806
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والأربعون
القبائل القوية
والقبائل مثل الدول، أنماط ودرجات..منها قبائل قوية نشطة تعتمد على نفسها في الدفاع عن كيانها، ومنها قبائل أقل من هذه القبائل شأناً وقوة تحالف مع غيرها في الدفاع عن نفسها، نم لتكون من الحلف كتلة قبلية مهابة. وقبائل صغيرة ليست لها قدرة على الدفاع عن حياتها لوحدها، لذلك تركن إلى التحالف مع قبائل أخرى أقوى منها لتحافظ بذلك على وجودها.
والقبائل القوية هي القبائل الكثيرة العدد والموارد. و إذا ترأسها سادات ذوو كفاءة وقدرة، هابتها القبائل الأخرى.، وسادت على غيرها، وكونت منها ومن القبائل التي تستولي عليها مملكة، كالذي فعلته كندة. ولم يورد العلماء شروطاً في الحد الأدنى أو الحد الأكبر للقبيلة.. وذلك من ناحية. عدد العشائر والبطون والأفخاذ، فلم نعثر على حد معين إذا بلغته جماعة من الناس وجب إطلاق لفظة "قبيلة" عليها. بل نجد علماء النسب يطلقونها أحياناً على بطون و أفخاذ، فيقولون: قبائل قريش، ويذكرون أسماءها، بينما هي في الواقع "آل" أو أرهاط وبطون.
و يقال للقبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها "الأرحى". وعرفت القبيلة التي لا تنضم إلى أحد ب "الجمرة". ذكر إنها القبيلة تقاتل جماعة قبائل. وكل قبيل انضموا فصاروا يداً واحدةً ولم يحالفوا غيرهم، فهم جمرة. وقيل: الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أحداً ولا ينضمون إلى أحد. تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل كما صبرت عبس لقبائل قيس. ولما سأل "عمر" "الحطيئة" عن عبس و مقاومتها قبائل قيس. قال: "يا أمير المؤمنين كنا ألف فارس كأننا ذهبة حمراء، لا نستجمر و لا نحالف، أي لا نسأل غيرنا إن يجتمعوا إلينا لاستغنائهم عنهم". والجمرة إجماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل.
وذكر إن "الجمرة" ألف فارس، أي القبيلة التي يكون فيها ذلك العدد من الفرسان ؛ وقيل ثلاثمائة فارس، أو نحوها. والذي يستنتج من آراء علماء اللغة والنسب في تعريف "الجمرة"، إنها القبائل المقاتلة القوية التي تعتمد على نفسها في القتال، ولا تركن إلى غيرها، ولا تحالف غيرها لتستفيد من هذا الحلف في قراع القبائل.
ومن مفاخر هذه القبائل كثرة ما عندها من فرسان، والفرسان في ذلك اليوم هم عماد حركة الجيوش، ومن أسباب القوة والانتصار. وقد عدّوا القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو نحوها جمرة، وقيل الجمرة: ألف فارس.
ومن جمرات العرب: ضبّة بن اد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة. و ذكر بعض العلماء إن جمرات العرب ثلاث جمرات: بنو ضبّة بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نمير بن عامر. فطفئت منهم جمرتان. طفئمت ضبّة، لأنها حالفت الرباب وطفئت بنو الحارث، لأنها حالفت مذحج. وبقيت "نمير" لم تطفأ، لأنها لم تحالف. وورد إن الجمرات: عبس بن ذبيان بن بغيض، والحارث بن كعب، وضبّة بن اد، وهم إخوة لأم، لأن أمهم امرأة من اليمن. تزوجها "كعب بن عبد المدّان يزيد بن قطن، فولدت له: الحارث بن كعب، وهم أشراف اليمن ثم تزوجها "بغيض بن ريث بن غطفان"، فولدت له عبساً وهم فرسان العرب، ثم تزوجها "اد" فولدت له ضبة. فجمرتان في مضر، وهما عبس وضبةّ و جمرة في اليمن، وهم بنو الحارث بن كعب. وذكر بعض آخر إن الحارث، هم بنو كعب بن علة بن جلد. ومنهم من عدّ تميماً من الجمرات.
"قال الخليل: الجمرة كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يحالفون أحداً، ولا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لمقارعة القبائل كما صبرت عبس لقيس كلها".
و إذا تأملت كلام العلماء في جمرات العرب، تجده يصادم بعضه بعضاً حتى إن الواحد منهم يذكر عدداً، ثم يذكر عدداً غيره في موضع آخر من كتابه. وقد اعتذر عن ذلك بعض العلماء إذ قال: "قلت فإذا تأملت كلامهم تجده مصادماً بعضه مع بعض"، ثم ذكر أمثلة من أمثلة هذا التصادم، ثم خلص إلى هذه النتيجة، واعتذر عنهم بقوله: "و إذا تأملت كلامهم علمت انه لا مخالفة ولا منافاة، إلا إن البعض فصل والبعض أجمل".
وعندي إن للعواطف القبلية دخل في هذا الاضطراب، فمن النسّابين من تعصب لقبيلة، فجعلها من الجمرات، بسبب صلته بها، ومنهم من تعصب لغيرها، ومنهم من تعصب على هذه القبيلة أو تلك، فأخرجها من الجمرات، فمن هنا وقع هذا الارتباك عند العلماء حين سألوا نسابي القبائل ورواة الأخبار عن أيام الجاهلية، وعن الأنساب والقبائل، وهي من أهم الامور حساسية عند العرب، فظهرت العصبية في مؤلفات أهل النسب والأخبار حين شرعوا بالتدوين.
وعرفت القبائل القوية الكبيرة التي تفرعت منها جملة قبائل ب "أم القبائل". ومن القبائل القوية "بكر بن وائل". وسبب ذلك إن القبيلة القوية تكبر بسبب انضمام القبائل الصغيرة، فإذا توسعت وتضخم عددها صار من الصب عليها البقاء في منازلها، فتضطر عندئذ على التوسع والانتشار في أرضين جديدة. و قد تغادر أحياء منها منازلها لتجد لها منزلاً طيباً جدبداً،، فتبتعد بذلك عن القبيلة الكبيرة التي جمعت تلك الأحياء. فتكون بمثابة الأم للقبائل النازحة. تربطها بها رابطة ذكرى الأمومة، التي تتحول إلى نسب تخطه ذاكرة حفاظ الأنساب.
وعرفت أربع قبائل بشدتها وبأسها، فقيل لها: "رضفات العرب". وهي: "شيبان وتغلب وبهراء وإياد".
وقيل ل "كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان" من قضاعة، و "طيء ابن ادد"، و "حنظلة بن مالك بن زيد مناة" من "تميم"، و "عامر بن صعصعة بن معاوية" من "فوازن"، "جماجم العرب". وذكر إن "الجماجم" السادات والرؤساء، وان القبائل المذكورة، كانت من جماجم القبائل، أي من رؤسائها، وقد دعيت ب "جماجم"، لأنها بمنزلة جمجمة للرأس بالنسبة للإنسان، أي إن هذه القبائل من القبائل الرئيسة عند الجاهليين.
وبين القبائل، قبائل دعاها "ابن حبيب" "أثافي العرب". وهي "سليم" و "هوازن" من "قيس عيلان"، و "غطفان"، و "أعصر" و "محارب ابن خصفة". و "الإثفية" العدد الكثير والجماعة من الناس. والظاهر إنها إنما عرفت بذلك لكثرة عددها.
ومن مفاخر القبائل اعتزالها القبائل الأخرى وعدم مخالطتها قبيلة ثانية. وتفخر الأحياء بحردها أيضاً. فيقال "حي حريد منفرد"، ومعناه-معتزل من جماعة القبيلة لا يخالطهم في ارتحاله وحلوله لعزته، لأنه لا ينزل. في قوم من ضعف وذلة لما هو عليه من القوة والكثرة.
وذكر أن القوم الذين يكون آمرهم واحداً يعرفون ب "الخليط". وذلك انهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بين هم ألفة، ويكونون يداً واحدة. فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك وريعوا.
وهناك قبائل ضعيفة، لم تتمكن إن تعيش لوحدها، لذلك تحالفت مع غيرها من قبائل أقوى منها، واندمجت بها. كما يندمج الأشخاص بالقبائل، بالحلف أو بالجوار أو بالموالاة. وعند انضمام الأحياء والعشائر والقبائل الضعيفة إلى الأقوى منها، بطريقة من الطرق، يتم ذلك، بطقوس دينية على نحو ما سأتحدث عنه في عقد الأحلاف. بسبب إن العقود في نظر العرب تستوجب البرّ بها والوفاء، ولهذا تعقد في ظروف خاصة أمام الكهنة وفي المعابد.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق