97
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية :
المبحث الخامس:النظام الاقتصادي والخدمات الاجتماعية:
أولاً :مصادر دخل دولة نور الدين وسياسته الاقتصادية:
وهذا يؤكد ما قال الدكتور عماد الدين خليل : بأن إجراءاته الضرائبية جاءت تعزيزاً لسياسته الدائبة من أجل تحقيق العدل الاجتماعي وكان ينتهز الفرص المناسبة كفتح من الفتوح، أو انتصار من الانتصارات، أو حادث من الأحداث أو كلمة ذكرى تهز الفكر وتستجيش عواطف التجرّد والعطاء ( ) .
أ- في دمشق عام 549ه : عندما دخل دمشق عام 549ه أصدر منشوراً بإسقاط المكوس والضمانات والضرائب والغرامات المفروضة على عدد من البضائع والأسواق : دور البطيح، سوق الخيل، سوق البقل، ضمان الأنهار ( )، سوق الغنم، الكيالة .. وغيرها وقريء المنشور على المنبر : فاستبشر الناس بصلاح الحال وأعلن الناس ... والفلاحين والحرم والمتعيشين برفع الدعاء إل الله سبحانه بدوام أيامه.
ب- في عام 552ه عندما دخل شيزر أصدر منشوره الشهير بإلغاء حشد كبير من المظالم والمكوس شمل معظم أنحاء دولته وجاوز المائة والخمسين ألف دينار وقد جاء فيه : .. هذا ما تقرب به إلى الله تعالى صافحاً، وأطلقه مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعاية – رعاهم الله – لضعفهم عن عمارة ما أخربته أيدي الكفار .. أبادهم الله تعالى ...إلخ ثم يعرض من المنشور بعد هذه المقدمة قائمة بالمواقع التي شملها الإلغاء والمبالغ التي أعفيت من دفعها ( ) .
ج- في الموصل عام 566ه : عندما دخل الموصل عام 566 ه لم يشأ إلا أن يسقط عن أهليها ما كانوا يرزحون تحته من الغرامات والضرائب والمكوس، وشمل ذلك أيضاً عدداً من المدن الجزرية كالخابور ونصيبين وغيرهما، وأصدر بذلك منشورات من إنشاء العماد الأصفهاني لكي يقرأ على الناس جاء فيه : وقد قنعنا من كنز الأموال باليسير من الحلال فسحقاً للسحت، وحقاً للحرام الحقيق بالمقت .. وتقدمنا بإسقاط كل مكسن وضريبة في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة وإزالة كل جهة مشتبهة، ومحو كل سنة سيئة شنيعة وإحياء كل سنة حسنة، وانتهاز كل فرصة في الخير ممكنة، وإطلاق كل ما جرت العادة بأخذه من الأموال المحظورة خوفاً من عواقبها الرديئة المحذورة فلا يبقى في جميع ولايتنا جور جائر جارياً ..وهذا حق الله قضيناه وواجب علينا
أديناه ( ).
د- في مصر عام 566ه : فقد رفع صلاح الدين في مصر في عام 566ه : جميع المكوس صادرها وواردها جليلها وحقيرها ( ) ويبين ابن الأثير كيف أن المكس في مصر كان يؤخذ من كل مائة دينار خمسة وأربعون دينار : فأطلقها نور الدين، وهذا لم تتسع له نفس غيره ( ) ويؤكد ابن العديم أن عام 567ه شهد حملة شاملة أخرى من حملات نور الدين لإسقاط المظالم والمكوس ( ) .
س- وفي عام 569ه السنة التي توفي فيها نور الدين قام بحملة تطهير أخرى للضرائب فأسقط ما أطلق عليه " فريضة الأتبان " في بلاد الشام، وأصدر بذلك منشوراً من إنشاء العماد الأصفهاني. وقد أطلع أبو شامة على نسخة المنشور وعلامته بخط نور الدين "الحمد لله"، ومما جاء فيه : وبعد : فإن من سنتنا العادلة وعوائد دولتنا القاهرة، إشاعة المعروف، وإغاثة الملهوف، وإنصاف المظلوم، وإعفاء رسم ما سنه الظالمون من جائرات الرسوم وما نزال نجدّد للرعية رسماً من الإحسان يرتعون في رياضة، ونستقرئ أعمال بلادنا المحروسة ونصفّها من الشبهة والشوائب، ونلحق ما يعثر عليه من بواقي رسومها الضائرة بما أسقطناه من المكوس والضرائب تقرباً إلى الله ( ) تعالى ويلخص العماد الأصفهاني الوضع الضرائبي في السنة التي توفي فيها نور الدين بأنه لم يبق حينذاك من الضرائب سوى الجزية والخراج.. وما يحصل من قسمة الغلات على قوائم المنهاج ( ) وقد مّر الحديث عن إلغاء المكوس مفصلاً عند حديثنا عن العدل في دول نور الدين محمود إن نور الدين محمود في سياسته الاجتماعية والمالية يظهر حرصه العجيب على الأموال العامة وأموال الأمة التي هي حصيلة كّدها ودمعها وعرقها، سواء كان هذا المال ملكية خاصة في أيدي الناس أم عامة في أيدي الدولة .
و- حمايته للرعية من جشع التجار : كان رحمه الله حريصاً على حماية الرعية من أي مظالم قد تقع عليهم ويوماً حضر إليه جماعة من التجار وشكوا إليه أن القراطيس (أجزاء الدينار) كان كل ستين منها بدينار فصار سبعة وستون دينار، وأنها تتعرض باستمرار للزيادة والنقصان مما يلحق بهم الكثير من الخسائر وأشاروا عليه أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير بدلاً من القراطيس فسكت وقتاً طويلاً ثم قال : إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني خربت بيوت الرعية، فإن كل واحد منهم عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس، إيش يعمل بها، فيكون ذلك سبباً لخراب بيته ورفض من ثم – الاستجابة لمطالب التجار ( ).
ز- الأموال التي خلفها أمير شيزر : وعندما دخل شيزر عام 552ه بعد أن خربتها الزلازل – لم يكن لينسى أن هنالك مالاً كثيراً خلفه أميرها السابق وأن عليه المطالبة به والبحث عنه لأنه أصبح جزءاً من أموال الأمة، ويذكر ابن العديم كيف أنه سأل زوجة الأمير عن هذا المال وهددها وكيف أنها ذكرت له أن الدار سقطت عليها وعليهم وأخرجت هي حية من دونهم وأنها لا تعلم شيء، وإن كان ثمة شيء فهو تحت الأنقاض ( )، ولا ندري إن كان المال قد عثر عليه أم لا ؟ ولكن الأهم من هذا هو دلالة الموقف نفسه ( ).
ح- خراج معرة النعمان : ويحدثنا أبو طاهر الحمدي الفقيه : كنت عند نور الدين في دار العدل بدمشق وقد أخرج جريدة (سجلّ) خراج الأملاك فجعل ينظر فيها، فلما انتهى إلى أهلها فقال رفع إليّ الخبر من الثقاة أن جميع أهل المعرة يتقارضون الشهادة فيشهد أحدهم لصاحبه في دعوى ملك ويشهد له هذا في دعوى أخرى ، وإن الملك الذي بأيديهم إنما حصل لهم بهذا الطريق، وكانت معرة النعمان قد سقطت بأيدي الصليبيين حيناً من الدهر ثم استعادها المسلمون مما سبب ضياع المستندات الخاصة بالملكية، فقلت له : أيها الملك إن الله أوجب عليك العدل في رعيتك فانظر واكشف وتوقف في الأمور إذا رفعت إليك، فإن أهل المعرة خلق كثير، كيف تستمدّ تواطؤهم على شهادة الزور وانتزاع الأملاك من أربابها بمجرد هذا القول ؟ لا يجوز !! فأطرق نور الدين وقتاً طويلاً ثم قال : إني أمسكها عليهم ثم أكشف عنها بعد ذلك والتفت إلى كاتبه قائلاً : أكتب إلى الوالي بالمعرة ليمسك جميع الملك ريثما يستجمع البينات في ذلك ( ).
ط- اختيار أصحاب الأمانة في الإشراف على المشاريع : عندما قرر نور الدين بناء الجامع الكبير في الموصل عام 566ه وليكون مسجداً جامعاً للمصليين ومدرسة كبيرة للدارسين، لم يتسرع في اختيار الرجل الذي سيتولى أمر الإشراف على بنائه، لاسيما وأنه عائد إلى حلب، والموصل بعيدة عن رقابته المباشرة وإنما بحث عن المشرف الأمين الذي يطمئن إليه فكان عمر الملأ الرجل الصالح الكادح كما يصفه المؤرخون، ويحدثنا العماد الأصفهاني شاهد العيان عن الرجل فيقول : إنما سمي بذلك لأنه كان يملأ تنانير الجص بأجرة يتقوى بها وكان يهب كل ما يصل إليه ولا يستبقى لنفسه شيئاً وكان العلماء والفقهاء والأمراء يزورونه في زاويته، ويتبركون بهمته، وكان نور الدين من أخصّ محبيه، ويستشيره في حضوره ويكاتبه في مصالح دولته ( ). هذا وقد أنفقت على الجامع الكبير أموال كثيرة واشترى عمر الملاء الأملاك المحيطة به من أصحابها بأوفر الأثمان، وعندما تم إنشاؤه وحضر نور الدين لافتتاحه عام 568ه تقدم إليه عمر الملاء بدفاتر الحسابات التي تضمنت تفاصيل الصرف بدقة بالغة، رفض نور الدين تدقيقها لثقته العميقة بنزاهة الرجل .. عرف كيف ينتقيه لهذه المهمة أول مرة فاستراح إلى النتيجة ( ) .
المحاسبة الدقيقة لعمال الزكاة :
وحكى معين الدين محمد حفيد القيسراني وزير نور الدين الشهيد قال : انكسر ضامن دار الزكاة المعروف بابن شمام مال جمّ، فحبس، فباع ما كان يملكه من عقار بما قيمته ثمانية آلاف دينار وحمله إلى الخزانة، ولكنه بقي في الحبس مطالباً بما بقي في ذمته ( ).
هذه الخطوط العريضة في مصدار دخل دولة نور الدين وسياسته الاقتصادية الرشيدة، من نظام القطاع الحربي، والزكاة والخراج والجزية والغنائم وفداء الأسرى، والأموال العظيمة التي خلفها أبوه عماد الدين، والأمانة التي تميز بها وحكومته الرشيدة، وأهمية سيادة الأمن والاستقرار الداخلي في انتعاش الحركة الاقتصادية، ومساهمة الأثرياء، والمعاهدات والاتفاقات التي يترتب عليها امتيازات مالية، ودعم الخليفة العباسي للدولة الزنكية، وسياسة نور الدين الزراعيةوالصناعية والتجارية وغير ذلك من سياسته الاقتصادية الحكيمة التي ساهمت في دعم دولة الجهاد وتحقيق أهدافها.
إن من أسباب النهوض التي أخذ بها نور الدين الاهتمام بالجانب الاقتصادي، لأن القوة الاقتصادية هي عصب الحياة الدنيا وقوامها، والضعيف فيها يقهر ولا يحسب له حساب إلا في ظل شرع الله حين يحكم، ولذلك ينبغي على القادة المهتمين بأمر نهوض الأمة أن يعتمدوا على الذات في موارد ثابته، وهذا عامل مهم من عوامل النهوض.
إن حاجات مشروع نهوض الأمة متعددة تحتاج إلى أموال طائلة لتغطيتها، والمطلوب من الحركات الإسلامية والحكومات كذلك أن من رجالها من التجار المسلمين من تظهر على سلوكه أخلاق الإسلام في التعاملات التجارية، وتزوده بالخبرات الميدانية بحيث يقتحم مع إخوانه مجالات التجارة الدولية والأسواق العالمية ويعمل على توحيد جهود التجار المسلمين، لإيجاد شبكات للتعاون المثمر لمقارعة الشركات اليهودية والشيوعية والنصرانية وبذل ما في وسعهم من أجل هيمنة الاقتصاد الإسلامي على الأسواق العالمية – وتوظيفه لخدمة المشروع الإسلامي. من تحرير شعوب المسلمين من سيطرة الفكر الرأسمالي الدخيل والشيوعي ( ).
إن التاجر المسلم – في المفهوم الإسلامي الأصيل – من صناع الحياة، بل هم صناع الصناع، يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد في هذا الصدد : وعلى خطة الدعوة أن تتوب توبة نصوحة من إسرافها القديم في تعليم الدعاة كراهة المال وحب الوظائف الحكومية ( ). وطلب في كتابه (صناعة الحياة) من الدعاة أن يهتموا بجمع المال ولينزل منهم نفر إلى السوق، لأن في ذلك مردود دعوي وذكر اليهود الذين استحوذوا على الأموال والأسواق ونحن لا نجيد إلا سبهم ونضجر من المارون والأقباط والبهرة والقاديانية والمبتدعة والأقليات إذ كان منهم السبق إلى المال، بتسهيل الدوائر الاستعمارية لهم ذلك في فترة الاستعمار جزماً، وبمساعدة قوى خفية أخرى، ولكننا لم نحسن غير سبَّهم وشتمهم. إلى أن
قال : .. ولابد أن تهتم الحركات الإسلامية بميدان الصناعة والزراعة والعقار والاستيراد والتصدير وبخاصة في البلاد الحرة التي لا ينال أموالنا فيها ظلم، وفي العالم الكبير الفسيح متسع للاستثمار ( ).
إن نور الدين محمود اهتم بالقوة الاقتصادية وجعلها في خدمة الأمة والدعوة وسياسة الدولة وقادة الفكر، ودّعم بها مشروعه النهضوي.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق