1419
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثالث والسبعون
بيوت العبادة
أشكال المعابد
ولمكانة الحرم في نفوس الجاهليين ولأنه موطن آمن من دخل فيه صار آمناً، كان لا بد من تحديده ووضع معالم تشير إلى نهايته، إما بوضع أنصاب على أطرافه من تجاوزها إلى داخله صار آمناً فلا يخاف على نفسه، وإما ببناء حائل كجدار أو سياج أو أمثال ذلك ليكون اشارة إلى حرمة ما وراءه في الداخل. وقد جعل أهل مكة حدود حرم البيت أنصاباً من تجاوزها إلى الداخل صار في حرمة الحرم وفي حماية رب البيت.
وكانت أرض المعابد، أي حرمها، واسعة في الأصل، ذات ماء وأشجار وحمى، ثم تقلصت وضيقت وحددت بحدود، بسكن الناس حولها، وبتقربهم من المعبد، وبزيادة عدد عبّاده. فعندما يتألق نجم معبد، ويكثر المؤمنون بصاحبه، يكثر زوّاره، ويتسابق الناس إلى السكن بجواره والتقرب منه جهد امكانه، إذ يكون ذلك شرفا لهم. شرف مجاورة البيت، كما يكون مكسباً ومورداً طيباً للمال، لرغبة الزوار في مجاورة المعبد، فيدفع هذا الطمع، أصحاب النفوذ والجاه على اختلاس الأرض والتجاوز على حدود الحروم فتضيق. كالذي حدث بمكة، إذ كان الحرم واسعاً كبيراً، يشمل الوادي كله، فلما هبط "قصي" به وابتنى البيوت، اعتدى من جاء بعده على الحرم حتى صغر، مما دفع الخلفاء على شراء البيوت المجاورة وهدمها لاعادة أرضها إلى الحرم ليتسع صدره للناس.
وتلحق بالمعابد أرضون،يقال لها "حمى" لأنها في حماية الأرباب والأصنام ورعايتها، فلا يعتدى عليها، ولا يقطع شجرها ولا يرعى فيها ولا يسمح بصيد الحيوان فيها والاعتداء عليه في أرض الحمى. فكان في الطائف "حمى"، وهو "حمى اللات"،وقد خصص به، وكان حمى في جرش. بل كان وادي مكة الذي أقيم البيت به "حمى" لرب البيت،ولم يكن يسمح لأحد قبل "قصي" بقطع شجره، ولا التجاوز على ما فيه من نبت. وقد كان "قُصي" كما يقول أهل الأخبار أول من اقتطع شجره، وأقام البيوت لسكناه وسكنى قريش في ذلك الوادي.
ويفهم من كلام "نيلوس" Nilus أن العرب لم يكونوا يحيطون مواضعهم المقدسة التي فيها أصنامهم بأسوار، وإنما كانوا يجعلون لحرمها حجارة تكون حدّاً وعلامة للحرم. ويتبين من كلام هذا المؤرخ الذي أسر العرب ابنه وأرادوا تقديمه إلى الزهرة قرباناً على حدّ قوله، أنه قصد بالعرب الأعراب، ولا سيما أعراب طور سيناء، وقد كانوا أشداء غلاظاً يلقون الرعب في النفوس، وكانوا يتاجرون بالرقيق يقبضون على من يقع في أيديهم ويبيعونه في أسواق الرقيق. وجماعة هذا شأنها لا تستقر في مكان، لا يمكن بالطبع أن يكون لها معبد ثابت، وإنما يكون معبدها الموضع الذي يوضع صنم القبيلة فيه، ولتعيين الأرض الحرام توضع تلك الحجارة.
إلا أن هذا لا يعني أن معابد أهل المدر كانت مسورة أو ذات حائل دائماً، فقد ذكرت أن حرم بيت الله بمكة لم يكن مسوراً،بل كان معلماٌ بأنصاب. ومكة موضع حضر. أما حرم معبد "المقه" بمأرب وكذلك أكثر معابد أهل اليمن، فقد كانت مسوّرة بأسوار عالية قوية، لها أبواب يدخل المتعبدون منها، تفتح وتغلق كما نفعل هذا اليوم في دور العبادة عندنا.
ومن المعابد الشهيرة: "البيت الحرام"، أي "الكعبة"بمكة، وسأتكلم عليه في موضع خاص. ومعبد ذو الشرى" Dusharae بمدينة "بطرا"، و "كعبة سنداد"، و "كعبة نجران"، ومعابد عديدة في مواضع أخرى من جزيرة العرب، ولا سيما اليمن.
والفضل في ظفرنا ببعض المعارف عن "بيت الرب" بمدينة "بطرا"، يعود إلى الكتابات النبطية،والى ما كتبه بعض الكتبة اليونان والسريان عنه. وقد خصص هذا البيت بعبادة الإلَه "ذي الشرى"،الذي هو "رب البيت" الذي أطلقها النبط على إلههم تذكرنا بجملة أخرى معروفة في الجاهلية عند أهل مكة، كما هي معروفة عند المسلمين حتى اليوم،هي جملة: "رب البيت"، التي تعني إلَه البيت،وهو الكعبة،وقد أقرها وثبتها الإسلام. وقد نعت "رب البيت"، "رب بيت ذي الشرى" ب "الذي يفرق الليل عن النهار" وهو نعت له أهمية كبيرة في تكوين فكرة عن وجهة نظر عبّاده اليه.
وقد نصب في هذا المعبد الصنم "ذو الشرى" على قاعدة مكسوة بالذهب، في بيت موشى بالذهب وبالصور التي تمثل مشاهد تقديم القرابين اليه. وهو في موضع مرتفع على صخرة عالية، يحج اليه الناس من مواضع بعيدة، للتقرب إلى ذلك الإله الذي يقابل الإلهَ "باخوس" و "ديونسيوس" Dionysos-Bacchus في رأي الكتبة اليونان واللاتين.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق