إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 9 يناير 2016

941 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخمسون الحياة الليلية


941

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
   
الفصل الخمسون

الحياة الليلية


والحياة الليلية حياة هادئة على وتيرة واحدة، ياًوي الناس الى بيوتهم. مع غروب الشمس في الغالب، أما وجهاء القوم، فقد كانوا يتسامرون في بيوتهم وفي مضاربهم، وذلك بأن يأتي أصدقاؤهم اليهم فيتحدثون معهم ويتذاكرون الأيام الماضية وما يقع من أحداث إلى ساعات من الليل ثم يعودون إلى بيوتهم. ويكون السمر في الليل خاصة، والسمر الظلمة. ولهذا كانوا يقسمون بالسمر والقمر. أي بالظلمة والقمر. ثم أطلق السمر على السمر عامة في الليل أو في النهار. وقد صار هذا "السمر" أساساً للقصص العربي وللادب العربي والتاريخ الجاهلي. وعلى الرغم من أن طابع السمر، أي القص والتحدث والانصات إلى المسامر، لا يتفق مع الطابع التأريخي، إلا أنه موّن المؤرخين مع ذلك بشيء من أخبار أيامها ورجالها في صورة مم ألصور المعروفة عن القص. والعادة أن الذين يبرزون ويظهرون في رواية القصص هم أصحاب الالسنة، اللبقون الذين أوتوا مواهب خاصة، والذين يجيدون معرفة نفسيات من يحيط بهم للاستماع إلى قصصهم. فيحدثون السامعين اليهم بما سمعوه ممن تقدم عليهم أو من يعاصرهم من أخبار وحوادث مسلّية طريفة كان الجاهليون إذ ذاك يتشوقون إلى الاستماع اليها. ومن ذلك قصص إلأيام والأبطال الشجعان الذين سأهموا فيها، وقد يكون المتكلم نفسه ممن شهد الأيام وقائل فيها. وهذا النوع من السمر، لا يتقيد بالصدق وبالتعقل، كما أن المستمعين لا يهمهم فيه إذا كان معقولاً أو غير معقول.

وكل ما يهمه منه هو التلذذ بسماع القصص أو الأشعار أو الأخبار وأمور الشجعان أو غير ذلك.ولما كان السمر يكون في كل بيت وفي كل مكان. وهو يتناسب مع عقلية القاص أو المتكلم وعقلية السامع وحالاته النفسية التي يكون عليها عند الإستماع الى السمر، لهذا كان السمر ألواناً وأشكالا، منه ما يتناول أخبار العالم، كما وصلت إلى البادية، ومنه ما يتناول أخبار الملوك وأخبار سادات القبائل،ومنه ما يتناول الشعر والمناسبات التي قيل الشعر فيها، ومنها ما يتناول الجنّ والأساطير والخرافات وأمثال ذلك من غريب، قد يبهر لبّ أذكى الناس، ويلهب في السامعين نيران العواطف، فيجعلهم يقبلون على الاستماع اليه بكل قلوبهم. على الاستماع إلى هذا العنصر: عنصر التصنع في القصّ والإغراب، لأن من طبع الإنسان البحث والتفتيش عن كل شيء غريب عجيب.

ويتخذ الملوك والأشراف وذوو اليسر لهم ندماء، يشربون معهم ويقضون وقتهم بالمنادمة. وهم من المقربين إلى الملوك ومن ضيوفهم الذين تكون لهم عندهم مكانة خاصة، وكان من عادة أهل القرى، اتخاذ الندماء، والغالب أن المنادمة تكون على الشراب. ونجد فىِ أخبار "مكة" التي يذكرها أهل الأخبار، أسماء جماعة من أشرافها، اختصوا بمنادمة بعضهم بعضاً. يبقون في منادمتهم مدة طويلة وقد يقع سوء فهم بينهما، فيترك أحدهم منادمة صاحبه، لينادم غيره.

ويجلس الملك أو سيد القبيلة في صدر المجلس، ودونه بقية الجالسين على حسب المنازل والدرجات وقد عطًّر نفسه، وتطيب، وتضمخ بالعنبر وبالمسك. والظاهر أنهم كانوا يكثرون من وضع المسك على رؤوسهم حتى كان يبدوا واضحاً جلياً من مفارقهم. وقد أشير إلى هذه العادة في الشعر والأخبار.

وكان من عادة سادة العرب استعمال الخلوق والطيب في الدعة وفي جلوسهم مجالس أنسهم، مثل مجالس السماع والغناء. وكان المتمكنون. منهم وعلى رأسهم الملوك يضمخون.أجسادهم ورؤوسهم بالطيب حتى كأنه يقطر منهم. فكانت تفوح منها رائحة الطيب. فضلاً عن البخور الذي يتبخر به.

وقد كان الأغنياء والمتمكنون من الناس يشترون العطور ويكثرون من التطيب بها. وقد تباهى "كعب بن الأشرف" بأنه كان يملك أطيب العطور المعروفة عند العرب.

وتكون ملابسهم بالطبع من أحسن الملابس، من الديباج أو من الخز أو من الكتان، وتوشى بالشهب، وتقصب به. وقد تكون للملك دور خاصة بنسيجه، تنسج فيها حلله وما يجود به على ضيوفه وزائريه. ولديه ملابس كثيرة حاضرة، إذ طالما كان يخلع ملابسه التي يرتديها في المجلس ليعطيها إلى حاضر مدحه فأجاد في مدحه، أو لشخص قال كلاماً ظريفاً استحسنه، ومن يناله هذا ا التكريم يفتخر به بين أقرانه ويتباهى: فهي من المفاخر التي كان يتباهى بها في ذلك الزمان. وعادة الخلع، خلع الحلل والملابس التي يلبسها الملوك على السادة رؤساء القبائل والأشراف، أمارة على التكريم والتقدير، هي عادة معروفة في الجاهلية، وطالما أثارت حسد الرؤساء وتباغضهم، إذ عدّ خلع الملوك لملابسهم على السيد، تفضلاً له وتقديما على غيره من السادة رؤساء القبائل. وكان لهذه الرسوم والعادات الني لا نعيرها اهتماماً في زماننا ولا نقيم لها وزناً،أهمية كبيرة في عرف ذلك العهد، وقد عرفت هذه العادة في الإسلام أيضاً. وقد كان المسلمون يتباهون بالحصول على خلع من الرسول، خلعها عليهم من ملابسه التي يلبسها، فإن فيها تكريماً، وفيها بركة لمن خلعت عليه، لأنها من ملابس الرسول.

وقد عرفت هذه الحلل والخلع ب "أثواب الرضى"، لأنها لا تعطى إلاّ تعبيراً عن رضى الملك عن الشخص الذي أعطيت له. وكان جباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. وقد أغدق "النعمان" بها على مادحيه. وكان يقول: "هكذا فليمدح الملوك".

وقد ذكر أهل الأخبار أن أولئك الملوك اتخذوا ندماء من الفرس والروم أيضاً، فذكروا مثلاً أن الملك النعمان كان له نديمان، يعرف أحدهما ب "النطاسي" وسمه "سرجون"، ويعرف الآخر ب "توفيل"، وكلاهما من الروم. وورد في رواية أخرى: أن أحد النديمين هو "سرجون بن توفل" " "توفيل"، وكان رجلاً من أهل الشام تاجراً حريفاً للنعمان يبايعه، و كان أديباً حسن الحديث والمنادمة: فاستخفه النعمان. وكان إذا أراد أن يخلو عن شرابه بعث اليه والى "النطاسي"، وهو رومي كذلك متطبب، زهو النديم الآخر له، وكان طبيباً بارعاً، ضرب به المثل عند عن العرب لبراعته بالطب.

وفي منادمة النعمان للنطاسي ولابن توفيل، أشير في بيت شعر للشاعر الربيع ابن زياد المعروف بالكامل، وهو: أبرقْ بأرضك يا نعمان متكـئاً  مع النطاسي يوماً وابن توفيلا

وممن ذكرهم أهل الأخبار من ندماء قريش عبد المطلب بن هاشم. كان نديماً لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى "نفيل بن عبد العزى". فلما نفر عبد المطلب افترقا. ونادم حرب عبد اللهَ بن جدَعان. ونادم حمزة عبد الله بن السائب المخزومي، وكان أبو أحيحة سعيد بن العاص نديماً للوليد بن المغيرة المخزومي، - وكان معمر بن حبيب الجمحي نديماً لأمية بن خلف بن وهب بن حذافة. وكان عقبة بن أبي معيط نديماً لأبيّ بن خلف. وكان الأسود بن المطلب بن أسد نديماً للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكانا من أعز قريش فيَ الجاهلية و كانا يطوفان بالبيت متقلديين بسيفين سيفين.وكان أبو طالب نديماً لمسافر بن أبي عمرو ابن أمية. فمات مسافر. فنادم أبو طالب بعدر عمرو بن عبد ودّ بن نضر. وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس نديماً لمطعم بن في عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان أبو سفيان نّديماً للعباس بن عبد المطلب.وكان ألفاكه بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم نديماً لعوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة. وكان زيد بن عمرو بن نفيل نديماً لورقة بن نوفل بن أسد.وكان شيبة بن ربيعة ابن عبد شمس نديماً لعثمان بن الحويرث. وكان العاص بن سعيد بن العاص نديماً للعاص بن هشام بن المغيرة. وكان يدعيان أحمقي قريش و كان أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب نديماً للحارث بن عامر بن نوفل. وكان الولبد بن عتبة ابن ربيعة نديماً للعاص بن منبه السهمي. وكان ضرار بن الخطاّب بن مرداس الفهري الشاعر نديماً لهبيرة بن أبي وهب المخزومي.وكان أبو جهل بن هشام وهو عمرو بن هشام نديماً للحكم بن أبي العاص بن أمية. وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديماً لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد.وكان العاص بن وائل بن هشام ابنّ سعيد بن سهم، نديماً لهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبي جهل. وكان نبيه بن الحجاج بن عامر السهمي نديماً للنضر بن الحارث. وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة نديماً لحنظلة بن أبي سفيان بن حرب. وكان الزبير بن عبد المطلب، وهو من فتيان قريش، نديماً لمالك بن عميلة بن السباق ابن عبد الدار.وكان الأرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف، وهو من فتيان قريش أيضاً نديماً لسويد بن هرمي بن عامر الجمحي. وكان سويد أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. وكان الحارث بن حرب بن أمية نديماً للحارث ابن عبد المطلب. فلما مات نادم العوّام بن خويلد بن أسد. وكان الحارث بن أسد بن عبد العُزّى نديماً لعبد العزُِّى بن عثمان بن عبد الدار. وكان ابو البختري العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد نديماً لطلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار. وكان منبهّ بن الحجاج السهمي نديماً لطعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديماً لعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وكان ابو امية بن المغيرة المخزومي نديماً لأبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وكانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي.وكان ابو قيس بن عبد مناف نديماً لسفيان بن أمية بن عبد شمس. وكان ابو العاص ابن امية نديماً لقيس بن عدي بن سهم. وكان يأتي ألخَمّار وبيده مقرعة. فيعرض عليه خمر، فإن كانت جيدة، وإلاّ قال له: أجد خمرك، تم يقرع رأسه وينصرف.

وقد يستدعي الملوك في مجالس أنسهم الخاصة من يضحكهم ويسلّيهم ويجلب لهم البهجة والسرور. من امثال القصاصين الذين يقصون لهم القصص،والمسامرون الذين يسامرون الملوك بأنواع قصص السمر والحكايات المضحكة الغريبة والأمور المثيرة، والمضحكون الذين يأتون يالنكت وبالأفعال المضحكة لإضحاك الملك.

وقد كان للملك "النعمان بن المنذر" مضحك اسمه "القرقرة"، كان يضحك منه "النعمان"، واسمه "سعد". والقرقرة: نوع من الضحك، اختص يالضحك العالي منه. وقد أدخلوه في المستأكلين والمتطفلين. قالوا سأله أحد الأشخاص يوماً: ما رأيناك إلا" وأنت تزيد شحماً وتقطر دماً. فقال: لأني لا آخذ ولا أعطي، وأخطئ ولا ألام، فأنا طول الدهر مسرور ضاحك.

وقد جاء في شعر للشاعر "لبيد" وصف مجلس للنعمان، وقد وقف فيه "الهبانيق" أي الوصفاء بأيديهم الأباريق ينتظرون إشارة من أحد جلساء النعمان ليصبوا له خمراً طيبة من خمور تلك الأباريق. فإذا طلب منهم ملء كأس ساروا إلى الطالب سيراً فاتراً وبتؤدة ليملاؤا له الكأس.

وكانت لهم عادات وتقاليد في مجالس الشرب وفي مجالس الطعام على نحو ما نفعل اليوم في المآدب الرسمية، فكان من عادة ملوك الغساسنة والمناذرة إجلاس السادة الرؤساء والمقربين اليهم على يمينهم وعلى مقربة منهم، تعظيماً لشانهم، ودلالة على مكانة الشخص عندهم. فإذا قدم الشراب أو الطعام، قدم الى الملك اولاً، فإذا شرب منه، أو ذاقه، أمر فقدم الشراب أو الطعام إلى من هو في يمينه. وقد اتبعت هذه العادة عند سائر الناس في الولائم والدعوات. فكان "النعمان بن المنذر" مثلاً إذا همت الوفود التي تفد اليه يالانصراف، أمر باتخاذ مجلس لهم، يطعمون فيه معه، ويشربون. وكان إذا وضع الشراب سقي النعمان، فمن بدأ به على أثره فهو أفضل الوفد. ويذكر أنه أقام مجلساً ذات يوم ضم فيه من وفود "ربيعة" "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك" البكرباّن. وفيمن قدم عليه من وفد "مضر" من قيس عيلان: "عامر بن مالك" و "عامر بن الطفيل"، ومن تميم "قيس بن عاصم" و "الاقرع بن حابس"، فلما انتهوا إلى النعمان أكرمهم وحياهم، وأمر "القينة" أن تسقي "بسطام بن قيس"، المعروف ب "ذي الجدين" أولاً، ثم تسقي الآخربن. فا"نزعح بقية سادات الوفود من هذه المعاملة التي ااعتبروها إهانة متعمدة ألحقت بهم.

وإلى هذه العادة، عادة تقديم الأيمن، أشير فس شعر عمرو بن كلثوم في هذا البيت صَبَنْتِ الكأس عنّا أم عمرو  وكان الكأس مجراها اليمينا

و "الردف"، هو الذي يجلس على يمين الملك في قصور الحيرة فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس. وإذا غزا الملك، جلس الردف في مجلسه، وخلفه على الناس حتى يرجع من غزاته. وله المرباع، فهي منزلة كبيرة، ولهذا شرف بالجلوس على يمين الملك، والشراب من بعده. وقد اتخذت هذه المنزلة لإرضاء سادات القبائل وإسكاتهم، ومنعهم بذلك من التحرش بعرب الحيرة. وقد خصصت في "بني يربوع"، وكانوا من القبائل القوية التي تكثر الغارات.

وقد تأثر رؤساء الحيرة وأصحاب الحل والعقد والجاه منهم، والمتصلون بالحكومة الساسانية، بالعادات والرسوم المتبعة عند الفرس، فإذا هم يحاكونهم في مآكلهم وفي مجالس شربهم وأنسهم، وفي طريقة معيشتهم. جاء ذلك إليهم عن طريق اختلاطهم بهم بالطبع وشدة امتزاجهم بهم، فنرى عدي بن زيد العبادي يذكر "النستق" في شعره.

وقد دخلت على الحسناء كلَّتهـا  بعد الهدوء تضيء البيت كالصَّنَم

ينصفها نستق تكاد تكـرمـهـم  عن النصافة كالغزلان في السلم

و "النستق" الخدم، وهي من الألفاظ المعربية. و"الكلّة"، هي الستر الرقيق، ولا تزال تعرف بهذه التسمية في العراق، توضع فوق الفراش وينام تحتها، فتكون كالقبة فةقها، لتمنع البعوض والذباب والحشرات الأخرى من الدخول إلى داخلها ومن ازعاج النائم. وهي "كلتو"Kelto في لغة بني إرم.

وكان المتمكنون من أهل الجاهلية يستعملون "الكلل" للتخلص من البعوض. ينصبونها على سرير المنام وينامون تحتها.

ولا بد في المجالس والأندية التي يقصدها الضيوف أو في البيوت من تكريم الرجل بتقديم طيب إليه أو تجميره. ويكون التجمير بمبخرة فيها نار، يرمى عليها شيء من بخور أو مواد أخرى عطرة لنبعث منها رائحة طيبة تتجه نحو الشخص المراد تكريمه، فيتبخر بها. والتجمير علامة بالطبع من علامات التقدير والتكريم. وهي ما زالت معروفة، وإن أخذت شأن كثير من العادات والتقاليد القديمة بالانقراض. وقد كانوا يجمرون الميت كذلك، إكراماً له، وهو تبخيره بالطيب.، لتكون رائحته طيبة. ورد في الحديث: إذا أجمرتم الميت، فجمروه ثلاثاً.

ونظراً إلى شح البادية وفقر الحياة وصعوبتها في تلك الأيام، صار الملوك ملاذاً لذوي العسر والحاجات، ولا سيما لأصحاب الألسنة من الشعراء الذين كان للسانهم خطر وأثر في نفوس المجتمع إذْ ذاك، فللمديح قيمة وللهجاء أثر في الناس ينتقل بينهم من مكان إلى مكان. فكان هؤلاء يتحايلون ويبحثون عن مختلف المناسبات للوصول إلى الملوك لنيل عطائهم وألطافهم. وكانت مناسبات الشرب والأنس من خيرة المناسبات بالنسبة إليهم، لجو السرور والمرح الذي كان يخيم. فيه على الملوك، فيعطون ويجودون ولا يبالون بما يعطون إذا كان صاحب الحاجة لبقاً لطيفاً حلو المعشر، يسيطر بلسانه على الملك، وقد يجعله في عداد المقربين إليه.

ولما كانت الدنانير والداراهم، قليلة إذْ ذاك، صارت أعطية الملوك لسادات القبائل مالاً في الغالب، والمال عندهم: الإبل. ويعطون الأكسية والألبسة والطعام لهم ولسواد الناس من الفقراء المحتاجين الذين يقفون عند أبواب الملك يلتمسون منهم الرحمة والشفقة والانقاذ من الجوع.

والجائزة العطية. فكان الملوك يجيزون من يطلب منهم الجوائز ومنها:"القطوط"، جمع "قط"، وهي الصك بالجائزة والصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. قال اللأعشى: ولا الملك النعمان، يوم لقيتـه  بغبطته، يعطي القطوطَ ويأفق

ولسادات القبائل أنديتهم أيضاً، يقصدها أشراف القبيلة والناس. وكانوا إذا اجتمعوا تداولوا أمور قبيلتهم وما وقع بين القبائل ونظروا في أيامهم الماضية وقد يتناشدون الأشعار ويتفاخرون. ويذكر علماء اللغة أن "النادي المجلس يندون إليه من حوإليه ولا يسمى نادياً حتى يكون فيه أهله. وإذا تفرقوا لم يكن نادياً. وفي التنزيل العزيز: وتأتون في ناديكم المنكر. قيل كانوا يحذفون الناس في المجالس، فأعلم الله تعالى أن هذا من المنكر وأنه لا يتبغي أن يتعاشروا عليه ولا يجتمعوا على الهزء والتلهي وأن لا يجتمعوا إلا فيما قرب من الله وباعد من سخطه". وقد كان ملا مكة إذا اجتمعوا في نواديهم تذاكروا أمور ساداتها فغض قوم من قوم، وسخر بعض من بعض وروى بعض عن بعض قصصاً للغض من شأنهم، شأن المجتمعات الفارغة التي لا لهو فيها يلهي ولا عمل فيها يشغل. فكان هذا شأنهم حتى نزل التنديد بفعلهم في القرآن. كما نزل يندد في أمور أخرى كانت من هذا القبيل، مثل "المشمعة"، العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم. "وفي الحديث: من تتبع المشمعة يشمع الله به، أراد من كان شأنه العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم جازاه الله جزاء ذلك. وقال الجوهري: أي من عبث بالناس أصاره الله إلى حالة يعبث به فيها".

وقد لجأ العرب إلى اتخاذ وسائل للتخفيف من شدة وطأة اسرّ عليهم. إذْ أن الجوّ حار في بلاد العرب بالصيف. وفي جملة ما استخدموه: "المراوح". ورد أن الناس كانوا يستعملونها للترويح عن أنفسهمْ. وللريح أهمية كبيرة في جزيرة العرب وفي البلاد الحارة. إذ أن وقوفه يزعج الناس ويؤذيهم، فلا غرابة إذا ما اعتبروا الرياح رحمة تغيث الناس وتفرج عن كربهم. وتغَنّوا بها وسرّوا بهبوبها سروراً كبيراً. بهبوب الرياح المنعشة المرطبة التي تحمل المزن لهم. فتصيب الأرض وترويها بما تحمله معها من مزن. ولريح الصبا، ذكريات طيبة عند العرب. ولها أثر خالد في الشعر، حتى أنهم كانوا يطعمون عند هبوبها. وهي ريح معروفة تقابل الدبور. سميت بذلك لأنها تستقبل البيت وكأنها تحن اليه، قال ابن الأعرابي مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش.. وتزعم العرب أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه، فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا، فوزعته بعضه على بعض حتى يصير كسفاً واحداً، والجنوب تلحق روادفه به وتمده من المدد، والشمال تمزق السحاب.

ومن وسائل التلطيف من حدة الحرّ، رش الأرض بالماء. أي نفح المكان بالماء. ورش الحصر المنسوجة من جريد النخل أو من الحلفاء أو من غيرها بالماء، حتى تبرد فينام الإنسان عليها، أو تعليقها ونضحها بالماء. فيبرد الهواء الذي يمر من مساماتها بعض الشيء. ورش ستر الكرباس والخيش بالماء، ليبرد الهواء الذي يخترق مساماتها، فينعش الجالس أمامها.

وكان الوجوه وأشراف البلد إذا أرادوا الإنشراح شربوا وسمعوا القيان، وكان لأكثرهم قيان امتلكوها للترفيه عنهم بالغناء. و "القينة" الأمة المغنية أو أعم. يذكر علماء اللغة، أن اللفظة من "التقين" التزين، لأنها كانت تزين. وذكر أن القينة الأمة والجارية تخدم حسب،. و "المغنية"هي التي تغني للناس، والتي اتخذت الغناء حرفة لها، تعيش عليها.

ومنهم من يستدعي اليه أصحاب المجون والنوادر والفكاهات والملح للترفيه عنهم. وقد اشتهر بالمزاح رجل اسمه "نعيمان" وكان من أصحاب رسول الله البدريين. والمجون ألاّ يبالي الإنسان بما صنع. والماجن عند العرب: الذي يرتكب المقابح المردية والفضائح المخزية، ولا يمضه عذل عاذله ولا تقريع من يقرعه، ولا يبالي قولاً وفعلا" لقلة استحيائه.

والمزاح: الدعابة، والمزح نقيض الجد. وليس في طبع العربي ميل إلى المزاح، إذ يراه منقصة بحق الرجل واسفافاً يعرضه إلى التهكم والازدراء به. وذكر بعض علماء اللغة أن الدعاية المزاح مع لعب. وقيل يتكلم بما يستملح.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق