219
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الثالث:سياسة الملك الكامل مع الممالك في عصره:
ثامناً: خلافة الظاهر بن الناصر لدين الله عام 622ه:
لما توفي الخليفة الناصُر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا، ولقَّبه بالظاهر، وخُطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي، فتوفي في حياة أبيه سنة ثنتى عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا إلى ولاية العهد، فخُطب له ثانيا، فحين توفي أبوه بُويع له بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة، فلم يَلِ الخلافة أحدٌ من بني العباس أسنُّ منه، وكان عاقلاً وقوراً ديناً عادلاً محسناً ردَّ مظالم كثيرة، وأسقط مكوساً كان قد أخذها أبوه وسار في الناس سيرة حسنة، حتى قيل: إنه لم يكن بعد عمر بن عبدالعزيز أعدل منه لو طالت مدته، لكنه لم يَحُلْ عليه الحول، بل كانت مدته تسعة أشهر، أسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطَّلت، ووضع عن أهل بلدةٍ واحدةٍ – وهي بعقوبا – سبعين ألف دينار كان أبوه قد زادها عليهم في الخرَاجِ وكانت ضجة المخزن تزيد على ضجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا، وإذا أقبضوا دفعوا بضجة البلد، فكتب إلى الدَّيوان : "ويلٌ للمطففين * الذين إذا أكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوُهم أو وزنوهم يُخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين"(المطففين (1/6) فكتب إليه بعض الكُتاب يقول: يا أمير المؤمنين، إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثة ألفاً، فأرسل ينكر عليه ويقول: هذا يترك وإن كان تفاوته ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا () وأمر القاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعيَّ يُوصَلُ إليه بلا مُراجعة وأقام في النظر على الأموال الحشرية رجلاً صالحاً، واستخلص على القضاء الشيخ العَّلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبدالرَّزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلىَّ، الحنبليَّ،ن في يوم الأربعاء ثامن ذي الحجة، وكان من خيار المسلمين ومن خيار القُضاة العادلين رحمهم الله أجمعين، ولم عُرض عليه القضاء لم يقبل إلا بشرط أن يُوَرَّث ذوي الأرحام، فقال: أعط كل ذي حق حقَّه وأنفق لله ولا تَتَّقِ سواه. وكان من عادة أبيه أن يرفع إليه حُرَّاسُ الدُّروب في كل صباح بما كان عندهم في المحالَّ من الاجتماعات الصالحة والطالحة، فلما ولى الظاهر أمر بتبطيل ذلك كلهَّ وقال: أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك أستارهم؟ فقيل له: إن ترك ذلك يفسد الرّعية فقال: نحن ندعو الله لهم أن يُصلحهم وأطلق من كان في السجون مُعتقلاً على الأموال الدَّيوانية، وردَّ عليهم ما كان استخُرج منهم قبل ذلك من المظالم، وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يُوَفَّى بها دُيون من في سجونه من المدينين الذين لا يجدون وفاء وفرَّق في العلماء بقية المائة ألف، وقد لامه بعض الناس في هذه التُّصرفات فقال: إنما فتحت الدُّكان بعد العصر وفذروني أعمل صالحاً وأفعل الخيَر، فكم مقدار ما بقيت أعيش () .
قال ابن كثير: وكان من أجود بني العباس سيرة، وأحسنهم سريرة، وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظراً ورُواء ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحاً كثيراً على يديه، ولكن أحبَّ الله تقريبه وإزلافه لديه، فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانه ورفده ()، ... فقد اعتمد في أول ولايته من إطلاق الأموال الدَّيوانية، وردَّ المظالم، وإسقاط المكوس، وخفيف الخراج عن الناس، وأداء الديون عمَّن عجز عن قضائها والإحسان إلى العلماء والفقراء، وتولية ذوي الديانة وقد كان كتب كتاباً لوُلاة الرعية فيه : بسم الله الرحمن الرحيم، أعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً، ولا إغضاؤنا احتمالاً ولكن لنبلوكم أيكم أحسنُ عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرَّعايا وتقبيح السمُّعة، وإظهار الباطل الجَلىَّ في صورة الحقَّ حِيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاءً واستدراكاً، لأغراض انتهزتم فُرَصَها، مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مَهيب تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أُمناؤُه وثقاتُه فُتمِيلون رأيه إلى هواكم وتمزُجون باطلكم بحقَّه، فيُطيعُكم وأنتم له عاصون، ويُوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن قد بَّدل الله بخوفكم أمنّا وبفقركم غنىً وبباطلكم حقاً، ورزقكم سُلطاناً يُقيلُ العثرة، ولا يُؤاخذُ إلا من أصَّر، ولا ينتقم إلا ممن استمَّر يأمركم بالعدل، وهو يريد منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله فيُخوَّفُكم مكره ويرجو الله تعالى ويُرَغبَّكم في طـاعته، فـإن سلكتم مسالك خُلفاء الله في أرضه وأُمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام ().
وجاء في بعض الروايات، بل أنتم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى أمام قوال () ، ... ثم لقد أعلن عفوه عما سلف من خراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة وإظهار الباطل بصورة الحق وأمرهم بأن يبدوأ صفحة جديدة من العمل تقوم على العدل والطاعة () إن من أسباب صلاح الأمة مجئ الخليفة أو الحاكم المصلح الذي يقيم العدل ويتبع المنهج الرشيد الذي يسهم في تقوية الدولة والقيام بدورها الحضاري كما مرَّ معنا في الحديث عن عمر بن عبد العزيز ومشروعه الإصلاحي الكبير وكانت وفاة الخليفة الظاهر رحمه الله يوم الجمعة ضُحىَ الثالث عشر من رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة فدعا له الخطباءُ يومئذ على المنابر على عادتهم وكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوماً وعمره ثنتان وخمسون سنة () ، وكان نعم الخليفة خشوعاً وخضوعاً لربه وعدلاً في رعيته، وازدياداً في وقت من الخير ورغبة في الإحسان() وكان أبيض جميل الصورة مشرباً حمرة، حلو الشمائل، شديد القوى ()، وحكي عنه أنه دخل إلى الخزائن، فقال له خادم: في أيامك تمتلئ، قال: ما عُلمت الخزائن لتُملأ، بل لتفرغ وتنفق في سبيل الله، إن الجمع شُغل التَّجار().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق