220
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الثالث:سياسة الملك الكامل مع الممالك في عصره:
تاسعاً:الخليفة المستنصر بالله (623ه - 640ه) :
بُويع بالخلافة يوم مات أبوه جمعة ثالث عشر رجب في هذه السنة سنة ثلاث وعشرين وستَّمائة، استدعوا به التاج، فبايعه الخاصة والعامّة من أهل الحَلَّ والعقد، وكان يوماً مشهوداً وكان عمره يؤمئذ خمساً وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان من أحسن الناس شكلاً وأبهاهم منظراً وهو كما قال القائل:
كأن الثُّريَّا عُلَّقت في جبينه
وفي خدَّه الشَّعْرَى وفي وجهه القمر()
وكانت مدة ولايته ستَّ عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوماً ودفن بدار الخلافة، كان كثير الصدقات والبر والصَّلات، محسناً إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصَّل من الذهب في بركة بدار الخلافة، فكان يقف على حافَّتها ويقول: أتُرى أعيش حتى أملأها وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول: أتُرى أعيش حتى أنفُقها كلَّها وكان يبَنْي الرُّبُط والخانات والقناطر في الطرُّقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلَّةِ من محالَّ بغداد دار ضيافة للفقراء، لاسيمَّا في شهر رمضان وكان يتقصَّد الجواري اللاتي قد بلغن الأربعين فيُشترين له فيُعتِقُهن ويُجَهَّزُهن ويُزَوَّجُهن، وفي كل وقت يبُرِْزُ صِلاِته ألوف متعدَّدة من الذهب تُفَرَّقُ في المحالَّ ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام () ، وغيرهم وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث ومارستاناً وحماماً ودار طِبَّ وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفواكه وما يحتاجون إليه في أوقاته، وأوقف عليها أوقافاً عظيمة حتى قيل: إن ثمن التَّبْنِ من غَلاَّتِ ريعها يكفي المدرسة وأهلها ووقف فيها كُتُباً نفسية ليس لها في الدنيا نظير فكانت هذه المدرسة جمالاً لبغداد، بل لسائر البلاد () وقد احترق في عهد المستنصر عام 640ه المشهد الذي بسامّرا المنسوب إلى عليَّ الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان البساسيريُّ في أيام تغلبُّهِ على تلك النّواحي في حدود سنة خمسين وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصُر بإعادته إلى ما كان عليه.. وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له ولا عينَ ولا أثَر، ولو لم يُبْنَ لكان أجود، وهو الحسن بن علي بن محمد الجَوَاد بن عليَّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكربلاء، ابن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، وقبَّح من يغلو فيهم ويبُغِضُ بسببهم من هو أفضل منهم () وكان المستنصر رحمه الله، كريماً حَليماً رئيساً متودَّداً إلى الناس، وكان جميل الصورة وحسن الأخلاق بَهيَّ المنظر، عليه نور بيت النبوة، رضي الله عنه تعالى وأرضاه وحُكي أنه اجتاز راكباً في بعض أزقة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى شيخاً كبيراً، ومعه إناء فيه طعام، قد حمله من مَحَلَّةٍ إلى محلة أخرى فقال: أيها الشيخ، لمَ لا أخذت الطعام من مَحَلتَّكِ ؟ أوَ أنت محتاجٌ فتأخذ من المحَلتَّين؟ فقال : لا والله يا سيدي – ولم يَعرِف أنه الخليفة ولكنيَّ شيخ كبير وقد نزل بي الوقت، وأنا أستحي من أهل مَحَلَّتي أن أُزاحِمهم وقت الطعام، وأتحَّينُ وقت كون الناس في صلاة المغرب، فأدخل بالطعام إلى منزلي حيث لا يراني أحد، فبكى الخليفة رحمه الله، وأمر له بألف دينار فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحاً شديداً حتى قيل : إنه انشقَّ قلبه من شدة الفرح، ولم يَعْش بعد ذلك إلا عشرين يوماً، ثم مات فحُملت الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يخلف وارثاً وقد أنفق منها ديناراً واحداً، فتعجَّب الخليفة من ذلك وقال شيء قد خرجنا عنه لله لا يعَود إلينا، تصدَّقوا بها على فقراء محَلتَّه () لقد كانت سيرتهه رحمه الله من أحسن سير العدل والإحسان إلى الرعية والعطف عليهم والحنو بهم وكان سالكاً في ذلك كله سيرة أبيه الإمام الظاهر بأمر الله وكذلك سلك مسلكه في اعتقاد مذهب أهل السنة والجماعة والكراهية لمذهب الروافض ()، وكان ذا همة عالية، وشجاعة وافرة، وإقدام عظيم () ، وقصدّت التتر بلاد العراق، فلقيهم عسكره، وانتصف منهم وهزمهم وكان له أخ يعرف بالخفاجي كان يزيد عليه في الشهامة والشجاعة وكان يقول: إن ملكني الله أمر الأمة، لأعبرن بالعساكر نهر جيحون، وانتزع البلاد من أيدي التتر، وأستأصلهم قتلا وسبياً ()، وقد توفي المستنصر عام 640ه ولما بلغت الملك الناصر داود الأيوبي صاحب الكرك وفاة الخليفة المستنصر بالله، رثاه ومدح ولده المستعصم بالله بقصيدة مطلعها :
أيا رنَّة الناعي عبثتِ بمسمعيم
فأجّجت نار الحزن ما بين أضلعي
وأخرست مِنى مِقولا ذا براعة
يصوغ أفانين القريض الموشّع
نعيتِ إلىّ البأس والجود والحجى
فأوقفت آمالي وأجريتِ أدمعي
رويداً فقد فاجأتني بفظيعة
يضيق بها صدُر الفضاءِ الموسّع
أبا جعفر ياباني المجد بعدما
تهدّم ركن المجد من كل موضع
ويا كافل الإسلام في كل موطن
وراعي رعاة الدين في كل مجمع ()
وهي قصيدة طويلة في رثاء المستنصر.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق