إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 5 يناير 2016

818 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون الجوار


818

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

الجوار

وللجوار صلة كبيرة ب "النسب" وبالعصبية عند للعرب، فقد يتوثق الجوار، وتتقوى أواصره فيصير نسباً، فيدخل عندئذ نسب "المستجير" بنسب "المجير"، ويصير وكأنه نسب واحد، هو نسب "المجير". وقد اندمجت ب "الجوار" أنساب كثيرة من القبائل الصغيرة، أو القبائل التي تشعر بخوف من قبيلة أخرى أكبر منها، فتضطر إلى طلب "جوار" قبيلة أكبر منها، نتدافع عنها، ولتكون بذلك قوة رادعة تحمي حياتها و تحافظ على نفسها ومالها بهذا الجوار.

وهو من السنن التي حافظ عليها الجاهليون، و إعتدّوها كالقوانين. فإذا استجار شخص بآخر، أو استجارت قبيلة بأخرى، اكتسب هذا الجواز صيغة قانونية، ووجب على المجير المحافظة على حق الجوار. و إلا نزلت السبة بالمجير، وازدراه الناس.

ويكتسب الجوار حكمه بإعلان الطرفين قبولهم له على الملأ، في أماكن الاجتماع في الغالب، في مثل المواسم من حج أو سوق. فإذا أعلن ذلك، و علم الناس الخبر، صار المجار في ذمة المجر، وترتب على المجير إن يكون مسؤولاً عن كل ما يقع على المجير وما يصدر منه.

وقد ورد في القرآن الكريم، )والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل(. والجار ذو القربى هو نسيبك النازل معك في الحواء، ويكون نازلاً في بلدة وأنت في أخرى، فله حرمة جوار القرابة. والجار الجنب إن لا ينهون له مناسب في جيء إليه ويسأله إن يجيره، أي يمنعه فينزل معه، فهذا الجار الجنب له حرمة نزوله في جواره ومنعته وركونه إلى أمانه وعهده. لأنه جاوره وان كان نسبه في قوم آخرين ولا قرابة له به.

وكان سيّد العشيرة إذا أجار عليها إنساناً لم يخفروه. و إذا دخل قبته أو خباءه أو دار حول خيمته، ونادى بالجوار والأمان صار آمناً وقد وجب على صاحب القبة أو الخباء أو الخيمة حمايته، حتى وان كان من سائر أبناء القبيلة.

والجار والمجير والمعيذ واحد. ومن عاذ بشخض استجار به. ومن هذا القبيل استجارة أهل الجاهلية بالجِنّ. "قبل: إنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نزلت رفقة منهم في وادٍ، قالت: نعوذ بعزيز هذا الوادي من مرد الجن وسفهائهم. أي نلوذ به ونستجير".

وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص إن بجعله جاراً ومستجيراً به، وجبت عليه حمايته، وحق  

على المجار الدفاع عن مجيره: و الذبّ عنه. وإلا عدّ ناقضاً، للعهد، ناكثاً للوعد، مخالفا لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها، و الدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك "جار". والجار. الذي أجرته من إن يظلمه ظالم. و جارك المستجير بك، والمجير هو الذي يمنعك ويجيرك. و أجاره: أنقذه من شيء يقع عليه.

وقد أوصوا بالجار خيراً، ورجوا من الجار إن يكون كذلك قدوة حسنة في جواره، فلا يسيء إلى جاره أو إلى جيرانه، و على الجار إن يغض نظره من عيوب جاره، وأن يكون يقظاً في حفظ حقوق جاره، فطناً في الدفاع عنه. ليس له أن يتملص من حقوق الجوار إذا استحقت ووجبت، لأن للجار حقاً عليك.

وكان يقال في الجاهلية للرجل إذا استجار بيثرب: قوقل في هذا الجبل ثم قد أمنت. فإذا فعل أحد ذلك، وجب على أهل يثرب قبول جواره والدفاع عنه. وذكر إن "قوقل" رجل من الخزرج، اسمه "غنم بن عوف بن عمرو ابن عوف بن الخزرج"، سميّ به "لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب قال له: قوقل في هذا الجبل، وقد أمنت. أي ارتق". وقيل: "لأنهم كانوا إذا أجاروا أحداً أعطوه سهماً. وقالوا: قوقل به حيث شئت. أي سر به حيث شئت". وذكروا. أيضاً أن "القوقل" اسم أبي بطن من الأنصار، اسمه ثعلبة بن دعد بن فهر بن ثعلبة بنْ غنم بن عوف بن الخزرج. وقالوا: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة.

والغاية من الجوار طلب الحماية والمحافظة على النفس والأهل والمال، لذلك لا يطلبه في العادة إلا المحتاج إليه. ولا يشتط في الجوار نزول الجار قرب المجير، أو في جواره أي أن يكون بيته ملتصقاً ببيته. فقد يكون على البعد كذلك. لأن الجوار حماية ورعاية، وتكون الحماية. حيث تصل سلطة المجير، وتراعى فيه حرمته و ذمته. ويكون في إمكانه الدفاع عن جاره. ولهذا كان على الجار أن يعرف حدود "الجوار"، وقد يعلقانه بأجل احترازاً وتحفظاً من الجوار المطلق، الذي لا يعلق بزمن و إنما يكون عاماً.

ولا يجير أحد إنساناً إلا إذا أحس إن في إمكانه أداء أمانة الجوار. و إلا عرض نفسه وأهله وقبيلته للأذى والسبةّ، إن قبل شخص جوار أحد، وهو في وضع، لا يمكنه من الوفاء بحقوق الجوار. ولا يطلب رجل مجاورة رجل آخر إلا إذا شعر أن من سيستجير به هو كفؤ لأن يجيره. و إلا فما الفائدة من الاستجارة برجل ضعيف قد يكون هو نفسه في حاجة إذ الاستجارة بأحد.

ولا يشترط في الجوار أن يكون جوار أحياء. فقد يستجير إنسان بقبر، فيصير في جواره وفي حرمة ذلك القبر. وعلى أصحاب ذلك القبر الذبّ عن هذا الجار والدفاع عنه. ومن هذا القبيل استجارة الناس بقبر "عامر بن الطفيل". فقد ذكر أن قومه من "بني عامر"، وضعوا حول قبره أنصاباً على مسافة منه، إذا اجتازها اللاجئ ودخل "الحرم" المحيط بالقبر، صار آمناً على ماله ونفسه، لا يخشى خشية. أحد، يريد إنزال سوء به. وقد منعوا دخول حيوان إليه أو مرور راكب به، احتراماً لحرمة صاحب هذا القبر. وكالذي كان من أمر قبر "تميم بن مر"" جد قبيلة تميم في عرف النسابين.

وقد يستجير الإنسان بمعبد أو بأي موضع مقدس، فيكون في جوار وحرمة ذلك المكان. وعلى أصحابه أداء حقوق الجوار. ومن هذا القبيل جوار مكة. فمن دخل حرم "البيت" صار في جواره، آمناً مطمئاً لا يجوز الاعتداء عليه و لا إخافته، لأنه في حرمة "البيت" وعلى قريش الذبّ عنة.

وقد كان لآل "محلم بن ذهل" قبة بوادي "عوف" عرفت ب "قبة المعاذة"، من لجأ إليها أعاذوه. و "آل عوف" من اشرافهم في الجاهلية ومن رجالهم "عوف" التي يضرب به المثل: لا حرّ بوادي عوف. والعوذ الالتجاء. وهذا. عرفت بتلك التسمية. وهو "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان". وقد ضرب به المثل في الوفاء. فورد: "هو أوفى من عوف". وذلك لأن عمرو ابن هند طلب منه مروان القرظ. وكان قد أجاره فمنعه عوف وأبى إن يسلمه، فقال عمرو: لا حرّ بوادي عوف. أي أنه يقهر من حل بواديه وكل من فيه كالعبيد له لطاعتهم إيّاه. وهو من أمثال العرب في الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل ويذل به العزيز. و قيل إن كل من صار في ناحيته خضع له. أو قيل ذلك لأنه كان يقتل الأسارى. ولما توفي "عوف" دفن بواديه، و أقاموا قبة على قبره صارت ملاذاً لمن يطلب الجوار.

ومن طرق الجوار، أن يأتي رجل إلى رجل ليستجير به فلا يجده، فيعقد طرف ثوبه إلى طنب البيت، فإذا فعل ذلك عدّ جاراً، ووجب على صاحب البيت أن يجيره.

والجوار جواران: جوار جماعة كجوار بيت أو فخذ أو بطن أو ظهر أو عشيرة أو قبيلة، وجوار أفراد. و للجوارين حرمة وقدسية ليس أحدهما دون الآخر في الحرمة والوفاء.

و إذا نزل انسان على انسان آخر جاراً، فان من المتعارف عليه أن تكون حرمة جواره ثلاثة أيام،: "وكانت خفرة الجار ثلاثاً" فإذا انتهت، انتهت مدة الجوار. وعلى الجار الارتحال، إلا إذا جدد "المجير" جواره له، وطلب منه البقاء في جواره. فيكون عندئذ لهذا الجوار حكم آخر، إذ يبقى الجوار قائماً ما دام عقده باقياً. وقد استفاد من حق الجوار الغرباء والمسافرون، والمحتاجون وأمثالهم. فقد أمنوا على راحتهم و رزقهم وهم في محيط صعب، كما أمنوا على حياتهم، حتى أن المجير ليغفر لجاره ما قد يبدر منه من سوء بسبب حكم الجوار. قال مجير لجاره: "لولا أنك جار لقتلناك". ويشمل هذا الجوار المسافر والضيف.

ومن عاداتهم في الجوار، أن أحدهم إذا خاف، فورد على من يريد الاستجارة به، نكس رمحه، فإذا عرفه المجير، رفع رمحه. فيصير في جواره. فلما هرب "الحارث بن ظالم المرّي" من ملك الحرة، وأخذ يتنقل بين القبائل حتى وصل عكاظ وبها "عبد الله بن جدعان"، نكس رمحه أمام مضرب "ابن جدعان"، ثم رفعه حين عرفوه، وأمن وأقام بمكة، حتى أتاه أمان ملك الحيرة.

وقد يحدد الجوار بحدوده. كأن يذكر من يطلب الاستجارة لمن يريد إن يستجير به، إن استجارته به من قبيلة كذا أو من القبائل الفلانية أو من الشخص الفلاني. فإذا قبل المجير ذلك حسد جواره بما حسد في عقد الجوار. فإذا اعتدت على المستجير قبيلة أخرى لم تذكر في نص الجوار، فلا ذمة للمستجير على المجير، و ليس من حقه طلب مساعدته له. كما قد يحدد الجوار بزمن، كاقامة شخص في مكان، أو ايصاله من موضع إلى موضع، أو تعيين أمد له.

و الخفارة الخفرة: الأمان، والخفير:المجير، والخفارة: الذمة. ويقال: خفرت الرجل: أجرته وحفظته، و تخفرت به إذا استجرت به. و أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. بان يعلن ذلك ليقف عليه الناس، والا بقيت التبعة في عنق الخفير.

وعلى من أعطى خفارته لأحد، الوفاء بما أعطى، والوفاء بما ألزم نفسه به عليه، و إلا عد ناكثاً للعهد حقيراً.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق