203
موسوعة الحروب الصليبية (4)الحملات الصليبية "الأيوبيون بعد صلاح الدين"
الفصل الثاني:عهد الملك الكامل بن العادل الأيوبي
المبحث الثالث:سياسة الملك الكامل مع الممالك في عصره:
سادساً:الملك الكامل والتتار:
كان أول خليفة عباسي شعر بالخطر الحقيقي للتتار هو الخليفة المستنصر بالله الذي اهتم بأمرهم غاية الاهتمام، ويرجع اهتمام هذا الخليفة الجدَّي بأمر التَّتار إلى عدة أسباب منها:
1- أن غارات التتار قد اكتسحت مناطق واسعة من العراق.
2- أنهم استولوا على مناطق في العراق، عدا عن كونها قريبة جداً من بغداد، فقد كانت – حتَّى وقت قريب – من أملاك الخليفة، مثل ششتر ودقوقا التي احتَّلها الخوارزمي، وأخذها التَّتار منه.
3- رُبّما تأكد الخليفة أنه – في النهاية – هو المقصود، وأنه الهدف الأكبر لحملات التَّتار ولكل ذلك: تواترت رُسُلُهُ إلى الملك الكامل والملك الأشرف لقُدُومها إلى الشَّام، وفي عام 629ه خرج الأشرف من مصر، وتبعه الكامل بجيوشه، وعلى مقدَّمته ابنه الصالح أيوب، وعلى العسكر فخر الدين ابن شيخ الشيوخ ثم خرج من دمشق وعسكر بسلمية ومعه عساكر يضيق بها الفضاء، وسار، فتفرقَّت العساكر لكثرتها، وأتته رسل ملوك الأطراف ويرى بعض الباحثين بأن خروج بني أيوب من مصر بهذا الجحفل كان لمجرَّد دعوة الخليفة لهم، فحتَّى الآن كانوا يعدُّون التَّتار يبغون النهب والعودة إلى قواعدهم بما نهبوه، وأنهم ليسوا طالبي مُلك، ولا أصحاب حُكم مدن، فيكفي لتجنُّب شرَّهم إغلاق أبواب المدن حتى ينتهي هجومهم ولكن الذي دفع الكامل والأشرف للاهتمام الجدّيّ بأمر التَّتار هو تبدُّل في خطة التَّتار أنفسهم، فبعد الغارات والسلب والنهب والقتل ثم العودة شرقاً قرَّروا فتح خِلاط عاصمة الجزيرة، وأغنى مدنها وأكبر المرتكزات الأيوبية فيها؛ وفي الحقيقة، لم يكن هذا تِبدُّلا حقيقياً في خُطة التتار، بل هو تطبيق للجُزء الثاني منها، فالغارات ليست للسلب فقط، بل للاستطلاع، ولكشف المناطق وترويع الناس، وترحيلهم، حتى لا يبقى من له قدره على المقاومة، لا مادياً ولا معنوياً، ثُمَّ يهاجمون الحواضر، ويقيمون مرتكزات حُكمهم فيها وقد وصلت الجيوش الأيوبية إلى الجزيرة، وأقام الكامل في حرَّان ووصلتهَ النجدات من أيُوبية الشام، وجاءت الأخبار برحيل التتار المحاصرين لخِلاط، ويُبَّرر ابن نظيف سبب رحيل التَّتار بقوله: فرحلوا عنها خوفاً من السُّلطان () ، وبالفعل، فالقَّوة المحاصرة لخِلاط لا يمُكن أن تقاوم هذا التجمع للجيوش الأيوبية لأن التتار لم يكونوا قد وصلوا إلى المرحلة الثالثة من خطتهم وهي الزج بكامل قواتهم في المعركة، وسيتم ذلك مع هجوم هُولاكو بالقَّوة الرئيسية للتَّتار على الجزيرة وحلب بعد فراغه من أمر بغداد، وربما بسبب عدم وجود تصور شامل للصراع القادم مع التتار لدى الملوك الأيوبيَّة لم يتمكنوا من التعامل العسكري أو السياسي الصحيح معهم، فالكامل بعد أن سمع بعودة التَّتار عن خِلاط لم يقْم بتعقُّبهم أو حتى القيام بمسير استعراض خلفهم، بل، بدلاً من ذلك، استولى على آمد من الملك المسعود الأرتقي، وعاد دون أيَّ صدام مع التَّتار () ، ومع هذه العودة للكامل التي دلت على جهله أو تجاهله لخطر التَّتار، فإن ما فعله أفضل ممَّا قام به الخليفة ومظفر الدين كوكبري صاحب إربل وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل عام 631ه/1234م، فقد وصلت رُسُلُ التتار إلى إربل والموصل يطلبون شراء موادّ تنقصهم، فسمحوا لهم: واشتروا جمالاً وأقمشة وأُقيم لهم الراتب في الموصل بإذن الخليفة لهم في ذلك ().
إن التَّتَّار، وإن دفعوا ثمن ما أخذوه، فالأموال التي دفعوها، والمواد التي اشتروها سيستعينون بها، وإنّ كان وإن كان بشكل غير مبُاشر، على حرب المسلمين، وزادوا عليها في الموصل بتكريمهم وتقديم الراتب، أي المساعدات والضيافات فهل هي مكأفاتهم على الفظائع التي ارتكبوها بحقَّ المسلمين؟ وسيرتكبونها لاحقاً بحقَّ من أضافهم في إربل والموصل، وبحقَ ّ الخليفة نفسه، الذي تمَّ كُلٌّ ذلك بإذنه، وحتى كُلّ ذلك، فهو أفضل من تصُّرف سُلطان سلاجقة الرُّوم علاء الدين كيقُياذ، الذي بادر إلى تقديم الطاعة للتَّتار مع سفير خاصّ أرسله عام 630ه/1231م، إلى أقطاي قآان، والتفت بشنُّ الحرب على الأيوبيَّة بدل التحالف معهم، فهاجم خِلاط، واستولى عليها، وعاد الملك الكامل للخُروُج بجيشه من مصر عام 633ه 1236م، وحشد معه كل الملوك الأيُّوبية بجيوشهم، فاستعاد خِلاط وما كاد يعود أدراجه حتىَّ رجع كيْقباذ، فاستولى على الرُّها وحرَّان، ثم عاد الكامل فاستعادها () وفي العام نفسه 633ه/1236م، كان الملك الكامل مقيماً في دينسير، بعد أن استعاد الرُّها وحَراَّان من الرُّومي، وردَّ عليه كتاب بدر الدَّين لؤلؤ صاحب الموصل "يُعرَّفه أن التَّتَار قطعوا دجلة في مائة طلب، كُلّ طلب خمسمائة فارس، ووصلوا سنجار، فرجع السلطان والاشرف، وقطعا الفُرات إلى () دمشق وعلى رسالة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ملاحظات.
- أولاً: هُناك شك في مدى صحَّة رسالة لؤلؤ، فهل فعلاً كان هناك قُوَّة من التَّتار وبهذا الحجم؟! أم أنَّه تهويل للأمور من قبل لؤلؤ خوفاً من وجود قوة الكامل والأيُّوبية بجواره؟ قد يكون هُو ضحَّيتهم المُحتملة؟ وخاصَّة أنّه لم يسجَّل نشاطاً كبيراً للتَّتار بهذا الحجم، ضدَّ أيَّ مكان في تلك المنطقة، وفي ذلك العام بالتحديد.
- ثانياً: حتى لو كان الخبر صحيحاً، فبماذا تفسَّر عودة الكامل والأشرف السريعة نحو الشَّام؟ هل كان خوفاً من التَّتار؟ أم دفعاً وتسويفاً لصدام غير مأمون النتائج؟!
على الأحوال كُلهَّا لن يكون الإنسحاب أسوأ من التناحر والصراع بين الأيُّوبييَّن وسلاجقة الروم، وهما أكبر قوتين إسلاميتين بينما التَّتار يعصفون بالبلاد الإسلامية الشرقية ويحيلونها دماراً مُرعباً، فهل كان ملوك الشَّام لاهين عن الخطر المحدق بهم؟ أم هي نقص المعلومات الاستخباراتية لديهم؟ وهل الخليفة غير قادر حتىَّ على وضع حَدَّ لهذه الصراعات التافهة بينهما، وإن كان الخطر المحدق بهم لم يوحَّدهم فهل يستطيع الخليفة – الذي لا يملك إلا حُرمة اسمه – أن يُوحَدهم ؟ ولو حدث ذلك بمعجزة لكان الأمل الأخير لصدَّ التَّتار عند المعابر المنيعة بين أرمينيا وكردستان والشَّام () وكان أول من احتك عسكرياً – بشكل فعلي – مع التَّتار من بني أيوب هو شهاب الدين غازي فبعد هزيمة التتار لجلال الدين منكبرتي عام 628ه/1231م هاجمت فرقة منهم مَيَّافارقين، فتصَّدى لهم شهاب الدين "وكسرهم وغنم أسلحتهم، ويبدو أنه كان أكثر بني أيوب معرفة بالتتار وبتقدير قوَّتهم الحقيقية، فمع تغلُّبه على فرقة منهم إلا أنّه طلب من السُّلطان الكامل الدعم، لأن التَّتار أصبحوا على حدوده، وربمَّا كان شهاب الدَّين موقناً بأن موجة من الصراع الدامي لا يُمكن لأحد أن يتنبَّأ بنتائجها ستضرب المنطقة، فطلب من الكامل – أيضاً – الإذن لنقل حريمه إلى مصر، وجاء جواب الكامل، جواب من لازال يعيش مرحلة قبلة التَّتَّار، فقد ردَّ عليه : إن أُخِذت مَيَّا فارقين أخذَتِ مصر، وكيف يليق ببني أيوب أن يفسحوا لك بذلك وراءهم خمسون ألف فارس () ، هذا هو حال بني أيُّوب وجوارهم في موُاجهة المرحلة الأولى من هجوم التَّتار على الجزيرة، صراعات محليَّة، وتناحر وتباغض، وطمع كل منهم بما بيد الآخر من البلاد، ولن تكون الأحوال في مواجهة المرحلة الثانية أفضل () وفي أوائل عام 635ه/1238م بلغ الخليفة أن جُمُوع التَّتُار نحو بغداد فسيَّر رسوله إلى الملك الكامل ومعه مائة ألف دينار مصرية ليُجنَّد عسكراً من الشام، فأخرج الكامل من بيت المال مائتي ألف دينار لتجنيد العساكر، وأمر أن يسير معهم من عسكر مصر والشام عشرة آلاف فارس نجدة للخليفة، وأن تعادله أمواله وكان الخليفة قد طلب أن يقود الحملة الملك الناصر داود بن الملك المعُظَّم، وقرَّر الكامل معه الأميران ركن الدَّين الهيجاوي وعماد الدَّين بن مسوك () ، وفسّر الدكتور منذر الحايك طلب الخليفة بتجنيد عساكر من الشُّام، بأن التَّتار اكتسحوا شمال وشرق العراق، وهي المناطق الأهلة بالسُّكان، وبقبائل الأكراد والتُّركما، الذين هم المجال الطبيعي للتجنيد في العراق وبسبب وفاة الناصر داود فشلت الحملة الشامية ().
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق