161
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الثاني:السياسة الأيوبية الداخلية في عهد الملك الكامل
خامساً:أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه من مشاهير عصر الدولة الأيوبية في عهد الملك العادل والملك الكامل:
10-وصية موفق الدين ابن قدامة:قال الشيخ موفق الدين:
الحمد لله ذي الوجه الكريم، والفضل العظيم، والمن القديم، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
- فقد سألني بعض إخواني الصالحين أن أكتب له وصية، فامتنعت عن ذلك، لعلمي أني غير مستوص في نفسي، ولا عامل بما ينبغي، ثم بدا لي أن أجيبه إلى مسألته، رجاء ثواب قضاء حاجة الأخ المسلم، ودعائه لي، وأن يجري لي أجر إذا عمل بوصيتي، وأن أكون من الدالين إلى الخير، حين عجزت عن عمـله لأكـون بدلالتي عليه كفاعله، والأعمال بالنيات، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب ().
- اعلم رحمك الله، أن هذه الدنيا مزرعة الآخرة، ومتجراً رباحها، وموضع تحصيل الزاد منها، والبضائع الرابحة بها بذر السابقون، وفاز المتقون، وأفلح الصادقون، وربح العاملون، وخسر المبطلون، وإن هذه الدار هي أمنية أهل الجنة وأهل النار، قال الله تعالى في أهل النار "وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل" (فاطر، 37) وقال سبحانه: "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين" (الأنعام،: 27) وقال في حق أهل الجنة "ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين"(النحل،: 30) قال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة، ذكر ذلك البغوي رحمه الله وقال ابن مسعود رضي الله عنه فيما يرونه: إن أرواح الشهداء كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فبينما هم كذلك إذ أطّلع عليهم ربك إطلاعة فقال: يا عبادي سلوني ما شئتم. قالوا ربنا نسألك أن تردّ أرواحنا في أجسادنا، ثم تردنا إلى الدنيا، فنقتل مرة أخرى، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك تركوا حقيقة الدنيا كما يرأها ابن قدامه.
وأعلم يا أخي رحمك الله تعالى، أن الله تعالى قد علم أنهم يسألون ذلك وأنهم لا يردون إلى الدنيا، وإنما أراد إعلام المؤمنين الذين في الدنيا أمنيتهم في الجنة القتل في سبيله ليرغبهم في ذلك، وقال إبراهيم التيمي، رحمه الله تعالى: مثلت نفسي في الجنة مع حورها، وألبس من سندسها، وإستبرقها آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها وأتمتع بنعيمها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تتمنين؟ فقالت: أردُّ إلى الدنيا، فأزداد من العمل الذي نلت به هذا، ثم مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها أحرق بجحيمه، وأجزع من حميمها، وأطعم من زقومها، فقلت لنفسي: أي شيء تتمنين؟ فقلت لنفسي أردّ إلى الدنيا، فأعمل أتخلص به من هذا العذاب، يا نفسي، فأنت في الأمنية فقومي فاعملي صالحاً.
- وكان بعض السلف قد حفر لنفسه قبراً، فإذا فتر من العمل نزل في قبره، فتمدد في لحده ثم قال : يا نفس قدّري أني قدمتّ، وصرت في لحدي، أي شيء كنت تتمنين؟
- وأعلم رحمك الله، أن أهل القبور أمنية أحدهم أن يسبح تسبيحه تزيد في حسناته، أو يقدر على توبة من بعض سيئاته، أو ركعة ترفع في درجاته، وقد روينا أن رجلاً ركع ركعتين إلى جانب قبر، ثم اتكأ عليه فأغفى، فرأى صاحب القبر في المنام يقول: تنَّح عني، فقد آذيتني والله إن هاتين الركعتين اللتين ركعتهما لو كانتا لي كانتا أحب إلي من الدنيا وما فيها، إنكم تعملون، ولا تعلمون ونحن نعلم، ولا نعمل ().
- فاغتنم رحمك الله حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة، وأعلم أن مدة حياتك محدودة، وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقض به جزء منك، والعمر كله قصير، والباقي منه هو اليسير، وكل جزء منه جوهرة نفسية لا عدل لها، ولا خلف منها، فإن بهذه الحياة السيرة خلود الأبد في النعيم، أو العذاب الأليم وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفس بعدل أكثر من ألف عام في النعيم المقيم الذي لا حصر له، أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة او قرية تتقرب بها، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا، فضاعت منك، لحزنت عليها حزناً شديداً، بل لو ضاع منك دينار لساءك؛ فكيف تفرط في ساعتك وأوقاتك؟ وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟
- فاجتهد رحمك الله تعالى في الكون من الفرقة الأولى الذين استوعبوا الساعات بالطاعات، ولم يفرطوا في شيء من الأوقات.
- وألزم قلبك الفكر في نعم الله لتشكرها، وفي ذنوبك لتستغفرها، وفي تفريطك لتندم، وفي مخلوقات الله وحكمه لتتعرف عظمته وحكمته، وفيما بين يديك لتستّعد له أو في حكم شيء تحتاج إليه لتعلمه.
- وألزم لسانك ذكر الله تعالى ودعاءه واستغفاره أو قراءة قرآن، أو علماً أو تعليماً، أو أمراً بمعروف أو نهيا عن منكر، أو إصلاحاً بين الناس.
- وأشغل جوارحك بالطاعات، وليكن من أهمها الفرائض في أوقاتها على أكمل أحوالها، ثم ما يتعدى نفعه إلى الخلق وأفضل ذلك ما ينفعهم في دينهم لتعليمهم الدين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
- واحترس من مفسدات الأعمال، لئلا يفسد عملك ويخيب سعيك، فلا تحصل على أجر العاملين، ولا راحة الباطلين، وتفوتك الدنيا والآخرة، فمن ذلك الرياء، والعمل لمحمدة الناس، فإن هذا أشرك وقد روينا عن الله عز وجل أنه قال: من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء. وقد لا يحصل للمرائي ما قصده فيخيب بالكلية، فقد روينا أن رجلاً كان يرائي بعمله فإذا مّر بالناس قالوا : هذا مرائي فقد روينا أن رجلاً كان يرائي بعمله، فإذا مَّر بالناس قالوا: هذا مرائي، فقال يوما في نفسه : والله ما حصلت على شيء، فلو جعلت عملي لله، فما زاد على أن قلب نيته، فكان إذا مر بهم بعد قالوا: هذا رجل صالح، ومن ذلك العجُب فقد روي : إن المدلّ لا يجاوز عمله رأسه وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام : يا موسى قل للعاملين المعجبين بعملهم اخسروا، وقل للمذنبين التائبين النادمين أبشروا". وقال بعضهم: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليّ من أبيت قائماً وأصبح معجباً ().
- ولا تحقرنَّ مسلماً، ولا تظنن أنك خير منه، فإن ذلك ربما أحبط عملك.
- وأعلم – رحمك الله – أن هذه الدنيا سوق متجر الأبرار، وحلبة السباق بين الكرام الأخيار، ومزدرع التقوى ليوم القرار، ومحل تحصيل الزاد للسفر الذي ليس هو كالأسفار، فبادر رحمك الله تعالى قبل فوات إمكان البذار، واغتنم أنفاسك العظيمة المقدار، وأذرف من دموعك الغزار على ما سلف منك في تفريط الأوزار، فإن القطرة من الدموع من خشية الله تعالى تطفئ البحور من النار، وتيقظ في ساعات الأسحار عند نزول الجبار، وأحضر بقلبك قول العزيز الغفار هل من سائل فأعطيه هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر، فأغفر له، قل: نعم يارب، أنا السائل المحتاج الفقير، أنا الضعيف الكسير، أنا الداعي الراجي، أنا المستغفر المذنب المقر المعترف، يا صاحب الصدقة، هأنذا أرحم ضعفي، وكِبرَ سني، أرحم فقري وفاقتي وحاجتي ومسكنتي، يا كثير الخير، يا دائم المعروف، لا تخيب حسن ظني بك، ولا تحرمني سعة معروفك، ولا تطردني عن بابك، ولا تخرجني من أحبابك، أسألك يا عظيم فإنك قلت وقولك الحق : "وأسألوا الله من فضله" (النساء، آية:32).
- إلهي، ما أمرتني أن أسألك إلا وأنت تريد أن تعطيني ولا دللتني عليك إلا وأنت تريد أن تهديني، ولا أمرتني بدعائك إلا وأنت تريد أن تجيبني.
- أسألك من فضلك أن تجعلني مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن تجعلني من الذين تحبهم ويحبونك، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، ومن الأئمة الذين يهدون بأمرك وأرزقنا فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأجعلنا من العابدين لك، ومن الذين يسارعون في الخيرات ويدعونك رغباً ورهباً، وأجعلنا لك من الخاشعين، ومن الذين يطيعوك، ويطيعون رسولك، ويخشاك ويتقيك، وأجعلنا من الفائزين.
- رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني في عبادك الصالحين وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ().
- رب أنت أصلحت الصالحين، وفضلت الصديقيين، وسبَّقت السابقين وقّربت المقربين وتفضَّلت عليهم، ثم أثنيت عليهم، ومنحتهم، ثم مدحتهم، لولاك ما وصلوا إليك، ولولا إحسانك ما فازوا لديك، فأسألك بوجهك الكريم، ومنّك القديم، وفضلك العظيم، أن تتفضل علينا بما تفضلت به عليهم، وتصلحنا بما أصلحتهم وتمنحنا كما منحتهم، وتعطينا كما أعطيتهم، وتجود عليهم بما جدت عليهم، والكل عبيدك، وفي قبضتك، يارب دعوتنا إلى دار السلام، فأهدنا إلى الصراط المستقيم لنجيب دعوتك، فإننا لا نستطيع إجابتك إلا بهدايتك ولا نصل إلى دعوتك إلا بعنايتك () .
- إلهي عممت بدعوتك، وخصصت بعنايتك من شئت فأجعلنا من خاصتك، ومنّ علينا بالتوفيق لإجابتك وأدخلنا في أهل ولايتك، يارب أمرتنا بما لا يُصدر على فعله إلا بك، ونهيتنا عما لا نقدر على تركه إلا بتوفيقك، ورغبتنا فيما لانناله إلا بفضلك، وحذرتنا مما لا نسلم منه إلا بجودك وكرمك، اللهم فوفقنا لامتثال أمرك، وأجتناب زجرك، وأعطنا ما رغبتنا فيه، وجنبنا ما حذرتنا منه، اللهم إنك سألتنا من أنفسنا مالا نقدر على فعله إلا بك اللهم فخذ لنا منها ما ترضى به عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
- اللهم إنك أخذت بقلوبنا ونواصينا فلم تملكنا شيئاً منها، فإذا فعلت ذلك بهما فكن أنت وليهما، وأهدنا إلى سواء السبيل () .
هذه من الوصايا العظيمة التي قيلت في عهد الملك الكامل الأيوبي والتي كان لها أثر عظيم في تلاميذ ابن قدامه رحمه الله.
11- وفاته: توفي ابن قدامة – رحمه الله – يوم السبت يوم عيد الفطر سنة 620ه بمنزله بدمشق () وقد اتفقت كافة المصادر على أنَّ وفاة ابن قدامة كانت في هذا التاريخ وكان له من العمر عند وفاته قريباً من تسعة وسبعين عاماً، حمل ابن قدامه إلى سفح جبل قاسيون فدفن به وقد امتد الناس في طرق الجبل فملؤوه، وكان الخلق الذين حضروا جنازته لا يحصون فقد حصل جمع عظيم لم يُرَ مثله () ، وقد رؤيت له منامات صالحة فرحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته وغفر لنا وله، وحشرنا جميعاً في زمرة المتقين إنَّه على ذلك قدير ().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق