إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

162,566

الجمعة، 1 يناير 2016

766 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الحادي والاربعون العرب وألحبش


766

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الحادي والاربعون

العرب وألحبش


صلات العرب بالحبشة صلات قديمة معروفة ترجع إلى ما قبل الميلاد. فبين السواحل الافريقية المقابلة لجزيرة العرب وبين السواحل العربية اتصال وثيق قديم، وتبادل بين السكان. اذ هاجر العرب الجنوبيون إلىالسواحل الافريقية وكونوا لهم مستوطنات هناك، وهاجر الأفارقة إلى العربية الجنوبية، وحكموها مراراً، وقد كان آخر حكم لهم عليها قبل الإسلام بأمد قصير.

ويرى بعض الباحثين إن أصل الحبش من غرب اليمن من سفوح الجبال،وفي اليمن جبل يسمى جبل "حُبيش"، قد يكون لاسمه صلة بالحبش الذين هاجروا إلى افريقية وأطلقوا اسمهم على الأرض التي عرفت باسمهم،أي "حبشت" أو الحبشة.

ويرون أيضاً إن "الجعز" أو "جعيزان" كما يدعون كذلك، هم cesani للذين وضع "بليني" منازلهم على مقربة من "عدن". فهم من أصل عربي جنوبي. هاجر إلى الحبشة وكو"ن مملكة هناك. والى هؤلاء نسبت لغة الحبش، حيث عرفت بالجعزية، أي لغة الجعز.

ويظن إن العرب الجنوبيين هم الذين موّ نوا السواحل الافريقية المقابلة بالعناصر السامية. وكانوا قد هاجروا مراراً اليها،ومن بين تلك الهجرات القديمة، هجرة. قام بها السبئيون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد هاجر معهم "الحبش" في ذلك الوقت أيضاً. وقد توقف سيل الهجرات هذه حين ندخل "البطالمة" في البحر الأحمر،وصار لهم نفوذ سياسي وعسكري على جانبي هذا البحر. غير أنها لم تنقطع انقطاعاً تاماً، إذ يرى بعض الباحثين أن العرب كانوا قد دخلوا الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة فيما بعد الميلاد أيضاً، فنزحوا اليها فيما بين السنة "232" والسنة "250" بعد الميلاد مثلاً، حيث ركبوا البحر ونزلوا هناك.

وقد تبين أن السبئيين كانوا قد استوطنوا في القرن السادس قبل الميلاد المناطق التي عرفت باسم "تعزية"Ta'izziya من أرض "أريتريا" ونجد الحبشة، وكوّنوا لهم حكومة هناك. وأمدوا الأرضين التي استولوا عليها بالثقافة العربية الجنوبية. ولم يقطع هؤلاء السبئيون صلاتهم بوطنهم. القديم، بل ظلت أنظارهم متجهة نحوه في تدخلهم وهم في هذا الوطن بشؤونه وارسالهم حملات عليه واحتلالهم له في فترات من الزمن. ولعلّ ما جاء في أحد النصوص من "مصر" الحبشة، قصد به هؤلاء الذين كانوا قد استوطنوا تلك المنطقة من إفريقية.

وفي القرن السادس قبل الميلاد،كان الاوسانيون قد نزحوا إلى السواحل الافريقية الشرقية، فاستوطنوا الأرضين المقابلة ل Pemba "زنزبار" Zanzibar وهي "عزانيا" Azania، وتوسعوا منها نحو الجنوب. وقد عرف هذا الساحل في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري "، باسم Ausaniteae وهو اسم يذكرنا ب "أوسان". وقد ذكر مؤلف الكتاب، أنه كان خاضعاً في أيامه "القرن الأول بعد الميلاد"ء، لحكام Mapharitis. ويريد بهم حكام دولة "سبأ وذو ريدان".

وقد عثر الباحثون على حجر مكتوب في حائط كنيسة قديمة بالقرب من "أكسوم"، وإذا به كتب بالسبئية، وفيها اسم الإلهة السبئية "ذت بعسن" "ذات بعدن" "ذات البعد" وعثر على بقايا أعمدة في موضع "يحا" الواقع شمال شرقي "عدوة" Adua، تدل على وجود معبد سبئي في هذا المكان، كما عثر على مذبح سبئي خصص بالإله "سن" "سين". وعثر على كتابات وأشياء أخرى تشير كلها إلى وجود السبئيين في هذه الآرضين.

وعرف ملك الحبش ب "النجاشي" عند العرب. واللفظة لقب تطلقه العربية على كل من ملك الحبشة، فهي بمنزلة "قيصر"، اللفظة التي يطلقها العرب على ملوك الروم، و "كسرى" التي يطلقونها على من حكم الفرس، و "تبع" التي يطلقونها على من يحكم اليمن. أما في العربية الجنوبية، فقد أطلقت لفظة "ملك" على من ملك الحبشة، وقد ورد "ملك اكسمن"،أي "ملك اكسوم" وورد "ملك حبشت"، أي ملك الحبشة. فأخذ العرب اللفظة من الحبش. وهي في الحبشية بمعنى جامع الضريبة، والذي يستخرج الضريبة، فهي وظيفة من الوظائف في الأصل، ثم صارت لقباً. وورد في بعض النصوص العربية الجنوبية اذ لقب به "جدرة" مثلاً.

ويظن إن مملكة "أكسوم" التي ظهرت في أوائل أيام النصرانية، قد كانت دولة أقامها العرب الجنوبيون في تلك البلاد. وقد استطاع الباحثون من العثور على عدد من الكتابات تعود إلى ملوك هذه المملكة، دوّن بعض منها باليونانية مما يدل على تأثر ملوك هذه المملكة بالثقافة اليونانية وعلى وجود جاليات يونانية هناك نشرت ثقافتها في الحبشة. وقد عرفْت هذه المملكة بمملكة "أكسوم" "اكسمن".نسبة إلى عاصمتها. مدينة "اكسم" "أكسوم".

وقد كان ملوك أكسوم وثنيين. بقوا على وثنيتهم إلى القرن الرابع أو ما بعد ذلك للميلاد. ويظن إن إلملك "عزانا" Ezana وهو ابن الملك "الاعميدا" Ela-Amida، هو أول ملك تنصر من ملوك هذه المملكة وذلك لعثور الباحثين على آثار تعود إلى عصر، ترينا القديمة منها انه كان وثنياً، وترينا الحديثة منها انه كان نصرانياً، مما يدل على أنه كان وثنياً في أوائل أيام حكمه، ثم اعتنق النصرانية، فأدخل شعارها في مملكته، وذلك بتأثير المبشرين عليه.

وفي جملة ما يستدل به على تأثر العرب الجنوبين في الحبش، هو الأبجدية الحبشية المشتقة من الخط العربي الجنوبي. وقرب لغة الكتابة والتدوين عندهم من اللهجات العربية الجنوبية. وبعض الخصائص اللغوية والنحوية التي تشير إلى أنها قد أخذت من تلك اللهجات. ثم عثور العلماء على أسماء الهة عربية جنوبية ومعروفة في كتابات عثر عليها في الحبشة والصومال. ووجودها في هذه الأرضين هو دليل على تأثر الافريقين بالثقافة العربية الجنوبية،أو على وجود جاليات عربية جنوبية في تلك الجهات.

وكما تدخل العرب في شؤون السواحل الإفريقية المقابلة لهم، فقد تدخل. الافريقيون في شؤون السواحل العربية المقابلة لهم. لقد تدخلوا في أمورها مراراً. وحكموا مواضع من ساحل العربية الغربية ومن السواحل الجنوبية وتوغلوا منها إلى مسافات بعيدة في الداخل حتى بلغوا حدود نجران.

ويظهر من الكتابات الحبشية، أن الحبش كانوا في العربية الجنوبية في القرن الأول للميلاد. وقد كانوا فيها في القرن ألثاني أيضاً. ويظهر أنهم كانوا قد استولوا على السواحل الغربية، وهي سواحل قريبة من الساحل الافريقي ومن الممكن للسفن الوصول اليها وانزال الجنود بها. كما استولوا على الأرضين المسماة ب Kinaidokopitae في جغرافية "بطلميوس".

وورد في نص من النصوص الحبشية أن ملك "أكسوم" كان قد أخضع السواحل المقابلة لساحل مملكته، وذلك بارساله قوّات برية وبحرية تغلبت على ملوك تلك السواحل من ال "Arrhabite " "الأرحب" "الارحبية" "أرحب" Kinaidokolpite، وأجبرتهم على دفع الجزية، وعلى العيش بسلام في البر وفي البحر. ويرى بعض الباحثين إن المراد ب "Arrhabite" بدو الحجاز. وأن Kinaidokolpite هم "كنانة". وأن السواحل التي استولى الأحباش عليها تمتد من موضع "لويكه كومه" Leuke Kome "القرية البيضاء" إلى أرض السبئيين.

ويرى "فون وزمن" أن احتلال الحبش لأرض Kinaidokoplitae الأرض المسماة باسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئاً، والتي ورد اسمها في كتابة Monumentum Adulitanum فقط وفي جغرافية "بطلميوس"، كان قبل تدوين تلك الكتابة وربما في حوالي السنة" 100" بعد الميلاد. ويراد بها ساحل الحجاز وعسير من ينبع Ianbia في الشمال إلى السواحل الجنوبية الواقعة على البحر العربي شمال "وادي بيش"،فشملت الأرض المذكورة والتهائم والساحل كله.

غير اننا نجد أن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" يشير من جهة آخرى إلى أن الساحل الافريقي المسمى ب "تنجانيقا" في الوقت الحاضر كان في أيدي الحميريين في ذلك الوقت. ومعنى ذلك إن ملك حمير استطاع في أيام ذلك المؤلف من الاستيلاء على ذلك الساحل ومن ضمه إلى ملكه. كما فعل أهل حضرموت وعمان فيما بعد.

ووردت جملة "احزب حبشت" في النص الموسوم ب "CIH 314+954". وهي تشير إلى وجود "أحزاب" أي جماعات من الحبش في العربية الجنوبية. وقد يراد بها مستوطنات حبشية وقوات عسكرية كانت قد استقرت في تلك البلاد. كما وردت في النص الموسوم ب Ryckmans 535 اذدي يتحدث عن حرب أعلنها "الشرح يحضب" على "احزب حبشت"، و "ذى سهرتن" و "شمر ذى ريدان".

وأشار "اصطيفان البيزنطي" إلى قوم دعاهم Abasynoi يظهر من قوله إن مواطنهم كانت في شرق حضرموت. ويفهم من كلامه أن هؤلاء كانوا حبشاً يقيمون في هذه الأرضين. وقد يكونون قد استولوا عليها بانقوة وألحقوا ما استولوا عليه بمملكة أكسوم.

وورد في كتابات تعود إلى أيام "علهان نهقان"، بأن هذا الملك كان قد تفاوض مع "جدرت" "جدرة" ملك "أكسوم" والحبشة لعقد صلح معه. ويظهر من جملة "واقول وقدمن واشعب ملك حبشت"،أي "واقيال وسادات وقبائل ملك الحبشة"، الواردة فيها، أن ملك الحبشة كان يحكم جزءاً من العربية الجنوبية في ذلك الوقت، وان الملك "علهان نهفان" تفاوض معه لتحسين العلاقات السياسية فيما بينه وبين الحبش ولضمان مساعدتهم في حروبه مع منافسيه وخصومه. ويرى "فون وزمن" أن تلك المفاوضات كانت قد جرت في حوالي السنة "180" بعد الميلاد.

وقد عقد "علهان" حلفاً مع الحبش، ويظهر أنه عقده بعد انتهائه من الحرب التي أعلنها على حمير. تلك الحرب التي اشترك الحبش فيها أيضاً وكذلك أهل حضرموت. ولما عقد "علهان" الحلف مع الحبش، كان ابنه "شعر أوتر" قد اشترك معه في الحكم.

ولم يدم الحلف الذي عقد بين "علهان" وابنه "شعر أوتر" من جهة والحبش من جهة أخرى، إذ سرعان ما نقض ووقعت الحرب بن "شعر أوتر" وبين "الحبش" على نحو ما ذكرت في أثناء حديثي عن حكم ""شعر أوتر". إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليهم، ولم يزحهم عن اليمن. بل بقوا في الأرضين التي كانت خاضعة لهم والتي تقع في الجزء الغربي من اليمن.

وقد جاء اسم "جدرت" "جدرة" على هذه الصورة: "جدر نجش اكسم" في النصوص. وورد على هذه الصورة: "جدرت ملك حبشت واكسمن" في النص الذي وسم ب Jamme ومعنى الجملة الأولى "جدر نجاشي أكسوم".

ومعنى الجملة الثانية "جدرة ملك الحبشة وأكسوم". وقد قدّر بعض الباحثين زمان حكم هذا النجاششي بحوالي السنة "250" بعد الميلاد.

ويظهر إن الحبش كانوا قد تمكنْوا من دخول "ظفار" عاصمة حمير، وذلك فيما بين السنة "90 ا" و "205" بعد الميلاد. وذلك في أيام "لعزز يهنف يهصدق". ولا ندري إلى متى بقوا فيها. والظاهر أن حكمهم فيها كان قصيراً.

وقد كان نزول الحبش في أرض اليمن في أيام حكم الملك الحبشي "عذبة" على ما يظن. وكان هذا الملك على صلات حسنة بالرومان،ففتح بلاده للمصنوعات الرومانية النفيسة، وظل الحبش في اليمن في أيامه حتى وفاته، فلما توفي أو عزل تولى ملك آخر مكانه هو "زوسكالس" Zoskales وقد أدى هذا التغير إلى تبدل ألحال، اذ اضطر الحبش إلى النزوح من الأماكن التي كانوا قد استولوا عليها. ويرى بعض الباحثين إن ثورة قامت في الحبشة على حكم "عذبة" وأحلت "زوسكالس" محله. فانتهز أهل اليمن فرصة انشغال الحكومة بالاضطرابات التي وقعت بهذه الثورة، ونهضوا على الحبش فأخرجوهم عن ديارهم،وأخرج الحبش من السواحل التي كانوا قد استولوا عليها، المعروفة ب Kinaidokolpitae، ويراد بها ساحلّ الحجاز وعسير.

ووردت في النص الموسوم ب "Rychmans 535"، لفظة "و ذ ب ه" "وذبه" ثم ذكرت بعدها جملة: "ملك اكسمن "، أي "ملك الاكسومين"، أو "ملك الأكسوميين". وهو الملك الذي استعان به "شمر ذو ريدان". وقد قرأ بعض الباحثين لفظة "وذبه" على هذه الصورة "عذبة" اًو "وزبه". وذهبوا إلى أنه ملك الحيشة الذي استعان به "شمر ذو ريدان"4، والذي تدخل في شؤون اليمن فيما بين السنة "300" و "320" بعد الميلادْ، ويظهر من اللقب الطويل الذي تلقب به ملك "أكسوم"،أي الحبشة Ethiopiaوهو الملك "عيزانا" Ezana، أن اليمن وما جاورها من أرضين كانت خاضعة لحكم الحبش في أيامه أيضاً. أما لقبه الذي تلقب به فهو: "ملك اكسوم وحمير وريسان وسبأ وسلحن"، ويذكر بعد هذا اللقب أسماء ثلاثة مناطق افريقية كانت تحت حكمه، ثم ختم هذا اللقب بتتمته، وهي جملة: "ملك الملوك" و "سلحن" "سلحين"، هو قصر ملوك سبأ وذو ريدان بمأرب.

وكان الملك "عيزانا" "عزانا"، قد دخل في النصرانية بتأثير المبشر "فرومنتيوس"، الذي أرسله إليه الملك "قسطنطين" ملك البيزنطيين عام "350" للميلاد أو "356". وقد فرض هذا الملك النصرانية على شعبه وأعلنها ديانة رسمية لمملكته كما جعل الديانة الرسمية للعربية الجنوبية.

وكانت العربية الجنوبية خاضعة لحكم أبيه، ولعلّه هو الذي أدخلها في حكمه. اذ كان أبوه وهو "الاعميدا" Ella 'Amida، قد لقب نفسه باللقب المذكور. ويرى بعض الباحثين أن حكم "عيزانا" لم يكن فيما بين السنة "330" و "350" بعد الميلاد أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، بل كان في حوالي السنة "450" للميلاد. ويرى أن ملكاً آخر كان قد تدخل في شؤون اليمن واستولى على ساحل Kinaidokopitae، هو الملك "سمبروتس" Sembruthes وقد حكم على رأيهم في حوالي السنة "405" بعد الميلاد.

ويرى بعض الباحثين أن الحبش استولوا على العربية الجنوبية بعد وفاة "شمر يهرعش"، وأن ذلك كان في حوالي السنة "335 م". وأن "ثيوفيلس" نصَّر عرب اليمن في حوالي السنة "354 م"، إذ أنشأ كنيسة في " ظفار". وقد صار رثيس أساقفة "ظفار" يشرف على الكنائس التي أنشئت في اليمن وفي ضمن ذلك كنيسة "نجران" والكنائس الأخرى التي بنيت في العربية الجنوبية إلى الخليجْ.

وأعرف تدخل للحبش في العربية الجنوبية، تدخلهم في شؤون اليمن في النصف الأول للقرن السادس واحتلالهم اليمن، إذ بقوا فيها أمداً حتى ثار أهل اليمن عليهم، فتمكنوا من انقاذ بلادهم من الحبش بمعونة من الفرس. وتركوا بذلك اليمن أبداً.

ويظهر من بعض الكتابات أن حصن "شمر" والسهل المحيط به كان في أيدي الحبش، وقد ورد فيها اسم موضع "مخون"، وهو "مخا". ويرد اسم هذه المدينة لأول مرة. وتتناول هذه الكتابات حوادث وقعت سنة "528" بعد الميلاد. وتبدأ قصة دخول الحبش إلى اليمن على هذا النحو: لما قتل ذو نواس من اًهل نجران قربباً من عشرين ألفاً، أفلت منهم رجل يقال له "دوس ذو ثعلبان" أو رجل آخر اسمه "جبار بن فيض" أو غير ذلك، ففرّ على فرس له، فأعجزهم حتى خرج فوصل الحبشة،وجاء إلى ملكها، فأعلمه ما فعل "ذو نواس" بنصارى نجران، وأتاه بالانجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن. وأنا كاتب إلى قيصر أن يبعث إليّ بسفن أجعل فيها الرجال، فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالانجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة عبر فيها البحر ودخل اليمن.

وفي رواية أخرى إن "دوس ذو ثعلبان" قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على "ذي نواس" وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على إن نتناولها بالجنود. ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فانه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا، فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره وطلب ثأره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي، بعث معه سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليهم رجلاٌ من أهل الحبشة يقال له أرياط، وعهد إليه إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشْرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان حتى نزلوا بساحل اليمن. وسمع بهم ذو نواس، فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم تكن له حرب، غير أنه ناوش ذا نواس شيئاً من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بجموعه. فما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه، وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فسحل فيه، فكان آخر العهد به. ووطىء "أرياط" اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها.

ويظهر من دراسة هذا المروي،أن الرواة كانوا على اختلاف بينهم في حديثهم عن "أصحاب الأخدود". وقد أشار العلماء إلى هذا الاختلاف. وقد اختلفوا في زمانهم أيضاً، واكتفى بعضهم بقولهم: "وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد"، وقال بعضهم: انهم كانوا باليمن قبل مبعث الرسول بأربعين سنة، أخذهم "يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً، وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه. وجعل بعضهم عدد من قتل من نصارى نجران عشرين ألفاً، وجعله بعضهم اثني عشر ألفاً، وذكر بعض آخر إن أصحاب الأخدود سبعون ألفاً. وقد قتلهم "ذو نواس اليهودي" واسمه "زرعة بن تبان أسعد الحميري"، واسمه أيضاً "يوسف". وجعله بعضهم "يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري". وجعلوا زعيم نصارى نجران، والذي ثبت النصرانية فيها ونشرها بين النجرانيين رجل من أهل نجران، اسمه "عبد الله بن ثامر". وكان قد أخذ النصرانية عن راهب، رآه فلازمه وتعلق به، وأثر في قومه، بشفائه الأمراض بالدعاء لهم إلى الله لشفائهم، فدخل كثير ممن شفوا وبرؤوا بدينه، وبذلك انتشرت النصرانية في نجران.

ولم يبين رواة الخبر المتقدم الأسباب التي دعت نجاشي الحبشة إلى الطلب من قائده "أرياط" بأن يقتل ثلث رجال اليمن، ويخرب ثلث البلاد، ويسبي ثلث النساء وأبناءهم وأن يتبع هذا النظام الثلاثي في العقوبة. ولم يذكروا الموارد التي أخذوا منها خبرهم على طريقتهم في أخذ الأخبار من غير تمحيص.

وزعم "ابن الكلبي" أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر،حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. فلما سمع بهم ذو نواس، كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وان يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحداً فأبوا، وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك، صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الابل، وخرج حتى لقي بعضهم فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها. فلما وجه الحبشة ثقات اصحابهم في قبض الخزائن، كتب "ذو نواس" إلى كل ناحية أن اذبحوا كل من يريد اليكم منهم. ففعلوا فلما بلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، جهز سبعين ألفاً، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة. فلما صار الحبشة إلى صنعاء ورأى ذو نواس أن لا طاقة له بهم، ركب فرسه واعترض البحر فاقتحمه، فكان أخر العهد به.

هذا مجمل ما ورد في كتب المؤرخين الاسلاميين والأخبارين عن ذي نواس. وقد أخذ بعضه مما علق في أذهان أهل اليمن عن ذلك الحادث، وأخذ بعض آخر مما علق بأذهان أهل الكتاب عنه، ويعود الفضل في تدوينه وجمعه إلى القران الكريم، إِذ إشار بايجاز إليه: )قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود(. فكانت اشارته هذه الى أصحاب الأخدود حافزاً دفع بالمفسرين وأصحاب التأريخ والأخبار على جمع ما علق بالأذهان من هذا الحادث، فجاء على الصورة المذكورة.

ولم يرد الينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس مكتوباً في المسند. وكل ما ورد مما له علاقة في حادث دخول الحبشة اليمن، هو ما جاء في النص المهم المعروف بنص حصن غراب والموسوم REP.EPIGR.2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين.

ولم يذكر في النص اسم هذا الملك. ويعود تأريخه إلى سنة "645" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد.

ويرى ونكلر مستنداً إلى نص "حصن غراب" أن "ذا نواس" كان هو البادىء بالحرب، وأن السميفع أشوع وأولاده أصحاب النص كانوا في معية الملك ذي نواس في حملته على الحبشة، غير انه لم يكتب له التوفيق، وأصيب بهزيمة اذ سقط فهزم جمعه. وعندئذ غزا الحبش ارض اليمن واستولوا عليها. فأسرع السميفع أشوع وأولاده في الذهاب إلى حصن "ماوية" للتحصن فيه ولتقوية وسائل دفاعه، ولم تكن قلوب هؤلاء مع ذي نواس، وانما أكرهوا على الذهاب معه. وبقوا في حصنهم هذا إلى أن دخل الحبش أرض اليمن، فتفاهم معهم.

وقد أشرت إلى ملخص ما جاء في التواريخ الاسلامية عن ذي نواس وعن حادث تعذيب نصارى نجران، وهو حادث لم يكن بعيد العهد عن الإسلام. فقد أشير إليه بايجاز في القرآن الكريم: ) قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. اذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (. فجمع المفسرون والأخباريون ما علق بالأذهان من هذا الحادث ورووا أخباراً متناقضة متباينة في أصحاب الأخدود.

أما رأي اليهود - وهم طرف من أطراف هذا النزاع - عن حادث نجران فلا علم لنا برأي رجاله المعاصرين في الحادث. إذ لم يصل الينا شيء مدوّن بقلم مؤلف يهودي معاصر له. وقد أخذ الأخباريون - كما قلت - ما كان علق عن ذلك الحادث بأذهان يهود اليمن ويثرب، على لسان وهب بن منبه، وأضرابه، أخذوه عن طريق الرواية والحفظ، فهذا المدون في كتب أهل الاخبار والمنصوص على سنده هو كل ما نعرفه من رأي اليهود المتأخرين في حادث في نجران.

وأما ما رواه النصارى عنه، وهم الطرف الثاني فيَ النزاع، فإنه أطيب جداً وأوضح مما ورد في الموارد الاسلامية وفي الرواية اليهودية الشفوية اذ اعتمدت المواد الاسلامية واليهودية على منابع شفوية، هي السماع والرواية، فجاء وصفها للحادث مزوّقأَ. أما الموارد النصرانية فقد اعتمدت على السماع والمشافهة أيضاً، ولكنها أخذت من موارد ووثائقّ مسجلة دوّن بعضها بعد وقوع الحادث بقليل، وكان لتدوينها الحادث أهمية كبيرة بالنسبة لمن يريد تأريخه والوقوف على كيفية حدوثه، وإن كانت لا تخلو أيضاً من المبالغات والتهويل، والعواطف، لأنها كتبت في ظروف عاطفية حماسية. ونقلت من محيط للمبالغة فيه مكانة كبيرة ومن أفواه أناس ليس لهم علم بمنطق المحافظة على صدق الواقع. وقد دوّنت لبعث حمية النصارى على انقاذ أبناء دينهم المضطهدين في اليمن.

وقد ادرك بعضها زمن الحادث وأخذ سماعاً من رجال شهدوه، أو من رجال نقلوا رواياتهم من شهود العيان. فلهذه الوثائق إذن شأن عظيم،ني نظر المؤرخ. ومن هؤلاء الرحالة: "قزما"، والمؤرخ "بروكوبيوس" المتوفي في حوالي السنة "565" للميلاد. ومن المتأخرين: المؤرخ "ملالا" Johannes Malala. وقد نقل من كتابه بعض المؤرخين المتأخرين عنه،مثل "ثيوفانس"Theophanes "758 - 818" و "سدرينس" Georg Cedrnus، و "نيقيفورس كالستيNicephorus Callisti.

وكان "قزما" المعروف ب Cosmas Indicopleutes أي "قزا بحار البحر الهندي"، وصاحب كتاب "الطبوغرافية النصرانية" Christian Cosmography وكتاب "البحار الهندية" "بحار البحر الهندي" Indicopleutes في مدينة "أدولس" Adulis، الواقعة على ساحل الحبشة على المحيط الهندي ينقل كتابة "بطلميوس" Ptlemaeus اليونانية بأمر النجاشى )Elesboan ()Elesboas( في العهد الذي كان فيه النجاشي يتهيأ لغزو أرض حمير. فكتب في جملة ما كتبه قصة غزو الحبشة لليمن بعد25 عاماً من وقوعه. فلروايته عن الحملة شإن كبير لأنها غير بعيدة عهد عن الحادث، ثم إن صاحبها نفسه كان قد أدركها وقد سمع أخبارها من شهود عيان. ولعله كان نفسه من جملة أولئك الشهود، شاهد السفن وهي تحمل الجنود لنقلهم إلى اليمن، واتصل بالرسميين الحبش واستفسر منهم عن الحملة.

ويفهم من رواية "قزما"، إن الحملة كانت في أوائل أيام حكم القيصر "يسطينوس" Justinus "518 -527م". أما "ثيوفانس" Theophanes و "سدرينوس" Cedrnus ومن اعتمد عليهما، فقد جعلوا الحملة في السنة الخامسة من حكم هذا القيصر، وذكروا إن الذي حمل النجاشي على هذا الغزو هو تعذيب ملك حمير لنصارى نجران، وقد قتل هذا الملك.

ويحدثنا "ثيوفانس". و "سدرينوس" عن غزو ثانٍ قام به الحبش على حمير لآعتداءاتهم على تجار الروم،وذلك في السنة الخامسة عشرة من حكم "يوسطنيانوس" Justinus "527 - 565م"، وفي عهد النجاشي "ادد"Adad. أما ملك حمير، فاسمه "دميانوس"Damianus. وقد ذكر "ملالا" هذا الحديث محرفأَ بعض التحريف، فجعل اسم النجاشي "أندس" Andasبدلاّ من ادد، وصيّر اسم ملك حمير "دمنوس" Damnus عوضاً عن "دميانوس" Damianus، وذكر حملة "اندس" هذه قبل جملة Elasbaas. وأشار إلى أن النصرانية كانت قد انتشرت في الحبشة قبل أيام "اندس". وذكر المؤرخان الآخران إن "أدد" تنصر على أثر احرازه النصر على الحمريين.

وتحدثنا رواية سريانية إن النجاشي المسمى "ايدوك" Aidog حارب الملك "اكسينودون" Xenedon ملك الهنود. ثم حارب "دميون" Dimion ملك حمير لاعتدائه على التجار الروم واستيلائه على أموالهم. فانتصر "ايدوك" على ملك حمير، ثم تنصر، وعين على حمير ملكاً نصرانياً. فلما مات هذا الملك، عذب خلفه نصارى نجران، فغزا "ايدوك" حمير وانتصر عليها. وأقام علها "ابرهام" "ابراهيم" Abraham. ولا يشك المستشرق "فيل" Fell في أن - المراد ب "Adad" "Andas" "Aidog"" رجل واحد هو النجاشي "كالب"،وهو Elasbaas "كلب الا أصبحه" "كالب الا اصبحه". وأما Dimion , Damianus, Xenedon، يراد بها "ذو نواس". وقد تحدث "فل" Fell باطناب عن مختلف الروايات الواردة عن النجاشي "كالب" "كلب الا إصبحه" و "الاعاميدة". "عيلاميده" وعن انتشار النصرانية في الحبشة، وأمثال ذلك، فإليه يرجع من يطلب المزيد.

وفي المرويات اليونانية عن الشهداء أن الذي قام بتعذيب نصارى نجران هو الملك "ذو نواس" Dunaas ملك حمير، وان ذلك كان في السنة الخامسة من حكم، "يوسطينوس" Justinus، أن الذي غزا اليمن هو النجاشيEla Atzbeha. فلما دخلت جيوشه أرض حمير، فر Dunaas الى الجبال فتحصن فيها، حتى إذا سنحت له الفرصة خرج فقتل من بقي من جيش النجاشي في اليمن واحتل مدينة "نجران" فقام عندئذ Elesbas بحملة ثانية فانتصر بها على "Dunaas" وعين Abraham في مكانه.

وفي جملة ما لحق بقصص الشهداء الحميريين، المناظرة التي جرت بين أسقف "ظفار" المسمى "كَريكنتيوس " Gregentiusوبين Herban اليهودي، والظاهر أنها من القصص الذي وضع في السريانية وليست لها قيمة تأريخية بالطبع. وقد دوّن "يوحنا الأفسي" John of Ephesus المتوفي في حوالي سنة "585" للميلاد في تأريخه الكنسي وثيقة مهمة جداً عن حادث تعذيب نصارى نجران، هي رسالة وجهها "مار شمعون" أسقف "بيت أرشام" Simon of Beth Arsham المعاصر لهذا الحادث إلى "رئيس دير جبلة" Abt von Gabula يصف فيها ما سمعه وما قصصَّه عليه شهود عيان من أهل اليمن وما لاقوه هناك من أصناف العذاب. ومنه أخذها البطريق "ديونيسيوس" Patriach Dionysius، فأدخلها في تأريخه المؤلف بالسريانية. وقد نشرها "السمعاني" في مؤلفه "المكتبة الشرقية". وتجد هذه الرسالة أيضاً في تأريخ "زكريا" Zacharias von Mitylene المتوفي في حوالي سنة "568" للميلاد، وهو بالسريانية أيضاً. وفي الرسالة اختلافات عن نسخ الرسالة الأخرى، ولكنها غير مهمة على كل حال ولا تغير من جوهرها شيئاً.

وقد ذكر "شمعون" في رسالته أنه كان قد رافق "ابراهيم" "ابراهام" Abraham والد"نونوسوس" Nonnosus الشهير في رسالة خاصة أمر بها القيصر "يوسطينوس" Justinus الأول الى ملك الحيرة "المنذر الثالث". وكان ذلك في العشرين من كانون الثاني من سنة "835" من التأريخ السلوقي،وتقابل هذه السنة سنة"524" للميلاد. فلما بلغا قصر الملك، سمعا بأخبار استشهاد نصارى نجران. وعلم به "شمعون".من كتاب وجهّه ملك حمير الى ملك الحيرة، يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته ما فعله هو بنصارى نجران. وقد قرىء الكتاب أمامه، فوقف على ما جاء فيه، وعلم به أيضاً من رسول أرسله في الحال إلى نجران ليأتيه بالخبر اليقين عن هذه الأعمال المحزنة التي حلت بالمؤمنين.

وقد وجّه شمعون في نهاية الرسالة نداءً إلى الأساقفة خاصة أساقفة الروم ليعلمهم بهذه الفاجعة التي نزلت باخوانهم في الدين، والى بطريق الاسكندرية ليتوسط لدى نجاشي الحبشة في مساعدة نصارى اليمن، كما وجّه نداءه الى أحبار "طبرية" للتأثير على ملك حمير، والتوسط لديه بالوصف عن الاضطهاد والتعذيب.

وقد درس عدد من الباحثين هذه الرسالة، ونقدوها، وهي في الجملة صحيحة ووثيقة مهمة لا شك في ذلك بالنسبة إلى من يريد الوقوف على موضوع استشهاد نصارى نجران. أما ما جاء فيها على لسان ملك حمير من جمل وعبارات استخلصت على حد قول "شمعون" من الرسالة التي وجهها ملك حمير إلى المنذر، فمسألة فيها نظر، وقضية لا يمكن التسليم بها، فلا يعقل أن يكون ما قيل فيها على لسانه قد صدر منه. وما دوّن فيها من عبارات بحق الشهيد "حارثة" "الحارث" Arethas ونصارى نجران لا يعقل أن يكون قد صدر من ملك يهودي. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أمر الرسالة التي أرسلها الملك إلى المنذر لحثه على اضطهاد نصارى مملكته مقابل مبلغ يقدمه ملك حمير إليه. ولا داعي يدعو إلى نكرانها والشك فيها. وكل ما نستطيع أن نقوله إن الرسالة صحيحة، ولكن ما دونه شمعون من جمل وعبارات على انها من كلام ملك حمير، هو من انشائه وكلامه، لا ترجمة حرفية للكتاب. وخلاصة ما يقال في الرسالة انها وثيقة مهمة، ولها قيمة تأريخية في الجملة بغض النظر عن التفصيلات الواردة فيها وعن عواطف كاتبها وعن المبالغات التي وردت فيها وفي مركز صاحبها والمكانة التي كان فيها ما يسوغ صدور مثل هذه الأمور منه ووقفه عليها.

ومن الوثاثق التأريخية التي تتعلق بشهداء نجران كتاب ينسب إلى "يعقوب السروجي" في السريانية في نصارى نجران، وقصيدة في رثاء الشهداء ل"بولس" Paulus Bishop of Eddessa أسقف "الرها" Eddassa=Edessa ومدحه اياهم، ونشيد كنسي سرياني ل"يوحنا بسالطس" Johannes Psaltes رئيس دير قنسرين المتوفى سنة "600" للميلاد، وميمر ليعقوب الرهاوي.

ويظهر مما ورد في "كتاب الشهداء الحميريين" وفي رسالة "شمعون الأرشامي" أن "يعقوب السروجي" أسقف "سرجيوبولس" Sergiopolis أي "الرصافة" كان من رجال البعثة المذكورة التي أوفدها القيصر "يوسطين الأول" "يسطينوس" Justin 1 إلى الملك "المنذر". و "الرصافة" Sergiopolis هي "متروبولية منطقة الفرات" Metoripolis of Euphratensis بالنسبة إلى نصارى العرب. ويذكر مؤلف الكتاب المذكور أنه عمد وهو في "حيرة النعمان" "حيرتا دى نعمانا" Hirtha Dhe,Na, mana أحد سادات حمير، واسمه "أفعو"Afu، وكان أحد الوثنين الذين جاؤوا من اليمن إلى الحيرة، وقد شاهد بنفسه تعذيب نصارى "نجران". وقد كلفه ملكه، أي ملك حمير،السفارة عند ملك الحيرة. ولكنه كان رقيق القلب، فرق قلبه وهو في الحيرة على النصرانية، فتنصر على يديه.

وقد نقل مؤلف كتاب الشهداء الحميريين صورة الكتاب الذي أرسله ملك حمير، وقد دعاه "مسروقاً" Masruq، إلى "المنذر بن الشقيقة" "منذر بن شقيقة" Mundhar bar Zaqiqa وهو يحرضه فيه على النصارى.

ولا بد من الإشارة إلى الأثر المهم المنشور باليونانية ل "يوحنا بولند" Johann Bolland وجماعته في عشرات المجلدات، والى أثر آخر نشره "بويسونا" Boissona في اليونانية كذلك في خمسة مجلدات. فقد دوّنت في الكتاب الأول قصة الشهيد القديس "الحارث" Arethas وبقية شهداء نجران، وقصة الحرب التي وقعت بين النجاشي وذي نواس. ودوّنت في الأثر الثاني مضامين رسالة "مار شمعون". وقد بين "فينندفل" Winand Fell رأيه فيما جاء في مجموعة "بولند" Bolland.

وللنصوص الحبشية ولا شك أهمية عظيمة عند من يريد تدوين غزو الأحباش لليمن وتأريخ شهداء نجران إذ كانوا الطرف الرئيسي في هذا الحادث، وهم الذين أغاروا على اليمن فقتلوا ملك حمير. لذا وجّه الباحثون أنظارهم نحوها وفتشوا عنها، غير انهم لم يعثروا على نصوص فيها أمور جديدة عن الحادث تنفرد بها. وما عثر عليه ليس بكثير. ومن ذلك كتابة عليها "يوسف سابيتو" J.Sapeto أشير فيها باختصار إلى القديس الحارث "حيروت" Herut وبقية الشهداء، وجملة مخطوطات حبشية محفوظة في المتحف البريطاني وردت فيها أخبار الشهداء وغزو الحبشة لليمن، وأمر "ذو نواس" المسمى فيها ب "فنحاس"،وهي لا تختلف في الجملة اختلافاً كبيراً عما جاء في أعمال "البولنديين" وأعمال القديس "أزقير" التي نشرها "روسيني"، وهو الذي استشهد بأمر ملك حمير "شرحبيل بن ينكف" مع "38" آخرين.

يتبين من بعض الموارد الإغريقية والحبشية أن الأحباش كانوا قد نزلوا بأرض حمير قبل قيام ذي نواس بتعذيب نصارى حمير بسنين، وانهم انتصروا على ذي نواس، فاضطر إلى التقهقر إلى الجبال للاحتماء بها، وانهم تركوا في اليمن جيشاً لحماية النصارى والدفاع عنهم. فلما مات قائد الجيش ونائب الملك، انتهز ذو نواس هذه الفرصة فأغار على الحبش فتمكن منهم، وعذّب من وجد في بلاده من النصارى واضطهدهم، وأغار على نجران، وحاصرها مدة طويلة بلغت سبعة أشهر على زعم الرواية الحبشية. فلما طال الحصار،عمد ذو نواس إلى الخداع والغش، ففاوض النجرانيين على التسليم له، وتعهد إن فتحوا له المدينة، ألاّ يتعرض لهم بسوء. فلما صدقوه وفتحوا المدينة له، أعمل فيهم السيف، فحمل، ذلك الحبش على غزو اليمن.

وورد في كتاب الشهداء الحميريين، ما يفيد بأن الحبش بعد أن نزلوا أرض حمير، عارضهم رجل اسمه "مسروق" وحاربهم وقاومهم، وهاجم مدينة "ظفار" عاصمة حمير، وكان الحبش قد استولوا عليها وتحصنوا بها، ولما رأى "مسروق" أنه لا يتمكن من التغلب على الحبش الذين كانوا يحاربونه في مدينة "ظفار"، أوفد اليهم كهانأَ ويهوداً من طبرية ورجلين من الحيرة كانا نصرانيين في الاسم، يحملون معهم كتاباً يعدهم فيه أنهم إن سلّموا له "ظفار" فلن يؤذيهم، بل يعيدهم إلى الحبشة سالمين. فوثقوا بكلامه وصدّقوه، وخرجوا إليه وكانوا ثلاث مئة محارب على رأسهم القائد "أبابوت"، فقبض عليهم وغدر بهم، إذ سلمهم إلى اليهود فقتلوهم. ثم أرسل من حرق بيعة ظفار بمن كان فيها من الحبش، عددهم مئتان وثمانون رجلاً، وكتب إلى الحميريين آمراً بقتل النصارى قاطبة إن لم يكفروا بالمسيح ويتهوّدوا. وكتب إلى الحارث من أشراف مدينة نجران أن يأتيه مع من عنده من حملة السلاح لحاجته الشديدة اليهم. فلما بلغ الحارث مدينة ظفار، وسمع بما حدث، رجع إلى نجران. فحاصر مسروق المدينة، وطال الحصار، فراسل أهلها على الأمان. فلما فتحوا له مدينتهم، غدر بهم، وأحرق بيعتهم وأحرق خلقاً منهم بالنار رجالاً ونساءً وأطفالاً. وكان بعض قسيسيهم من حيرة النعمان ومن الروم والفرس والحبشة.

فلما تمادى مسروق في غيه وفي قتل النصارى في نجران وغير نجران من مدن اليمن وقراها، سار سيد من سادات القوم اسمه "أميّة" الى الحبشة فأخبر مطرانها "أوبروبيوس" و "كالب" النجاشي بما حل بنصارى اليمن، فأمر "كالب" جيوشه بغزو حمير، فغزتها وقضى على "مسروق" اليهودي، وهو "ذو نواس" في كتب الإسلاميين.

هذه رواية في السبب المباشر لغزو اليمن. وفي رواية أخرى أن الملك "دميون" Dimion "دميانوس" Dimianos ملك حمير Homeritae، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده وبنهب أموالهم انتقاماً من الروم الذين أساؤوا في بلادهم معاملة اليهود واضطهدوهم، فتجنب التجار الروم الذهاب إلى اليمن أو إلى الحبشة والى المناطق القريبة من حمير، فتأثرت التجارة مع الحبشة، وتضرر الأحباش. فعرض النجاشي على ملك حمير عروضا لم يوافق عليها، فوقعت الحرب. وتزعم الرواية أن النجاشي لم يكن نصرانياً، فقيل له: إن كتب لك النصر فادخل قي دين المسيح. فوافق على ذلك. فما انتصر، تنصّر، وانتقم من حمير. ثم أرسل رجلين من ذوي قرابته الى القيصر يلتمس منه إرسال أسقف وعدد من رجال الدين. وبعد بحث واستقصاء وقع الاختيار على Johannes Paramonaris من كنيسة القديس يوحنا، فذهب مع عدد من الكهان " فعمّد النجاشي وأتباعه، وأقام الكنائس، وأرشد الناس إلى الدين الصحيح.

وقد عرف ذو نواس في النصوص النصرانية باسم Dimnus=Damian و Damnus=Dimianos و "مسروق". ونرى تشابهاً كبيراً بين Dimnus و Damian و Damnus وكلمة "ذو نواس" العربية. فالظاهر أنها تجريف نشأ عن هذا الأصل. وأما النصوص الحبشية فقد دعته "فنحاس" Phin,has، وهو اسم من اسماء اليهود.

أما النجاشي الذي حارب حمير وغزا أرضها طَ فقد دعاه "بروكوببوس" باسم Hellestheaeus. ودعاه غيره بأسماء قريبة منه مثل Elesbowan=Elisbahaz و Ela-Atzbeha=Elesbaas=Elesboas. ويظهر انها أخذت من "ايلا اصباح" Ela-Asbah أو "ايلاصباح" Ela-Sebah في الحبشية. ودعي أيضاً باسم اخر، هو Aidug، دعاه به "يوحنا الأفسي" Johannes von Ephesus و "اندس" Andas وقد دعاه "ملالا" بذلك. و Adad ودعاه به "ثيوفانس" و "سدرينوس" Cedrenus. أما في الروايات الحبشية، فقد سمي "كالب" Kaleb. فهو إذن "الا أصبحة كالب" Elle, Asbwha Kaleb وتعني "الا" Elle=Ella "ذو" أو من "آل". وأما "أصبحة"، فاسم أجداده وعشيرته التي انحدر منها. كما أن "ذا نواس"، لا يعني اسم الملك، بل لقب أسرته. فاسمه هو "يوسف". ويكون النجاشي، أي ملك الحبشة الذي جهز الجيش وفتح اليمن هو "كالب" من "آل أصبحة" أو "الا أصبحة كالب" كما عرف بذلك.

وقد تحول اسم النجاشي Ela Sebah=Elesbass الى "أصحمة" في العربية. فقد ذكر بعض العلماء أن "أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي"، ف "أصحمة" إذن هو النجاشي المذكور.

والنجاشي Ela Atybeba=Elesboas، وهو ابن النجاشي Tayena الذي كان على النصرانية. وقد خلف هذا النجاشي، النجاشي Andas الذي كان قد أقسم أنه إذا انتصر في الحرب يتنصر. فانتصر،فدخل في النصرانية. وصارت النصرانية ديانة رسمية للحبشة. وقد لقب Tayena بلقب "ملك اكسوم وحمير Homer وريدان وسبأ وسلحين" في كتابة من كتاباته، مما يدل على أنه كان قد حكم اليمن.

وقد عثر في خرائب مدينة "مأرب" القديمة، على نص مصاب بتلف في مواضع عديدة منه، تبين من دراسة ما بقي منه انه مدون بلغة أهل الحبشة، وأنه يتحدث عن غزو بحري لميناء لم يذكر اسمه في النص، وقد يكون ذلك بسبب التلف الذي أصاب النص، قام بذلك الغزو مدون النص، وقد كان في سفينة تبعتها إحدى عشرة سفينة أخرى، فنزل بذلك الميناء وتغلب عليه ونزل المحاربون من سفنهم ودخلوا الميناء، فأخذوا غنائم وأسرى. ثم تلت هذه السفن دفعة ثانية من سفن جاءت محملة بالمحاربن، نزلوا في موضع يقع جنوب الموضع الذي نزل هو فيه. لم يذكر اسمه في النص كذلك. وقد انتصر الغزاة على الأماكن التي هاجموها، لأنهم كانوا مع الحق والشرع، فكان الله معهم، وكان أهل الميناء على الباطل وضد الشريعة الحقة فعوقبوا بالهزيمة.

والنص المذكور - وإن كان خلواً من كل إشارة إلى "ذي نواس"، أو إلى اسم "نجاشي" الحبشة، أو إلى زمن وقوع الغزو والأماكن التي وقع عليها - يشير إلى غزو الحبش لليمن في حكم "ذي نواس"، والى تغلب الحبش عليه. ويظهر منه أن القافلة الأولى تركت ساحل الحبشة من موضع "ادولس" "عدولس" "عدولي" Adulis على ما يظهر وكانت بإمرة "الا اصبحة"، فعبرت باب المندب، حتى وصلت إلى ساحل اليمن. وقد اختارت ميناء "مخا" موضعاً للنزول، فنزلت به وتغلبت على أصحابه. ثم جاءت قافلة أخرى نزلت في موضع يقع جنوب هذا الميناء، وتغلبت على أصحابه كذلك. وبذلك تم النصر للحبش. ولم يشر النص إلى أسم الموانىء التي تحرك منها الجيش، أو الموانىء التي نزل بها في ساحل اليمن.

وقد عالج الباحثون هذه الأسماء، فرأى قسم منهم أنها تعني شخصاً واحداً هو ملك الحبشة الذي حارب ذا نواس. ورأى آخرون أن المراد ب Aidug و Adad و Andas شخص واحد هو نجاشي حكم قبل هذا العهد، اي في القرن الرابع للميلاد، وهو "الا عاميدة" "علا عاميدة" Ela Amida، المعاصر للقيصر قسطنطين، وكان أول من تنصر من ملوك الحبشة على بعض الروايات. وذلك لعدم انسجام هذه الرواية التي تنص على تنصر Aidug بعد انتصاره على حمير، كما أشرت إلى ذلك، مع روايات أخرى تشر إلى تنصر ملوك الحبشة قبل غزو اليمن هذا بكثير.

وترى الروايات العربية أن ذا نواس لما غُلب على أمره ورأى مصيره السيىء، ركب فرسه وسار إلى البحر فدخله فغرق فيه. أما الروايات الحبشية والإغريقية، فإنها ترى أنه سقط حياً في أيدي الأحباش فقتلوه.

وهناك شعر نسب إلى علقمة ذي جدن زعم انه قائله، هو: أو ما سمعت بقبل حمير يوسفاً  أكل الثعالب لحمه لم يقتبر ?

وقد استدل منه "فون كريمر" على أن ذا نواس لم يغرق في البحر كما في الروايات العربية الأخرى، بل قتل قتلاً كما ورد في روايات الروم.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق