسب الثمن. ولما كان النقد قليلاً إذ ذاك كان الدفع عيناً هو الغالب في أداء هذه الضريبة. وقد أبطل الإسلام هذه الضريبة،وعدّها من سيماء أهل الجاهلية، وجعل رفعها من التخفيف الذي جاء به دين الله. وقد ذكر المحدثون أحاديث في إبطالها وفي ذم من يعشر الناس. بل ورد في بعضها جواز قتل العشّار. وبظهر ان أهل الجاهلية كانوا يشتطون في أخذها ويسرفون في ظلم التجار وأصحاب السوق في أخذها، فذموّا العشار وهجوه. ودعوا عليه. وقد ذكر بعض أهل الأخبار ان "سهيلاً" كان عشاراً على طريق اليمن ظلوماً، فمسخه الله كوكباً.

وكان مما يفعله العشّارون وضع "المآصر" على مفترقات وملتقيات الطرق وعلى المواضع المهمة من الأنهار ليؤصروا السابلة وأصحاب السفن، ولتؤخذ منهم العشور.

وقد عرف من،كان يقوم بالتقدير والخرص ب "الحازر" و الخارص ". لأنه كان يحزر المال ويقدر ما يجب أخذه منه ومن غلة الزرع بالحدس والتقدير.وكان الحازر يشتد في أخذ الخزرة ويتعسف على الناس. وقد نهى النبي عن ذلك والحازر مثل العشار والخارص من المكروهين عند الجاهليين. و "الخارص" المقدر والمخمن، ومنه خرص النخل والتمر، لأن الخرص، إنما هو تقدير بظن لا احاطة. وما يدفع عن الأرض والنخل الخرص. يقال:كم خرص أرضك،وكم خرص نخلك، وفاعل ذلك الخارص. وكان النبي يبعث الخرّاص لخرص نخيل خيبر عند ادراك ثمرها، فيحزرونه رطباً كذا وثمراً كذا.

وكان أهل الحجاز وبقية جزيرة العرب، يدفعون العشر عن غلات أرضهم. فلما جاء الإسلام، اقر ذلك، وجعل ارض العرب ارض عشر. ولم يدخلها الخلفاء في أرض الخراج.

ويعبر عن الضريبة التي تقابل ضريبة "الكمارك" في مصطلحنا،بلفظة Telos،و ب Telonion عن "الكمرك"،أي الموضع الذي تؤخذ به الضرائب "الكمركية" من التجار. وكان الرومان واليونان قد أقاموا "كمارك" على حدودهم مع البلاد العربية وضعوا فيها جباة لجباية العرب القادمين من جزيرة العرب للاتجار.

ولما كان من الصعب على الروم جباية العشور والحقوق الأخرى من العرب، وكلوا أمر الجباية إلى سادات القبائل والأمراء في الغالب، ممن يعتمدون عليهم وممن لهم قبيلة قوية تخشاها القبائل الأخرى، وقد كان أمد هذا الايكال يتوقف على أهمية الشخص ومكانته ومنزلة قبيلته، فإذا مات وترك خلفاً ضعيفاً،أو فقدت قبيلته سلطانها، حتى طمعت فيها قبائل أخرى أقوى منها، ووجدوا ألا أمل لهم في هذا الشخص، فإنهم ينبذونه ويعطون الجباية إلى شخص آخر. وقد كان "سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، أحد من أولى إليهم الروم العشور،وقد هجاه "حسان بن ثابت" فوصفه بأنه "دمية" في لوح باب،وانه بئس الخفير، وانه غادر خدّاع،ولا ينفك أي جذامي يغدر ويخدع ما دام "ابن روح" حياً.

وقد أقر العشر في الإسلام، ولكن بأسلوب آخر، فأخذ من "خثعم"،كما أخذ من أهل "دومة الجندل ". وأخذ أيضاً من حمير، فقد جاء في كتاب الرسول إلى رؤسائهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان: "وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه،وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. وإن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفيَ ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة،وفي كل عشر من الإبل شاتان 000".وعقد مثل ذلك مع بني الحارث بن كعب.

والكلام على العشر في الإسلام، وعلى الأرضين التي كانت تدفع العشر، يخرجنا من بحثنا هذا، وللفقهاء كلام طويل مسهب في هذا الموضوع، فعلى كتب الخراج مثل كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي، وكتب الفقه والأحكام أحيل القارئ الراغب في الوقوف على العشر في الإسلام.

والعشر من الضرائب القديمة المعروفة عند الشعوب القديمة من ساميين وغيرهم،وتكاد تكون من أقدم الضرائب المعروفة في التأريخ،وهي "اشرو" Ish-ru-u في النصوص الآشورية و "معشير" Ma,asher، في العبرانية، وقد كان الآشوريون يتقاضون العشر من التمر والحبوب عيناً، كما كانوا يتقاضونه ذهباً.

وقد كانت معظم الشعوب الهندوجرمانية والسامية وغيرها تعشر أموالها: تعشر الماشية، والأثمار، وكل ما تملكه وما تضمه في الحرب،وتخصصه باسم آلهتها.فالعشر زكاة قديمة أدتها الشعوب الى آلهتها تقرباً اليها وتطهيراً لأموالها، فهي من أقدم الضرائب عند الإنسان.

وقد خصص العشر ب "يهوه" إلهَ اسرائيل وحده، يجمعها اللاويون باسمه،ولكننا نجد أن العبرانيين دفعوا العشر في بعض الأحيان إلى الملوك كذلك.

ويمكن رد الأسباب التي دعت العبرانيين إلى تخصيص العشر بالله "يهوه " إلى اعتقاد العبرانيين أن الله هو مالك كل شيء،وأن الأرض والعالم كله له، مانح الخصب والحياة، وأنه الكائن الأعلى، ولهذا خصصوا عشر ما ينتجه العبراني لله، ثم لسبب آخر نشأ فيما بعد،هو تقرب العبرانيين الى إلههم بهذا العشر،عبادة له وتقرباً اليه.وذلك كما يفهم من الآيات الواردة عن العشر في التوراة.

وتدفع القبائل الضعيفة إتاوة الى القبائل الكبيرة أو إلى الملوك، تكون بمثابة حق الحماية والاعتراف بالسيادة. ولهذا كانت القبائل التي لا تدفع إتاوة تتباهى وتفتخر لأن ذلك يدل على عزتها ومنعتها ويقال: إن الأوس والخزرج ابنيّ قيلة،لم يؤديا إتاوة قسط في الجاهلية الى أحد من الملوك. فلما كتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم،لم يجيبوه،وتحارب معهم، ثم ارتحل عنهم.

وكانت للغطاريف على دوس إتاوة يأخذونها كل سنة، حتى إن الرجل منهم كان يأتي بيت الدوسي،فيضع سهمه أو نعله على الباب ثم يدخل.

ويقال للقوم الذين قهروا على أمرهم، واضطروا إلى أداء ضريبة لمن قهرهم "النخة"،وصاروا "نخة" له.

ولا بد لي من الإشارة هنا إلى جباية كانت الحكومات تأخذها عيناً عن الحبوب والزراعة، للإنفاق منها على إعاشة الجيش. وقد عرفت ب "س ا و ل ت"،"ساولت". ذكرت في النصوص السبئية والقتبانية. فهي ضريبة عينية تؤخذ من الزراعة، يجبيها موظفون يعرفون ب "ساولت"،فهم جّماع هذه الضريبة.

وكان ملاك الجاهلية قد وضعوا "الوضائع" على رعيتهم، من الزكوات والمغنم في الحروب،يستأثرون به. وقد أشير اليها في الحديث. ورد في حديث "طهفة بن زهير النهدي"، أن الرسول قال: "لم يا بني نهد ودائع الشرك و وضائع الملك. أي ما وضع عليهم في ملكهم من الزكوات. أي لكم الوظائف التي نوظفها على المسلمين لا نزيد عليكم فيها شيئاً. وقيل معناه: ما كان من ملوك الجاهلية يوظفون على رعيتهم ويستأثرون به في الحروب وغيرها من المغنم. أي لا نأخذ منكم ما كان ملوككم وظفوه عليكم، بل هو لكم".

و الوضائع: أثقال القوم. وأما الوضائع الذين وضعهم كسرى، فهم شبه الرهائن، كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده. وقيل: الوضائع قوم كان كسرى ينقلهم من أرضهم فيسكنهم أرضاً أخرى، حتى يصيروا بها وضيعة أبداً. وهم الشحن والمسالح.

والودائع: العهود والمواثيق. ويحتمل أن تكون كل ما يستودع من رهائن، من مال وبنين، ليكون رهينة على الوفاء بالعهد والموعد.

وذكر "الجاحظ" ان في جملة ما ترك من ألفاظ الجاهلية التي لها صلة بالجباية والمال "الحُملان"، ويراد بها الرشوة وما يؤخذ للسلطان. والحُملان ما يحمل على الشيء من أجر، و "الحمالة" الدية أو الغرامة التي يحملها قوم عن قوم.

ويظهر من شعر العبديّ: أيا ابن المعلى خلتنا أم حسبتـنـا  صراريُّ نعطى الماكسينُ مكوسا

ان أصحاب السفن وهم "الصراريون"،كانوا يعطون المكس عن البضائع التي تحملها سفنهم، حين وصولها إلى المواني.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق