772
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي والاربعون
نجران
وأما "نجران"، فقد كانت مستقلة بشؤونها، يديرها ساداتها وأشرافها، ولها نظام سياسي واداري خاص تخضع له، ولم يكن للفرس عليها سلطان. وكان أهلها من "بني الحارث بن كعب"، وهم من "مذحج" و "كهلان"، وكانوا نصارى. ومن اشرافهم "بنو عبد المدان بن الدياّن"، أصحاب كعبة نجران وكان في فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة، مع وفد مؤلف من ستين أو سبعين رجلاً راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر اليهم يؤول أمرهم. العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم "وهب"، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، اسقفهم وحبرهم وإمامهم صاحب مداراسهم.
ويذكر الأخباريون، إن أبا حارثة كان قد شرف في أهل نجران ودرس الكتب حتى حسن علمه فى دينهم، وصار مرجعهم الأكبر فيه. وكانت له حظوة عند ملك الروم، حتى أنه كان يرسل له الأموال والفعلة ليبنوا له الكنائس، لما كانت له من منزلة في الدين وفي الدنيا عند قومه. وكان له أخ أسمه "كوز بن علقمة". وقد أسلما مع من أسلم من الناس بعد السنة العاشرة من الهجرة.
ويظهر من الخبر المتقدم أن ملوك الروم كانوا على اتصال بنصارى اليمن، وانهم كانوا يساعدون أساقفتهم ويموّلونهم، ويرسلون اليهم العطايا والهبات. وقد أمدوهم بالبنّائين والفعلة وبالمواد اللازمة لبناء الكنائس في نجران وفي غيرها من مواضع اليمن. وقد كان من مصلحة الروم مساعدة النصرانية في اليمن وانتشارها، لأن في ذلك كسباً عظيماً لهم. في انتشارها يستطيعون تحقيق ما عجز عنه "أوليوس غالوس" حينما كلفه انبراطور روما اقتحام العربية السعيدة والاستيلاء عليها.
وذكر أهل الأخبار أيضاً، أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتباً عندهم، كلما مات رئيس منهم فأضيفت الرئاسة إلى غيره، انتقلت الكتب إليه. وقد عرفت تلك الكتب ب "الوضائع". وكانوا يختمونها، فكلما تولى رئيس جديد ختم على تلك الكتب فزادت الخواتم السابقة ختماً. وذكر علماء اللغة إن الوضائع هي كتب يكتب فيها الحكمة. وفي الحديث: أنه نبي وان أسمه وصورته في الوضائع.
ونجران أرض في نجد اليمن خصبة غنية، وفيها مدينة نجران من المدن اليمانية القديمة المعروفة قبل الميلاد. وقد ذكرها "سترابون" في جغرافيته، وسماها Negrana=Negrani في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على العربية، كما ذكرها المؤرخ "بلينبوس" في جملة المدن التي أصابتها يد التخريب في هذه الحملة. كما ذكرها "بطلميوس"، فسماها Nagera Mytropolis=Negra Metropolis.
وفي ذكر "بطلميوس" لها على أنها "مدينة" دلالة على أنها كانت معروفة أيضاً بعد الميلاد. وأن صيتها يلغ مسامع اليونان.
ويعدّ النص الموسوم ب Glaser 418,419، من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم مدينة نجران. إذ يرتفع زمنه إلى أيام "المكربين". وقد ذكر كما سبق في أثناء كلامي على دور المكربين، في مناسبة تسجيل أعمال ذلك "المكرب" وتأريخ حروبه وما قام به من فتوح. وورد ذكرها في النص: "Glaser 1000"، الذي يرتقي زمنه الى أيام المكرب والملك "كرب ايل وتر" آخر "مكربي" سبأ، وأول من تلقب بلقب "ملك سبأ". فورود اسم "نجران، في النصين المذكورين يدل على أنها كانت من المدن القديمة العامرة قبل الميلاد، وأنها كانت من المواضع النابهة في أول أيام سبأ.
وورد اسمها في نصوص أخرى. كما ذكرت في جملة المواضع التي دخلها رجال حملة "أوليوس غالوس" على اليمن. وذكرها نص "النمارة" الذي يرتقي زمنه إلى سنة "328" بعد الميلاد. وقد كانت في أيدي الملك "شمر يهرعش" إذ ذاك على رأي أكثر الباحثين. اذ كان قد وسع رقعة حكومة "سبأ وذي ريسان وحضرموت" وأضاف اليها ارضين جديدة منها أرض "نجران"، وأشار الى تدمير ذلك الملك ل "نبطو"، أي النبط.
وقد ذهب "ريتر" إلى أن Negra Mytropolis هو الموضع المسمى ب "القابل" على الضفة الغربية لوادي نجران. أما "هاليفي"، فذهب إلى أنها الخرائب المسماة "الأخدود". وذهب "كلاسر" الى أنها الأخدود أو "رجلة"، أو موضع آخر في "وادي الدواسر".
وقد ذكر "الهمداني" إن موضع "هجر نجران" أي مدينة نجران، هو الأخدود. ومدح خصب أرض نجران، ولم يكن "نجران" اسم مدينة في الأصل كما يتبين من النص CIH 363، بل كان اسم أرض بدليل ورود اسماء مواضع ذكر انها في "نجرن" نجران. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "رجمت" كانت من المدن الكبرى في هذه الأرض، ثم تخصص اسم نجران فصار علماً على المدينة التي عرفت بنجران.
وذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" "رجمة" هي "رعمة" المذكورة في التوراة. وقد تحدثت فيما سلف عن "رعمة" وعن اتجار أهلها وتجار "شبا" Sheba مع "صور" Tyrus.
ويذكر الأخباريون أن قوماً من "جرهم" نزلوا بنجران، ثم غلبهم عليها بنو حمير، وصاروا ولاة للتبابعة، وكان كل من ملك منهم يلقب "الأفعى". ومنهم "أفعى نجران" واسمه "القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب ابن زيد بن وائل بن حمير"، وكان كاهناً. وهو الذي حكم على حد قولهم بين أولاد نزار. وكان والياً على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان، وآمن، وبث دين اليهودية في قومه، وطال عمره، وزعموا انه ملك البحرين والمشلل. ثم استولى "بنو مذحج" على نجران. ثم "بنو الحارث بن كعب"، وانتهت رياسة بني الحارث فيها إلى بني الديان، ثم صارت إلى بني عبد المدان، وكان منهم "يزيد". على عهد الرسول.
ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد" والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران. وقد سميت "نجران" بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان على رأي بعض أهل الأخبار. وقد اشتهرت بالأدم.
وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا إليه قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم. فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه، ورجع خالد مع وفد منهم إلى رسول الله، فأعلنوا إسلامهم أمامه، ثم رجعوا وقد عين الرسول "عمرو ابن حزم" عاملاً على نجران. فبقي بنجران حتى توفى رسول الله.
ولما عاد خالد بن الوليد من نجران إلى المدينة، أقبل معه وفد "بلحارث بن كعب"، فيهم قيس ين الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المُحجّل،وعبد الله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما رآهم الرسول، قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ? ثم كلمهم، وأمرَّ "قيس بن الحصين" عليهم، ورجعوا، وكان ذلك قبل وفاة الرسول بأربعة أشهر.
وقد اشتهرت نجران بثيابها، ولما توفى الرسول، كُفن في ثلاثة أثواب نجرانية.
وقد زار "فلبي" وادي نجران، وعثر على خرائب قديمة، يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام، كما تعرف على موضع "كعبة نجران". ووجد صوراً قديمة محفورة في الصخر على مقربة من "أم خرق"، وكتابات مدونة بالمسند. وعلى موضع يعرف ب "قصر ابن ثامر"، وضريح ينسب إلى ذلك القديس الشهيد الذي يرد اسمه في قصص الأخباريين عن شهداء نجران. ويرى "فلبي" أن مدينة "رجمت" "رجمة" هي "الأخدود"، وأن الخرائب الي لا تزال تشاهد فيها اليوم تعود إلى أيام المعينيين. ويقع "قصر الأخدود" الأثري بين "القابل" و "رجلة"، وهو من المواضع الغنية بالاثار. وقد تبسط "فلبي" في وصف موضع الأخدود، ووضع مخططاً بالمواضع الأثرية التي رآها في ذلك المكان.
ويتضح من مخطط "فلبي" لمدينة "نجران" أنها كانت مدينة كبيرة مفتوحة، وعندها أبنية محصنة على هيأة مدينة مربعة الشكل، وذلك للدفاع عنها، وبها مساكن وملاجىء للاحتماء بها ولتمكين المدافعين من صدّ هجمات المهاجمين لها.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق