إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 5 يناير 2016

804 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون القحطانية و العدنانية


804

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

القحطانية و العدنانية


تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن القحطانية والعدنانية بما فيه الكفاية، وأعود هنا فأقول إن ما ذكرته عن أهل المدر وأهل الوبر، أي عن الحضر و البدو أو الأعراب وهم أهل البادية، لا يعني إن الحضر هم القحطانيون، وان الأعراب هم العدنانيون. كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين باعتبار إن غالبية من نسميهم القحطانيين هم حضر، أو اقرب من غيرهم إلى الحضر، وأن غالبية العدنانية أعرابية متبدية. والصواب عندنا إن في القحطانيين عرباً و أعرابا، وفي العدنانيين حضراً وبادية، وان غلبت البداوة على العدنانيين. لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه و تحضر، قحطانياً كان النازل أم عدنانياً، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل. من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر، فصار حضرياً.

ولهذا نجد في حضر جزيرة العرب أقواماً يحشرهم أهل الأنساب في قحطان، ونجد في حضرها أقواماً يرجعون نسبهم إلى عدنان.

ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر و الأعراب، أو لكيفية استثمار القبائل، فإننا في إن منازل القبائل متداخلة مشتبكة. ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية. إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب اكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فان القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة، انتشاراً لا يسل على وجود تكتل وتحزب. بل نجد القحطانية نجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على إن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، و إنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله. وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دوراً خطيراً في تكون النسب.

وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في إن القبائل وان تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعياً وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا إن ذلك لا يعني إن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وان القبائل كانت تتنقل دوماً من مكان إلى مكان. بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استناداً إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا، إن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة. كاًن تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع ل "إياد" حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى جديدة. وتكاد تكون اكثر أسباب هجرات القبائل وارتحالها من أماكنها إلى أماكن أخرى هي الأسباب المذكورة.

وطراز حياة القبائل في جزيرة العرب باستثناء العربية الجنوبية، متشابه، بحيث يصعب إن نجه فروقاً واضحة ظاهرة بين القبائل التي ينسبها النسابون المسلمون إلى قحطان أو آل عدنان، فهي متشابهة وعلى وتيرة واحدة. وأما اللغة، فإننا لا نجد فيما بين القبائل العدنانية و القحطانية أي خلاف يذكر على ما يظهر من روايات علماء اللغة. بل نجد إن لهجات القبائل القحطانية، الشمالية هي لهجات عدنانية، مخالفة للهجات أهل اليمن المعروفة التي كانت سائدة في اليمن إلى ظهور الإسلام. فلهجات آهل اليمن من الحميرية وغيرها، بعيدة عن لهجات القبائل القحطانية والعدنانية بعداً متساواً، حتى بالنسبة إلى القبائل اليمانية التي غادرت اليمن في عهد متأخر، كما سأبحث عن ذلك فيما بعد، وفي القسم الخاص بلغات أهل الجاهلية.. ولهذه الظاهرة أهمية كبيرة بالنسبة إلى دراسة اللغة والنسب عند العرب الجاهليين.

وعندي أن ما يذهبا اليه المستشرقون من تقسيم العرب إلى عرب جنوبيين وعرب شماليين، هو تقسيم لا يمكن اعتباره تقسيماً علمياً. فان ما نشاهده من فروق في الملامح والمظاهر بين أهل العربية الجنوبية من أهل اليمن وحضرموت ومسقط وعمان وبن أهل الحجاز ونجد، والعرب الشماليين الآخرين، وان كان واضحاً. ظاهراً ولا مجال إلى نكرانه، إلا إن هذه الفروق لا يمكن اعتبارها مع ذلك حداً فاصلا يقسم العرب إلى مجموعتين: مجموعة شمالية ومجموعة جنوبية، لسبب بسيط جداً سبق إن بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتحدثت عنه في مواضع، أخرى منه. وهو إن كل مجموعة من المجموعتين لا تكون في نفسها وحدة متناسقة متجانسة، بل تتألف من مجموعات تختلف بعضها عن بعض في السحن وفي الملامح، بسبب عوامل الاتصال بالعالم الخارجي، وبسبب اختلاف الظروف للطبيعية التي يعيش? أفراد كل مجموعة. فأهل جبال اليمن والجبال المتصلة بها الممتدة إلى عمان، يختلفون اختلافاً بيناً عن أهل السواحل و الارضين المنخفضة، ليس في الملامح والسحن فحسب، بل وفي العمل وفي النشاط وفي المدارك أيضاً. وأهل السراة في العربية الغربية يختلفون عن أهل تهامة وبقية ساحل البحر الأحمر، وأهل نجد يختلفون عن أهل ساحل الخليج. يختلفون عنهم في السحن والملامح كما يختلفون عنهم في المدارك وفي حدة الذهن. وهذا الاختلاف هوّ شيء واقعي بيّن للعيون، يراه كل إنسان حين يزور بلاد العرب. وهو في حد ذاته شاهد على فساد نظرية المستشرقين في تقسيم العرب إلى مجموعتين.

وبعد، فهذه الطبيعة طبيعة جزيرة العرب - من جوّ وارض، من انحباس مطر ومن ارتفاع في درجات الحرارة. ومن يبوسة في الهواء، وقلة في الرطوبة، ومن اختلاف في ضغط الجو اختلافاً يخل بتوازنه فيثير فيه أعاصير وعواصف، تعتدي على حرمة التربة الهادئة الراقدة، فتقع رمالها إلى ارتفاعات متباينة، وتلفح الأوجه والأجسام ب "سموم" و بما شاكله من اهوية مزعجة، تثير الغضب وتلهب العصب، وتجعل الجو داكناً اظلم مغبراً، أضف إلى ذلك ما نراه من نور ساطع و أشعة لامعة تحمل أمواجاً غير مرئية تؤثر في خلايا البشرة وفي النفس، ثم هذه الرطوبة المفرطة المتحكمة في التهائم، و هذه الندرة في الأنهار، والإسراف في ظهور البوادي والصحارى، وتحكم الطبيعة تحكماّ جائراً في توزيع النبات والحيوان على أهل جزيرة العرب: كل هذه الأمور و أمثالها أثرت أثراً كبيراً في نفس أهل جزيرة العرب، وفي شكل أجسامهم، وفي حالة معيشتهم، فجعلتهم يختلفون عن غيرهم بأمور، ويتباينون فيما بينهم بأمور، وذلك لاختلاف طبيعة أجزاء الجزيرة نفسها. ونحن لن نستطيع فهم العرب فهماً صحيحاً دقيقاً، إلا إذا درسنا هذه الأمور المذكورة وأمثالها دراسة علمية دقيقة. وعندئذ فقط نستطيع فهم سبب تفشي البداوة بين العرب، وسبب تطبع العرب بطباع خاصة، واتسامهم بسمات وعلامات خاصة وبملامح ومظاهر جسمية متباينة، وأمثال ذلك مما تعرضت له في بحث الجنس والسامية وفي بحث طبيعة العقلية العربية وما قبل في حقها من أقوال، وما ورد في العرب من مدح أو ذم ومن وصف صادق أو كاذب.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق