223
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الرابع:الحملة الصليبية السادسة:
أولاً:شخصية الإمبراطور فردريك الثاني وطموحاته:
اشتد في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي التنافس الذي وصفنا نشأته في الفصل الأول من هذا الكتاب، بين البابوية والإمبراطورية المقدسة، فبينما كان الصراع على أشده بين الإسبانيين والمسلمين في الأندلس والمغرب، وبين الصليبيين والمسلمين في الشرق الأدنى، كان ثمة صراع آخر يدور في غرب أوروبا بين السلطة الكنسية والسلطة الزمنية، للفصل في أمر طالما أثار النزاع والجدل، أمر يلخصه هذا السؤال : من هو السلطان الأكبر البابا أم الإمبراطور؟ وكان بطل هذا الدور الجديد من أدوار ذلك الصراع الإمبراطور فردريك الثاني "الأنبرور" ().
وتعد حياة فردريك الثاني من أهم النقاط المثيرة للجدل في تاريخ أوروبا بأسرها، فقد عاش عند مفترق الطرق التي تفصل الشرق عن الغرب، وشملت إمبراطورية ألمانيا بكل مقاطعاتها فضلاً عن إيطاليا وصقلية وهو ينحدر من عائلة () هنشتاوفن من أب ألماني هو هنري السادس ملك ألمانيا وأم نصف إيطالية ونشأ وتربى في صقلية على مقربة من المؤثرات الإسلامية والبيزنطية، فنشأ فيلسوفاً محباً للجدل والرياضيات وأجاد ست لغات من بينها اللغة العربية، ونظم الشعر، وأغدق من ماله وعنايته لتشجيع العمارة والنحت والتعليم وهو إلى جانب ذلك جندي بارع وسياسي لبق إلى أقصى درجات اللباقة، مع الجرأة التي لا تخشى شيئاً، والنزعة الفكرية الجانحة إلى ميادين الفلسفة والفلك والهندسة والجبر والطب والتاريخ، وألف فردريك في البيزرة، علم تربية الطيور الجوارح وتدريبها على الصيد والقنص، كتاباً يعتبر أصلاً من أصول العلوم التجريبية في غرب أوروبا، واصطحب في أسفاره مجموعة من الفيلة والهجائن وعجايب المناطق الإستوائية الحارة من أنواع الحيوان، ولم تكن التقاليد المسيحية التي التزمها الناس في ذلك العصر مما يأبه له فردريك الثاني وفي الوقت الذي كان للبابا في الغرب الأوروبي المكانة الرفيعة السامية باعتباره خليفة القديس بطرس، نجد فردريك ينعته بالدجال ()، وقد عرف عن فردريك الثاني حبه للمسلمين الذين نشأ بينهم في صقلية وقد دفع ذلك بعض الكتاب إلى اتهام فردريك بمحاباة الإسلام على حساب المسيحية، في حين ذهب البعض الآخر مثل فولتير ومونتسكيو إلى القول بأن كراهية فردريك الثاني للبابوية والكنيسة الغربية هي التي دفعته إلى حب الإسلام والمسلمين وعلى الرغم من أن فردريك الثاني قد بدا حياته السياسية بتحالفه مع البابوية وهو التحالف الذي أفاده إلى حد كبير ضد خصومه ومنافسيه في ألمانيا، إلا أن الأمور لم تلبث أن تعقدت بين الطرفين، بعد أن تأكدت البابوية أن فردريك غير قانع بصقلية وجنوب إيطاليا، وإنما أخذ يعمل على توطيد نفوذه في شمال إيطاليا، أي في إقليم لمبارديا وأنه اتخذ إيطاليا وصقيلة مسرحاً أساسياً لجهوده والتمكين لنفسه حقيقة أن فردريك قد حرص آنذاك على احترام مركز البابوية في إيطاليا، ولكن سيطرته على جنوب إيطاليا وشمالها كان نذيراً بوقوع الأملاك البابوية في وسط إيطاليا بين فكي الكماشة، مما جعل البابا يرتاب في سياسة فردريك وينظر إليها بعين ملؤها الشك والخوف وفي سنة 1215م أقسم فردريك للبابا انيوسنت الثالث أن يقوم بحملة صليبية ضد المسلمين ولما كان فردريك الثاني يميل للمسلمين ويعطيهم حقهم من الاحترام والتقدير لذلك لم يجد الدافع الذي يدفعه للخروج من بلاده على رأس حملة صليبية ضدهم، ومن ثم أخذ يعتذر للبابا مرة بعد مرة، والبابا يقبل عذره، وبعدما أصاب الحملة الصليبية الخامسة من الفشل حاول البابا هو نوريوس الثالث أن يوجد الدافع لدى فردريك للخروج في حملة صليبية ضد المسلمين، وأن يزيد في توطيد صلة فردريك بالأراضي المقدسة في فلسطين، فرتب البابا زواج فردريك من بولاند ابنة حنا دى برين، ووريثة عرش مملكة بيت المقدس الصليبية، واشترط البابا أن يتم الزواج في الشام وقد نفذ فردريك رغبة البابا وتم زواجه من بولاند، ولكن بدلاً من أن يذهب فردريك إلى الشام ويتم الزواج هناك، استدعى عروسه إلى صقلية، وعقب هذا الزواج اتخذ فردريك لقب ملك بيت المقدس باعتباره من حقوق زوجته() وعلى الرغم من أن البابا جريجوري التاسع (1227-1241م) كان طاعناً في السن، إلا أنه امتاز بإرادة حديدية لا تفل فلم يقبل الأعذار التي دأب فردريك الثاني على ابتكارها من أجل تأجيل حملته الصليبية، وأصر على ضرورة رحيل الإمبراطور إلى الشرق فوراً، وإلا تعرض لعقوبة الحرمان ولم يجد الإمبراطور فردريك الثاني مفراً من الخروج في خريف سنة 1227م قاصداً بلاد الشام، خصوصاً بعد أن اتصل به الملك الكامل الأيوبي وأرسل له سفارة على النحو الذي سبق توضيحه، ووعده بتسليمه مدينة القدس مقابل بذل المساعدة العسكرية له ضد شقيقه المعظم وبذلك أوجد للإمبراطور الدافع الذي يخرج من أجل تحقيقه ().
وهكذا تهيأت الظروف لقيام الإمبراطور فردريك الثاني بحملة، ولم يكن استنجاد الملك الكامل الوحيد الذي حرك الإمبراطور فردريك الثاني للذهاب إلى الشام، وإنما كانت البابوية تضغط عليه ضغطاً شديداً للقيام بحملة صليبية جديدة، تصلح الوضع الذي نجم من فشل الحملة الصليبية الخامسة، وغني عن البيان أن تلك الفترة تعرف في التاريخ الأوروبي باسم عصر البابوية والإمبراطورية، نظراً لما احتدم من خلاف وما نشب من حروب بين السلطتين الدينية والعلمانية في غرب أوروبا، وكان الإمبراطور فردريك متخوفاً من تنفيذ وعده الصليبي لئلا يترك البابا حراً طليق اليد في العدوان على مصالح الإمبراطور أثناء غيابه، ولذلك أخذ فردريك الثاني يماطل البابوية ويؤجل مشروعه الصليبي ().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق