227
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الرابع:الحملة الصليبية السادسة:
ثالثاً:المفاوضات بين الملك الكامل والأمبراطور فردريك الثاني:
عندما وصل الإمبراطور فردريك إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: "الملك يقول لك كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبذلوا كل شيء .. ولا أجيء إليهم والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي – في زمن حصار دمياط – الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية وما فعلناه وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم، ومن نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له () ؟ وحار الملك الكامل في الموقف الذي يجب أن يتخذه من الإمبراطور لأنه هو الذي دعاه إلى الشام، وألح عليه في المجيء إليها ليناصره على أخيه المعظم، واعداً إياه بقسم من أملاك هذا الخصم، فلما وصل إليها لم يعد في حاجة إلى مساعدته لأن المعظم كان قد توفي، وغدت الأملاك الموعودة جزءاً من مملكته وأصبح من واجبه أن يدافع عنها، إن لم يكن بعامل الرغبة في المحافظة عليها فبعامل الحفاظ على سمعته أمام جماهير المسلمين يصف ابن واصل الموقف فيقول : تحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الإتفاق، فراسله ولاطفه ويبدو أن الكامل أحس بأنه ليس من مصلحته ولا مصلحة البيت الأيوبي أن يصطدم بالصليبيين بالشام في تلك المرحلة التي تعرض فيها لتهديد الخوارزمية ومن ورائهم المغول، فأراد أن يطيل أمد المفاوضات بينه وبين فردريك والمعروف أن الهدنة التي تمت عقب جلاء الصليبيين عن مصر لا ينتهي أجلها إلا في نهاية 626ه/1229م وأدرك الأمبراطور أن موقف الملك الكامل أصبح على غير ما كان ينتظر ولكن ما العمل؟ وهو الذي خرج من بلاده محروماً من الكنيسة، مغضوباً عليه من البابوية، معتمداً على وعد الكامل به بإعطائه بيت المقدس لاستعادة نفوذه في أوروبا، ولو كان الأمبراطور يعلم أن الكامل سينكث بوعده لما خرج إلى الشرق أصلاً أو لكان استقدم معه جيشاً قادراً على الغزو والحرب ضد المسلمين، أما الآن فإن عدد جنوده لا يزيد على خمسمائة فارس وهو لا يعتمد على أية مناصرة من القوى الصليبية في الشام، لأن هذه القوى تأبى القتال تحت لواء محروم من الكنيسة مطرود من رحمتها، أما إذا عاد إلى أوروبا بدون أن يحقق أي انتصار، فإنه سيعطي خصومه، وبالأخص بالبابوية سلاحاً قوياً للسخرية منه والتشهير به، فالمسألة بالنسبة إليه إذن: كانت تعني مستقبل عرشه في الغرب الأوروبي ومصير المعركة بينه وبين البابوية ()، وهو لم يتردد في التصريح لأصدقائه من المسلمين في الشرق بأنه : ماله غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصده حفظ ناموسه عند الفرنج ()، وزاد من حرج موقف الإمبراطور فردريك أن البابا غريغوري التاسع أخذ يرسل الكتب سراً إلى ملوك بني أيوب بوجه عام – والسلطان الكامل بوجه خاص – محرضاً إياهم على عدم تسليم بيت المقدس للأمبراطور، ولا عجب في ذلك الموقف الذي اتخذته البابوية إذ كانت المعركة بينهما وبين الأمبراطورية في الغرب أهم في نظرها من المعركة بين المسلمين والصليبيين في الشام ()، وأنه لو قدر لفردريك الانتصار في مهمته، فإن ذلك سيكون في نظر المعاصرين بمثابة حكم الله للأمبراطور المحروم () ، لم يبق للأمبراطور فردريك الثاني أمام هذا الموقف الحرج سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية للوصول إلى غرضه والعودة إلى الغرب الأوروبي مرفوع الرأس، فأرسل إلى الملك الكامل سفارة من رسولين تحمل له هدايا نفيسة من منسوجات حريرية وأواني ذهبية وفضية، مطالباً إياه بتحقيق وعده تسليم بيت المقدس، فبعث إليه الكامل رسوله الأمير فخر الدين الذي سبق أن حمل إليه دعوة ملك مصر للقدوم إلى الشام، مرحباً به ومقدماً إليه هدايا ثمينة، ومصارحاً إياه في الوقت نفسه بأنه كان سيعطيه بيت المقدس ثمناً لمناصرته إياه على أخيه المعظم، أما وقد تبدلت الظروف ولم يعد في حاجة إلى هذه المناصرة، فإنه لا يستطيع التفريط في بيت المقدس، لأن ذلك سيثير عليه نقمة المسلمين()، وإزاء تنكر الكامل لوعوده ساء موقف فردريك الثاني لاسيما بعد أن جاءته الأخبار من الغرب بأن البابا استغل فرصة غيابه واعتدى على ممتلكاته، فأخذ يرجو الملك الكامل ويستعطفه، حتى قيل أنه كان يبكي في بعض مراحل المفاوضات وليس أدل على تذلل الإمبراطور من الكلام الذي جاء في رسائله إلى الملك الكامل: أنا أخوك واحترام دين المسلمين احترامي لدين المسيح، وأنا وريث مملكة القدس، وقد جئت لأضع يدي عليها، ولا أروم أن أنازعك ملكك، فلنتجنب إراقة الدماء (). وجاء في رسالة أخرى: أنا مملوكك وعتبقك، وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي فإن رجعت خائباً انكسرت حرمتي بينهم، وهذه القدس فهي أهل اعتقادهم وضجرهم، والمسلمون قد أخرجوها فليس لها دخل طائل، فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد الزيارة، فيكون صدقة منه، ويرتفع رأسي بين ملوك البحر () .. واستمر الأمبراطور في الاستعطاف، ولم تلبث الاستعطفات أن أتت أكلها وأفلحت في التأثير في الكامل كان الكامل يريد أن يتنصل من وعوده، إذ كانت هذه الحملة لا تشكل أي خطر على المسلمين لذا تجمدت الاتصالات بين الملك الكامل والإمبراطور خمسة أشهر وأثناء ذلك شرع الإمبراطور في عمارة صيداً وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب فاستولى عليها وعمرها، ثم عاود الاتصال بالملك الكامل وتدلل إليه وأخذ يرجو ويستعطف () كما مّر معنا وقام فردريك الثاني بتحصين يافا، جاء بمثابة مظاهرة عسكرية، جعلت الملك الكامل يخشى قيام فردريك وبقية الجموع الصليبية بالشام بعمل حربي ضده، وهو الشعور الذي فسره المقريزي بقوله: إن الكامل خاف من عائلته عجزاً عن مقاومته () وكان الدخول في حرب ضد الإمبراطور والصليبيين عندئذ تعني بالنسبة للملك الكامل وقوعه بين ثلاثة أعداء هم : ابن أخيه الملك الناصر داود من ناحية، والخوارزمية التي استنجد بها الناصر داود من ناحية ثانية، وفي ضوء هذه الحقائق كلها، وتحت تأثير رسول الملك الكامل في المفاوضات الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، تنازل عن بيت المقدس ().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق