233
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الرابع:الحملة الصليبية السادسة:
سادساً: رفض الصليبيين للصلح:
لم يعجب الصليبيين استرداد فردريك الثاني بيت المقدس، وأخذوا يعبرون عن غضبهم بشتى الصور فقالوا: إن كرامة المسيح كانت تحتم أن تؤخذ المدينة المقدسة بحد السيف وليس بطريق الاستجداء والبكاء كما فعل الإمبراطور ()، وعلى الرغم من أن الذي حققه فردريك الثاني بإتفاقه مع الملك الكامل كان أنجح مما حققته الحروب الصليبية كلها بعد معركة حطين 583ه/1187م، فإن أعداء الإمبراطور لم يتركوا فرصة للعمل ضده إلا استغلوه، فقد أرسل فرسان المعبد سراً برسالة يبدو أنها كانت بإيحاء من البابا غريغوري التاسع: يخبرونه فيها بأنهم أي الفرسان قد عملوا أن الإمبراطور سيخرج بصحبة نفر من اتباعه من بيت المقدس إلى نهر الأردن للصلاة وهم يدعون السلطان الكامل لإنتهاز هذه الفرصة للفتك بالإمبراطور وقتله.. اشمأز الكامل من خيانة هؤلاء الفرسان، فأرسل إلى الإمبراطور نفسه هذا الخطاب المختوم بختم رئيس فرسان المعبد ().
وبقي الأمبراطور يومين في القدس، ثم عاد إلى يافا خوفاً من الداوية () وغادر فريدريك أرض فلسطين بعد إبرامه الاتَّفاقية مع السلطان الكامل، فقد وصلته الأخبار أن جنود البابا قد هاجموا ممتلكاته في جنوب إيطالية، وتمكَّن فريدريك بعد وصوله إيطالية من التصَّـدي لقـوَّات البابا، وهزيمتها عام 627ه - 1230م وأجبر البابا على عقد معاهدة سان جرمانوا، حيث ألغى حرمانه وصادقا البابا – في السنة التالية – على معاهدته مع السلطان الكامل وأرسل البابا أوامره إلى طوائف الرُّهبان الفُرسان الدَّاوية والاسبتاريَّة لمراعات نصوص اتّفاقية فريدريك مع المسلمين () ولكن الهدنة لم تمنع البابا من توجيه نقد كبير لاتَّفاقية فريدريك مع المسلمين، فاتَّهمه البابا غريغوري بأنَّه وحده يعرف شروط المعاهدة ()، لقد أشارت المعاهدة مع السلطان الكامل والتي تسلمَّ بموجبها الإمبراطور فريدريك مدينة القدس البابا، وأقامته، ولم تقعده وشنع على فريدريك وقال واصفاً معاهدته مع الكامل: إنها تتوافق مع شريعة المسلمين، أكثر من توافقها مع شريعة إيماننا، واتبّع عاداتهم في عدة نقاط منها: مساعدة السُّلطان ضّد جميع الناس من مسلمين ومسيحيين () ، وفي رسالة أرسلها البابا لمندوبه في فرنسا، يقول: أخذ فريدريك بوسائل المسلمين، وهاجم ميراث الكرسي الرسولي، والذي هو أكثر مقتا، إنَّه يبُرم – الآن – معاهدة مع السلطان ومع مسلمين آخرين، ويظهر اللُّطف نحوهم، ويبُدي الكراهية المكشوفة تجاه المسيحيين، ثم يذكر أن فريدريك يُشجَّع المسلمين على الإغارة على طائفتي الاسبتارية والدَّاوية فعندما هاجم المسلمون أراضيهم وبعد أن قتلوا عدداً كبيراً من أتباعهم، حملوا معهم كمَّيَّات كبيرة من الغنائم، فهاجم الدّاوية، وانتزعوا منهم بعضاً من الغنائم، فقام وزير الإمبراطور بمهاجمتهم عندما كانوا عائدين، وانتزعوا منهم بالقوّة هذه الغنائم، وأعادها للمسلمين، كما أنه جمع مائة عبد كانوا لدى الاسبتاريَّة والدَّاوية، وأعطاهم للمسلمين وضمَّن البابا رسالته اتَّهامات كبيرة ضدَّ فريدريك حتى إنَّه يسميه نائب محمد (). ولكن الصلح بين الفريقين كان قصير الأجل، إذ لم يلبث الخلاف أن اشتد بين البابوية والإمبراطورية بعد وفاة البابا غريغوري التاسع سنة 1243م إذ عقد خلفه البابا انوسنت الرابع مجمعاً في ليون سنة 1245م قرر فيه حرمان فردريك الثاني من جديد وفي قرار حرمان البابا أنوسنت الرَّابع للإمبراطور فريدريك الصادر في مجمع سليون يُعدَّد البابا ذُنُوبَ فريدريك وخطاياه العظيمة، ومنها:
التحالف بحلف مقيت مع المسلمين.
إرسال الرُّسُل والهدايا إليهم، وتلقَّي الهدايا منهم.
تبنيَّ عادات المسلمين والاعتماد على مُسلمين في خدماته اليومية.
سمح لاسم محمد أن يُذكر علنا في هيكل الرب.
استقبل سُفراء سُلطان مصر، الذي يُلحق الأذي بالأرض المقدسة ().
إن هذه الذُّنُوب التي يُعددَّها البابا لفريدريك تُعطينا فكرة واضحة عن نظرية البابوية إلى المسلمين وإلى التعامل معهم، ومدى الحقد والكراهية التي كانت تزرعها البابويَّة في نفوس المسيحيين الأوروبيين لتدفعهم ضَّد المسلمين في حملات ظاهرها الدفاع عن الدَّين وباطنها إعلاء سُلطة البابويَّة وزيادة ممتلكاتها وثرواتها، فقد وظفَّ علاقته بالمسلمين من خلال السلطان الكامل ليتقوَّى شعبياً في أوروبا ضَّد البابا، ولم يخسر فريدريك من علاقته بالسلطان الكامل، بقدر ما ربح في أوساط الشعوب الأُورُوبية، التي كانت تتملل من ظُلم البابوات، وانحرافهم الواضح عن مهامَّهم الدَّينيَّة وانغماسهم بأمور الحكم والسياسة فقد ساعد فرديريك في وُقُوفه بوجه البابوّية الخيال الشعبي الأُورُوبي، الذي اعتبره خلفاً لبربروسا، ومُحرَّراً للضريح المقدس وصحيح أن البابويَّة حرمته كَنسيَاً، واعتبرته مُهرطقاً ومُجحفاً وحانثاً بالقسم، لكن فريدريك حرم البابويّة من ثرواتها، ومن كثير من أملاكها، فتحوَّل في الخيال الشعبي الأُورُوبي إلى شخصية تُعاقب رجال اللاهوت في أيام الدُّنيا الأخيرة؛ أما في ألمانيا فقد اعتبر المُخلصّ ضدَّ ظلم الكنيسة، لذلك ردَّ البابا بوضع كُلَّ ألمانيا تحت الحرمان، وردَّ على البابا الوُعاَّظ المتجوَّلون الذين أعلنوا البابا أنوسنت الرّابع شرَّيراً إلى درجة أن حرمانه لا يعني شيئاً، وأن البابا والأساقفة مُهرطقيـن، وطلبـوا مِن الناس الصلاة للإمبراطور فريدريك وإبنه كونراد الصالحين الكاملين () معاً. لقد كان للصراع بين البابا أينوسنت الرّابع والإمبراطور فريدريك الثاني أثرً واضحاً في الشرق تعدَّى الإمارات الفرنجية إلى الممالك الأيُّوبية، فبعد فشل الحملة الخامسة، حملة البارونات على مصر، مباشرة، أصدر مجمع ليون 642ه/1245م قراراً بتوجيه حملة جديدة لكنَّ انشغالَّ البابا بالصراع مع فريدريك جعله يُوجَّه هذه الحملة ضدَّه، لذِلك لَعنَهُ، وحرمه كنسيا وعدّه ملحداً، ليستحقَّ أن تتـوجَّه حمـلة صليبية ضدَّه، فأخذ البابا التبرُّعات المالية للحملة الصليبية واستخدمها ضدَّ فريدريك (). إن صراع البابوية َّ ضدَّ فريدريك كان مُنَّبهاً لكثير من الفُرسان والنُّبلاء الأوروُبيين لاستغلال البابويةَّ لهم فقد رفض البارونات الإنكليز – صراحة – الاشتراك في الحملة التي دعا إليها مجمع ليون، وقال هنري الثالث ملك إنكلترا لمبعوث البابا، إن وُعَّاظ الحملة يخدعون الشعب، ولن نسمح لهم بعد ذلك، وحتى في أوساط اللاهوتيين إرتفعت أصوات المعارضة للحملات الصَّليبيَّة نحو فلسطين، فقد صّرح اللاهوتي رادولف نيفر قائلاً : من الجُنون التدخل في شؤون فلسطين حين تتعرَّض المسيحيَّة في الغرب لخطر الهرطقة، وقال : أيُّ معنى لتحرير القدس من المسلمين حين يتجذَّر الكفر في أرض الوطن وكان الشاعر المغنَّي الجّوال الفرنسي ريمون جوردان يتغنىَّ في إحدى قصائده قائلاً: إن ليلة مع الحبيبة أفضل من جميع أطايب الجنَّة، يُوعَد بها المشارك بحملة صليبية، أمَّا الشاعر الجَّوال بيرود، فكان يتغنَّى بمقطع يقول فيه:
من صلاح الدَّين شبعنا
أرض الوطن عزيزة على الناس
وتعدَّى الأمر إلى التفكير في أُورُوبة بشرعية الحملات أصلاً، فنقدوها بشكل لاذع، وعبَّر الشاعر الجوّال الألماني فولغرام فون إيشتنباخ عن رأي عدد من الفُرسان حين قال: إنه من المشكوك فيه أن يكون من العدل قتل أتباع الأديان الأخرى، إضافة إلى أن الصراع بين البابويَّة والإمبراطوُر قد مزّق إيطالية وألمانيا () وأمَّا إنكلترا، فقد حزم ملكها هنري الثالث أمره بعدم المشاركة في أيَّ حملة، ودفع للبابا أنوسنت الرّابع ليس لإعفائه من السفر بنفسه فقط، بل لمنع الإنكليز كافَّة من الإبحار الشَّرق، وفرض حراسة مُشدَّدة على شواطئ بلاده لمنع أيَّ صليبي من المغادرة، أمّا الحملة الفرنسية نحو مصر، فلم تتّم إلا بضغط شديد يُشبه الهَوَس من قِبل لويس التاسع ملك فرنسا إن البابويَّة وازنت بين مصالحها في أوُرُوبة وما تُحقَّقه الحملات إلى الشرق، فتبيَّن لها أن الكفّة تميل بشدة نحو أورُوبا إضافة إلى المقاومة التي كانت تلقاها فكرة الحملات الجديدة أما الوعَّاظ البابويون؛ فقد طوَّروا أُسلُوبهم في الدعوة، ولأن الجانب المالي من رسالتهم هو المهُمُّ، لذلك غفروا خطايا من يتبرَّع بالذهب والفضَّة كفداء لنفسه في الاشتراك الشخصي بالحملة، أما البابا، فكان تطويره لأفكار الحملات وأهدافها أكبر من ذلك، فقد أعلن : أن القُدْس لم تعد هدف الحملة () ، فهو يريد تحقيق مشاريعه السياسية والعسكرية أولاً فالهدف السياسي للبابا أزاح بسُهولة الهدف الدَّيني للحملة، ولذلك عندما قام لويس التاسع بحملته الصليبية على مصر لم يقم البابا بأيَّ خُطوة إيجابية لمساعدته، فقد كان البابا يخوض حربه الصَّليبَّية الخاصَّة ضدَّ فريدريك وانشغل – تماماً – عن القديس لويس ()، وقام فريدريك بإرسال المؤن إلى لويس عندما هدَّدته المجاعة في قبرص، فكتب لويس إلى البابا يرجوه إيقاف الحرب، ضَّد فريدريك، لإنقاذ الجيش الصليبي، فلم يلتفت له، ثم كتبت بلانشي أمّ الملك لويس إلى البابا تلتمس عفوه عن فريدريك، فرفض البابا كُلَّ ذلك، وضايق فريدريك أكثر، فأكثر ()، وبعد الفشل المأساوي لحملة لويس، وأسره في مصر، تمّ أطلاق سراحه، عاد أخوا الملك كوُنت أنجو وكونت بواتيه إلى ليون، وقابلا البابا أنوسنت الرَّابع، وأبلغاه طلب لويس المساعدة والصُّلح مع فريدريك؛ ليتفرَّغا من حربهما لمساعدته، لكنَّ البابا – على ما يبدو – لم يتحمسّ للطلب فهدَّدا بإخراجه من مدينة ليون الفرنسيةَّ، ()واتهماه بالتسبب بهزيمة لويس في مصر؛ لتصُّرفه بالأموال التي جمعها باسم الحملة في أغراض أخرى().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق