99
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية :
المبحث الخامس:النظام الاقتصادي والخدمات الاجتماعية:
ثانياً:سياسة الانفاق في الخدمات الاجتماعية:
2- المساجد :
اهتم نور الدين بالمساجد اهتماماً عظيماً، فقد كان لها دور عظيم عبر التاريخ الإسلامي، فهو أول وأهم أمكنة التعليم على الإطلاق وقد كان المسجد بالإضافة إلى كونه محل عبادة المسلمين يجتمعون فيه خمس مرات في اليوم لأداء الصلوات المفروضة عليهم وظل المسجد قاعدة مهمة للتربية والتعليم ( ) ويروى العماد الأصفهاني أن نور الدين أمر بإحصاء ما في محلات دمشق من مساجد هجرت أو خربت فأناف على مائة مسجد فأمره بعمارة ذلك كله وعين له أوقافاً ( ) . وأصلح أحوال المسجد الأموي وأضاف إلى أوقافه المعلومة الأوقاف التي لا تعرف شروط واقفيها وسمّاها مال المصالح ( ) وأما أشهر المساجد التي بناها فهو المسجد النوري بالموصل الذي يذكره ابن الأثير بقوله : فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والاتقان ( ) وبنى جامعاً في حماه على نهر العاصي وصفه ابن الأثير بأنه من أحسن الجوامع وأنزهها ( ) ، وأمر بإصلاح الجوامع المساجد في جميع المدن التي تأثرت بالزلازل سنتي (552ه، 566ه) ( ) وأصبحت المساجد في عصره من أهم المراكز العلمية والتي من أهمها :
أ- في حلب :
كانت المساجد من المؤسسات العلمية التي استخدمها نور الدين في الإحياء السني والوقوف أمام المذهب الشيعي ولقد شهدت المساجد في حلب نشاطاً علمياً واسعاً في مجال الدراسات الشرعية اللغوية والأدبية، واستمرت تلك المساجد في نشاطها العلمي رغم انتشار المدارس في هذه المدينة، حيث أشارت المصادر إلى النشاط العلمي في أول جامع أنشيء في حلب وهو :
* المسجد الكبير : وقد ذُكر أن موضع هذا الجامع كان بستاناً للكنيسة العظمى في أيام الرّومان، وهي منسوبة إلى هيلانة أو قسطنطين الملك باني القسطنطينية، ولما فتح المسلمون حلب صالحوا أهلها على موضع المسجد الجامع ( )، وقد ذكر ابن شداد أن هذا الجامع من بناء الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (96 - 99ه/705 -715م) هو الذي قام ببناء هذا المسجد ( ) وفي شعبان سنة 564ه (1169م) في أيام الملك العادل نور الدين محمود قام الإسماعيلية بإحراق هذا الجامع، كما احترقت الأسواق المجاورة له، فقام الملك نور الدين وأمر ببنائه واجتهد في عمارته، ونقل إليه عُمداً من بُعادين، وقنسرين لأن العمد التي كانت فيه قد تفطرت من النار، وقام بإضافة سوق قبلي الجامع إليه، واتسع به المسجد، وأوقف نور الدين عليه أوقافاً كثيرة ويقع هذا الجامع حالياً في سويقة حاتم أشهر حارات حلب وأقدمها ويبعد الجامع عن قلعة حلب الكبرى مسافة نصف ميل تقريباً من جهة الغرب، وبناؤه الحالي يرجع للعهد المملوكي باستثناء منارته التي يرجع تاريخها إلى سنة 482ه 1089م ( ) . أما النشاط العلمي في هذا الجامع فقد أشارت المصادر إلى وجود حِلق عديدة يجتمع حولها المشتغلون بالعلم أشهرها : السارية الخضراء التي كانت مخصّصة للدراسات الأدبية، كما كانت حِلق الأدب واللغّة والنحو تُعقد باستمرار في هذا الجامع إلى جانب قراءة القرآن الكريم والفقه ( ) وقد أنشأ نورالدين في هذا الجامع مع زاويتان إحداهما لتدريس الفقه على المذهب المالكي، والأخرى لتدريس الفقه الحنبلي. وقد كان لهاتين الزاويتين نشاط علمي ملموس خلال فترة البحث وبخاصة في عصر مؤسسهما وبالإضافة إلى تدريس الفقه في هذا الجامع، فقد حظي علم الحديث باهتمام الملك نور الدين محمود توجيهاً منه لسياسة التعليم في عصره نحو الدراسات الشرعية ليدعم بها المذهب السني في حلب فأنشأ زاوية لتدريس علم الحديث في هذا الجامع، وأوقف عليها الأوقاف الكافية للصرف عليها وعلى المشتغلين بها ( ).
ب- المساجد في دمشق :
قامت العديد من المساجد في دمشق بدور في نشاط الحياة العلمية في هذا زغم التوسع الكبير في إنشاء المدارس وإزدياد نشاطها في تلك الفترة، وكان من أبرز تلك المساجد ما يلي :
* الجامع الأموي : يُعد الجامع الأموي بدمشق من المساجد المتميزة بحسن عمارتها، أراد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك(86-96ه/705 – 715م) عندما عزم على بنائه أن يجعل منه مفخرة من مفاخر دمشق، فأنفق فيه الأموال، وجلب إليه المهرة من الصُنّاع وأهل الفن البارعين، وبقي العمل فيه تسع سنين، أنفق عليه أربع مئة صندوق، في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وبذلك أصبح مفخرة من مفاخر العمارة الإسلامية على مّر العصور ( ) . وقد حظي هذا الجامع باهتمام بالغ ورعاية كبيرة من الخلفاء والملوك والحكام على مّر العصور الإسلامية وذلك فيما يتعلق بمتابعة تعميره، وتحسينه، أوصيانته وزيادة الوقف عليه، وفيما يتعلق بتشجيع حِلق التعليم التي كانت تعُد في جنباته،والصرف عليها ( )، وقد ظل الجامع منُذ بنائه مناراً للعلم والمعرفة، ومدرسة جامعة لعلماء دمشق وطلابها فيه تُلقى الدروس العلمية من كل فن، وإليه يِفد طلاب العلم من كل صوب للنهل من معين الثقافة وللاجتماع بالعلماء الذين وقفوا أنفسهم في هذا المسجد على نشر المعارف وتدريس العلوم، واستمر هذا الجامع في العهد الزنكي قبلة للعلماء والدارسين، ومركزاً علمياً بارزاً، فيه تعقد حِلق التعليم الخاصة والعامة، وفي جنباته تنشر زوايا تدريس القرآن وإملاء الحديث، وفيه صُنفّت وأمليت العديد من المؤلفات المُهمّة مثل تاريخ دمشق للحافظ بن عساكر وغيره، كما تواتر في المصادر ذكر الزواية الغزاليّة، ومجلس ابن عساكر، وزاوية المقادسة والزاوية الكوثرية،والسبُّع المجاهدي، وغيرها من منابر العلم في هذا المسجد والتي كان لها نشاط علمي مميز خلال هذا العهد، وكان النشاط العلمي في الجامع الأموي قد تركز على تدريس القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والفقه، كما عُقدت في هذا الجامع العديد من مجالس الإملاء والسماع اجتمع إليها عدد من العلماء وطلاب العلم حتى أصبح هذا الجامع من أبرز مواطن الثقافة في دمشق تناوب فيه جلّة من أعلام العلماء الذين لا تزال أسماؤهم لامعة في ميادين العلوم الشرعية، ولا تزال آثارهم ومؤلفاتهم باقية حتى اليوم ويصور أحد الشعراء المعاصرين للملك نور الدين محمود، وهو علي بن منصور السُروجي المتوفي سنة 572ه (1176م) نشاط التعليم في هذا الجامع في قصيدة وصف بها النشاط العلمي الذي شهدته دمشق في العهد الزنكي فيقول :
كأنها جنة للخُلد دانية
??قُصُورها فتحت منها المقاصير
في كل قطر بها للعلم مدرسة
??وجامع جامع للدين معمور
يُتلى القرآن به في كل ناحية
??والعلم يذكر فيه والتفاسير
تكامل الحسنُ فيه مثل ما كُملت
??أوصاف مولى بنشر العدل مشهور
الملك والدّيْنُ والدّنيْا بأجمعها
??وللخليفة من أنواره سُورُ ( )
وكان من أشهر مرافق التعليم في هذا الجامع :
الزاوية الغزالية :
تقع في الجهة الشمالية الغربية من الجامع الأموي، كانت تُنسب إلى الشيخ المقدسي المتوفي سنة 490ه (1097م) ثم نسبت إلى الشيخ أبي حامد الغزالي المتوفي سنة 505ه (1112م) ( ) لكونه دخل دمشق، وقصد الخانِقاه السِميساطيّة ليخل إليها فمنعه الصُوفيَّة من ذلك لعدم معرفتهم به فعدل عنها وأقام بهذه الزاوية بالجامع إلى أن عُلِم مكانه، وعُرِفت منزلته؛ فحضر الصوفية بأسرهم إليه واعتذروا له، وأدخلوه إلى الخانقاه، فعرفت تلك الزاوية به ( ) وقد درّس مجموعة من العلماء في هذه الزاوية بعد الشيخ نصر المقدسي منهم : تلميذه عالم الشام أبو الفتح نصر الله المصيصي المتوفي سنة 542ه 1147م والشيخ أبو النصر محمد بن علي الطوسي المتوفي سنة 561ه/1166م ( )، وخطيب دمشق أبو البركات الخضر بن شبل الحارثي المعروف باب عبد المتوفي سنة 562ه/1167م والصائن أبو الحسين هبة الله بن الحسن بن عساكر المتوفي سنة 563ه/1168م، وأبو الفضائل عبد الرحيم بن رُستم الزنجاني المتوفي سنة 563ه،1168م ( ) ، ثم درّس بها مرتين العلامة قطب الدين النيسابُوري المتوفي سنة 578ه/1182م ( ) . تدريس جميع هؤلاء العلماء الأعلام في الفقه الشافعي في هذه الزاوية يؤكد الأثر الكبير والنشاط العلمي المتواصل في هذا الجامع رغم إنتشار المدارس في دمشق في هذا العهد، وربما أن هذا النشاط يفوق نشاط الكثير من مدارس دمشق في تلك الفترة سيماً وأن هذه الزاوية تناوب عليها جُلة من أقطاب الفقه الشافعي في بلاد الشام في ذلك العصر ( ) .
* السُبُع المجاهدي :
يقصد بالسبع، قراءة سبع من القرآن ثم أطلق على المكان الذي كان يقرأ السبع فيه ويقع هذا السبع على ما ذكر النعيمي داخل الجامع بمقصورة الَخِضر داخل باب الزيادة، ويُنسب للأمير مجاهد الدين أبو الفوارس بُزان بن يامِين أحد مقدمي الجيش بالشام في دولة نور الدين محمود، موصوف بالشجاعة والبسالة مواظب على الصلاة والصدقات توفي في داره بدمشق في صفر 555ه - 1160م ودفن بالمدرسة المشهورة باسمه ( ).
* الحلقة الكوثرية :
تقع هذه الحلقة تجاه شباك الكلاّسة تحق مئذنة العروس بالجامع الأموي ( ) ، وقفها الملك نور الدين محمود على صبيان صغار وأيتام يقرأون في كل يوم بعد صلاة العصر " سورة الإخلاص" ثلاث مرات يهدون ثوابها للواقف ولهم على ذلك مُرتّب يتاولونه من ديوان السُبع الكبير ( ). وقد ذكر النعيمي أن عدد طلاب هذه الحلقة في عصر واقفها يصل إلى ثلاث مئة وأربعة وخمسين طالباً ( )0
* حلقة لإقراء القرآن الكريم تحت قبّة النسر :
ورد في ترجمة المقرئ الحنبلي أبو العباس أحمد بن الحسين العراقي المتوفي سنة 588ه 1192م أنه قدم دمشق سنة 540ه/1145م فنزل بها وكان يقعد لإقراء القرآن في الجامع الأموي تحت قبة النسر ( ) .
* مجلس الحافظ ابن عساكر :
ذكر ياقوت الحموي أن الحافظ أبا القاسم علي بن الحسن بن عساكر أكمل أربع مئة مجلس وثمانية مجالس في فن واحد ( )، وكان الجامع الكبير بدمشق ميدان هذه الأمالي وبخاصة قبل إنشاء دار الحديث النورية بدمشق، والتي أملى كثيراً من مجالسه فيها ( ) ، كما كانت تُعقد بالمنارة الشرقية من هذا الجامع مجالس السماع مصنّفة الكبير " تاريخ دمشق " وقد حفظت لنا العديد من هذه السماعات ونُشرت في المجلدة الأولى من الكتاب، وفيها ذكر لتاريخ السماع، وعدد سطور السماع، وعدد السامعين وهي الأمور التي لابد من ذكرها عنـد تمـام السماع ( ) .
* جامع القلعة :
هذا الجامع أنشأه الملك العادل نور الدين محمود في قلعة دمشق، وأوقف عليه الأوقاف الكافية للصرف على المسجد وإمامه ومؤذنه ( ) ، وقد ذكر ابن شداد ضمن مدارس الحنفية مدرسة بجامع القلعة واقفها الشهيد نور الدين محمود، كما ذكرها النعيمي باسم : المدرسة النورية الحنفية الصغرى، بجامع قلعة دمشق ( ).
ج- في الموصل، جامع نور الدين محمود :
كان من ضمن أعمال نور الدين، أمره ببناء جامع يستوعب عدداً أكبر من المصلين وكان قد فّوض أمر بناء هذا الجامع للمصليين وكان قد فّوض أمر بناء هذا الجامع للشيخ عمر الملا، وقد باشر الشيخ عمر بناء الجامع سنة 566ه/1171م واستمر العمل فيه نحو ثلاث سنوات ( ) ، وكان نور الدين قد أنفق في بناء هذا الجامع أموالاً كثيرة، وأوقف عليه ضيعة من ضياع الموصل، وكان قد قدم الموصل سنة 568ه/1173م وصلى في جامعة بعد أن فرشه بالبسط والحصران، وعيّن له مؤذنين وخطيباً ورتب ما يلزمه ( ) وقد بلغ هذا الجامع درجة عالية من روعة البناء وحسن التخطيط قال عنه ابن الأثير : فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والإتقان ( )، وحينما اكتمل بناء هذا الجامع رأى نور الدين أن من الأفضل، أن يجمع فيه بين الصلاة وطلب العلم، فأمر ببناء مدرسة بداخله، ووافق أن وصل الموصل في تلك السنة الفقيه عماد الدين أبو بكر النوقاني الشافعي تلميذ محمد بن يحي تلميذ الإمام الغزالي، ففوّض إليه أمر التدريس في هذا المدرسة، وكتب له منشوراً بذلك ( ) . هذا على سبيل المثال لا الحصر في اهتمام نور الدين بالمساجد وتفعيل دورها العلمي والتربوي، فكان لها آثار ملموسة في الإزدهار العلمي وتطوره في العهد الزنكي، رغم وجود المدارس وانتشارها بشكل واسع في ذلك العهد ( ) . وتبقى ملحوظة مهمة هي : أنه لا يكاد يخلو مسجد من هذه المساجد من مكتبه ضخمة تضم عدداً كبيراً من الكتب في مختلف العلوم، والتخصصات وكانت تلك المكتبات تُوقفت خصيصاً على المساجد ليرجع إليها الطلاب والباحثون، مثل مكتبة الشَرقَيّة لجامع حلب، وهي مكتبة عامرة، مسبلة للمطالعة، وتشتمل على الكثير من الكتب في مختلف فروع المعرفة ( ). وهكذا كانت المساجد من مؤسسات المهمة في المجتمع الإسلامي وهي بمثابة المعاهد العلمية المُشعّة التي نهضت بمختلف العلوم في هذا العهد أسوة بالعهود الإسلامية السابقة وخّرجت العديد من العلماء الأفذاذ الذين أسهموا في تقديم العلم وازدهاره، وكانت تلك المساجد تتميز بتكافؤ الفرص بين الطلاب دون تمييز لغني منهم على فقير، فزاد : إقبال طلبة العلم عليها، ولم يقف الفقر حائلاًُ أمام طلب العلم فيها، بل على العكس، فقد وجدت الكثير من الأوقاف التي قُررت لمن يرتاد هذه المساجد معلّما أو متعلماً حتى يتفرغوا لطلب العلم دون أن يشغلهم طلب العيش عن ذلك.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق