إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 1 يوليو 2014

8 دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي الفصل الأول السلاجقة ، أصولهم وسلاطينهم المبحث الثاني:علاقة السلاجقة بالخلافة ودخول العراق والقضاء على الدعوة الشيعية 3-فتنة البساسيري في العراق:450ه :


8

دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي

الفصل الأول

السلاجقة ، أصولهم وسلاطينهم

المبحث الثاني:علاقة السلاجقة بالخلافة ودخول العراق والقضاء على الدعوة الشيعية

3-فتنة البساسيري في العراق:450ه :

 كان البساسير من القواد المقربين من الخليفة العباسي إلا أن الدعوة الفاطمية تغلغلت بين الناس وأثرت في بعض الأعيان والقواد وممن تأثر بهذه الدعوة قائد قواد الجند التركي أبو الحارث إرسلان البساسيري بدعوة هبة الله الشيرازي وأصبح يكاتب الفاطميين ويعمل على قلب نظام الحكم في بغداد لصالح الدولة الفاطمية وتدهورت العلاقات بين الخلافة والبساسيري حين علم البساسيري بالاتصالات السرية التي كانت تجري بين الخليفة القائم بأمر الله والسلاجقة وبخاصة مكاتبة الخليفة لهم بالمسير إلى العراق، فترك البساسيري بغداد وسار إلى واسط، فانتهز الوزير رئيس الرؤساء الفرصة وأخذ يوغر صدر الخليفة القائم بأمر الله من ناحية البساسيري وأخبره بأن البساسيري يكاتب أعداء الخلافة ويعمل على خلعه من الخلافة وفي الوقت نفسه حرض الأتراك والعامة على الاعتداء على أملاك البساسيري في بغداد بعدما ظهرت ميوله الشيعية وظهرت نواياه السيئة للخلافة العباسية وأهل السنة فقاموا بنهب داره والاستيلاء على ممتلكاته سنة 447ه، وفضلاً عن ذلك، أخذ رئيس الرؤساء يؤلب الأترك البغداديين على قائدهم البساسيري واتهامه بأنه المتسبب في نقص رواتبهم وسوء أحوالهم فسار جماعة منهم إلى الخليفة القائم بأمر الله واستأذنوه في نهب دور البساسيري فأذن لهم في ذلك  ، فلما تأكد من صحة ما نسب إليه أذن لهم في ذلك خاصة بعد أن قدم إليه طائفة من الأتراك من أصحاب البساسيري بواسط وأخبروه بما عزم من نهب دار الخلافة  والقبض على الخليفة إن فتنة البساسيري تعطيناً درساً بليغاً في أهمية الاعتناء بالقادة العسكريين والوزراء السياسيين وأهل الفكر والرأي العام وتربيتهم على هدي القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفقه الخلافة الراشدة حتى لا يقعوا ضحايا للدعوات المنحرفة والمناهج الضالة والعقائد الفاسدة.

أ‌-التواصل بين البساسيري والمؤيد هبة الله الشيرازي :

اتخذ البساسيري من الرحبة مركزاً للاتصالات مع الفاطميين، ذلك أن المؤيد في الدين كان يتابع أحداث العراق، وبخاصة أنه وقف على المكاتبات التي تبودلت بين الخليفة القائم بأمر الله والسلطان السلجوقي وأدرك مدى خطورتها على الخلافة الفاطمية، فعول على الاستفادة من الموقف المتدهور بين الخلافة والبساسيري وأصحابه، فأنفذ إليهم كتباً تضمنت تأييد الخليفة الفاطمي وحكومته لهم واستعدادهم لمدهم بالسلاح والمال، فوصلت إليهم هذه الكتب قبيل رحيلهم إلى واسط، فزادت من ثقتهم بأنفسهم وقويت شوكتهم ورد البساسيري على مكاتبات الفاطميين برسالة بعث بها إلى المؤيد في الدين شكره فيها على اهتمامه بحركتهم وتأييدهم له ولاتباعه والتمس منه الإمداد السريع بالمال والخيل والسلاح لإظهار الدعوة الفاطمية ببلاد العراق : فإن أخذتم بأيدينا، أخذنا لكم البلاد وأن قلدتمونا نجاد نصركم وإنجادكم فتحنا من جهتكم الأغوار والأنجاد  ، وأظهر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي اهتماماً كبيراً برسالة البساسيري وعمل على تدبير الإمدادات اللازمة لإنجاح حركته على الرغم مما كانت تعانيه مصر من غلاء وأزمة اقتصادية  ، فلما أتم إعداد الأموال والخلع والسلاح، عهد إلى المؤيد في الدين بحملها إلى البساسيري ، فسار على رأس عدد من الرجال ومعهم خمسمائة ألف دينار ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك وخمسمائة فرس وعشرة آلاف قوس ومن الرماح والنشاب شيء كبير .

ب‌-الجهود التي بذلها المؤيد هبة الله الشيرازي لدعم فتنة البساسيري :

لما وصل المؤيد في الدين إلى دمشق وهو في طريقة إلى الرحبة، رأي أن يستعين بمثال بن صالح

بن مرداس – صاحب حلب – لإمداده بالرجال ولتأمين وصول الإمدادات الفاطمية إلى البساسيري، وأصحابه فكتب إليه بالمهمة التي عهد إليه بها، ثم ما لبث أن التقى المؤيد بمثال ابن صالح في الروستان  .

فسلم المؤيد في الدين الأحمال إلى الأمير ثمال ليكون في حمايته  ، ثم سار إلى معرة النعمان حيث وفد إليهما فريق من أصحاب البساسيري لأصطحابهم إلى الرحبة وخلال ذلك تلقى المؤيد في الدين خطاباً من نصر الدولة بن مروان – صاحب ديار بكر وميافارقين يعلن فيه خلع طاعة السلاجقة والدخول في طاعة الفاطميين معتذراً عن إقامة الخطبة للسلاجقة على منابر بلاده خوفاً من بطشهم  وسار المؤيد هبة الله الشيرازي بصحبته الأمير ثمال بن مرداس على رأس جنده قاصداً الرحبة، فلما اقترب منها خرج لاستقباله البساسيري على رأس جيشه فالتقى بهم على بعد مرحلتين من المدينة وأظهر أسمى آيات الشكر والترحيب بمبعوث الخليفة الفاطمي، وقام المؤيد من جانبه بتوزيع الخلع الفاطمية على البساسيري وأصحابه ومنحهم الأموال وأخذ البيعة منهم بالطاعة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي  ثم قام المؤيد وتقدم إلى أبي الحارث البساسيري وخلع عليه الخلعة الخاصة التي أرسلها الخليفة الفاطمي إليه وقرأ عهده  ،ولم يكتف المؤيد هبة الله الشيرازي بما حققته الدعوة الفاطمية من انتصارات كبيرة في بلاد العراق تجلت في انضمام كل من البساسيري ونصر الدولة بن مروان، وعدد كبير من القادة والجند والديلم والأتراك، بل أخذ في العمل على جذب أمراء العراق إلى دعوته، فكتب إلى دبيس بن مزيد- أمير الحلة – يطلب منه اللقاء في الرعية، فلما التقى به هناك، استطاع أن يستميله للدعوة الفاطمية، وطلب منه الانضمام إلى البساسيري في مسيرة إلى العراق، وذلك بعد أن قلده رئاسة غرب العراق وجعل له حكم ما يفتحه من البلاد بعهد من الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ولقبه " الأمير سلطان ملوك العرب، سيف الخلافة، صفي أمير المؤمنين  .

كان لنجاح المؤيد في الدين ضم أمراء الأطراف إلى جانب القائد التركي أبي الحارث البساسيري أثر كبير في انتصاره على قوات السلاجقة ومن انظم إليهم من أصحاب قريش بن بدران – صاحب الموصل – في موقعه سنجار سنة 448ه  ، والتي كان من نتائجها انحياز قريش بن بدران إلى جانب البساسيري وإقامة الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي على منابر الموصل، كم انضم محمود بن الأخرم – أمير خفاجة – إلى الدعوة الفاطمية وأقام الخطبة على منابر الكوفة للخليفة الفاطمي  ، أما أمير واسط علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان فقد خلع طاعة الخليفة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر بالله الفاطمي، وأمر أن تصبغ مساجد واسط للون الأبيض – شعار الفاطميين  ، وفضلاً عن ذلك ضرب النفوذ باسم الخليفة الفاطمي في واسط، مما ترتب عليه إصدار الخليفة القائم بأمر الله محضراً آخراً بالطعن في نسب الفاطميين سنة 448ه ، محاولاً بذلك التصدي للدعوة الفاطمية وعلى الرغم من الانتصارات التي حققتها الدعوة الفاطمية في مدن العراق فإن جهود عميد الملك الكندري – وزير السلاجقة في العمل على تفريق شمل أمراء العرب، أدت إلى اختلاف كلمة هؤلاء الأمراء وعدولهم عن معاونة البساسيري ، بل واضطر البساسيري واتباعه إلى العودة إلى الرحبة، ثم ما لبث أن سار نحو حلب حيث التقى بالمؤيد في بالس – على مقربة من حلب  ، وعهد المؤيد هبة الله الشيرازي إلى البساسيري وقريش بن بدران بمواصلة نشر النفوذ الفاطمي في بلاد العراق، فطلب إليهما العودة إلى الرحبة على أن يتجه قريش إلى الموصل لاستعادتها بعد أن علم بخروج إبراهيم ينال عنها، ثم سار إلى مصر حتى يتسنى له إرسال الإمدادات إليهما  ، فقام البساسيري وقريش بن بدران بالمسير إلى الموصل، وتمكنا من دخولهما والاستيلاء عليها سنة 450ه  ، ولما علم السلطان طغرل بك بانتزاع الموصل منه سار إليها بصحبة أخيه إبراهيم ينال، فلما اقتربا منها فارقها كل من البساسيري وقريش بن بدران، غير أنه سار في أثرهما فاتحه إلى نصيبين ليتتبع أثارهم ويخرجهم من البلاد الذين يستولون عليها، وبينما هو في طريقه انصرف عنه أخوه ينال وسار إلى همذان بعد أن استولى على أموال أخيه فوصلها في أواخر رمضان سنة 450ه مما اضطر طغرل بك إلى تتبع أثره للقضاء على فتنته فتم له ذلك في جمادى الآخرة من العام نفسه   ومن الدروس في هذا المجال أن من يخون ثم يعفى عنه علينا أن نجرده من مصادر القوة ومراكز القيادة لإمكانية الغدر من جديد وهذا ما فعله إبراهيم ينال حيث خرج مرّة ثانية وأشغل طغرل بك واستفاد من هذا الخروج الشيعة الفاطميون العبيديون.

ج‌-استيلاء البساسيري على بغداد وإقامة الخطبة فيها للفاطميين :

أدى خروج إبراهيم ينال على طاعة أخيه ومسير طغرلبك في أثره لمحاربته إلى خلو بغداد من الحامية السلجوقية مما أتاح للبساسيري الفرصة للاستيلاء على حاضرة الخلافة العباسية وإقامة الخطبة فيها للفاطميين فزحف إليها على رأس أربعمائة فارس، حاملاً الرايات الفاطمية التي طرزت باسم
" الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين"  ، وتبعه خليفة قريش بن بدران على رأس مائتي فارس من بني عقيل، وأقيمت الخطبة للخليفة المستنصر بالله الفاطمي بجامع المنصور في يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة سنة 450ه  وزيد في الأذان : حي على خير العمل  ، وانقطعت دولة بني العباس من بغداد وأخرج الخليفة وحُمل إلى الأنبار وحبس بالحديثة  ، عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي، فتولى خدمة الخليفة بنفسه وكان أحد وجوه بني عقيل، وخطب لبني عبيد – الفاطميين، في بغداد أربعين جمعه في ولاية المستنصر  . وحاول البساسيري نقض الاتفاق الذي عقده مع قريش بن بدران وعزم على أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر، إلا أن قريشاً تصدى لهذه المحاولة وعهد إلى ابن عمه الأمير محي الدين بن مهارش العقيلي – صاحب حديثة بالتحفظ على الخليفة وتأمين حياته، بعد أن استنجد به الخليفة قائلاً : عرفت ما استقر العزم عليه من إبعادي عنك وإخراجي من يديك،وما سلمت نفسي إليك إلا لما أعطيتني الذمام الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلت إليك ووجب لي ذمام عليك، فالله الله في نفسي، فمتى سلمتني أهلكتني وضيعتني ما ذلك معروف في العرب  . وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخليفة القائم بأمر الله بالرحيل إلى الحديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام  ولم يكتف البساسيري بذلك بل أستولى على ثوب الخليفة وعمامته وشباكه  ، وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، أما عن أقارب الخليفة، فقد أذكى البساسيري عليهم العيون وشدد في البحث عنهم، إلا أنهم صاروا يتنقلون من مسجد إلى آخر هرباً منه ثم لجاءوا إلى أبي الغنائم بن المحلبان .

د‌-مقتل رئيس الرؤساء ، أبو القاسم بن المسُلمة والانتقام من أهالي بغداد:

كان البساسيري قد شرع في استخدام طائفة من العوام ودفع إليهم السلاح من دار المملكة، وكان البساسيري قد جمع العيّارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة ونهب أهل الكرخ – الشيعة – دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدَّمغانيَّ، وهلك أكثر السَّجلاَّت والكتب الحكيمة، وأبيعت للعطارين، ونُهبت دور المتعلقين بالخليفة، وأعادت الرَّوافض الأذان بحيَّ على خير العمل، وأُذَّن به في سائر جوامع بغداد في الجُمُعات والجماعات، وخطب ببغداد وضربت له السَّكةُ على الذهب والفضة وحُوصرت دار الخلافة فدافع الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّبِ برئيس الرؤساء بمن معه من المستخدمين دونها، فلم يُفد ذلك، فركب الخليفة بالسَّواد والبُردة على كتفيه، وعلى رأسه اللواء وبيده سيف مُصلتُ، وحوله زمرة من الهاشميين والجواري حاسرات عن وجُوههن، ناشرات شعورهن، معهن المصاحف على رُءُوس الرماح وبين يديه الخدم بالسيوف المُسَللةِ، ثم إن الخليفة أخذ ذِِماماً من أمير العرب قريش بن بدران لنفسه وأهله ووزيره ابن المُسلمة فأمَّنه على ذلك كلَّه، وأنزله في خيمة، فلامه البساسيري على ذلك، وقال : قد علمت ما كان وقع الاتفاق بيني وبينك من أنك لا تستبد برأي دوني، ولا أنا دونك، ومهما ملكنا فبيني وبينك، واستحضر البساسيري أبا القاسم بن مسلمة فوبّخة ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه مبرحاً، وأعتقله مهاناً عنده، ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يُحصَى ما أخذوا منها من الجواهر والنَّفائس والدَّيباج والأثاث والثياب، وغير ذلك مما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ وفي يوم عيد الأضحى من سنة 450ه ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنَّين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية، وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر، والرَّوافض في غاية السرور والأذان في سائر بلاد العراق بحيَّ على خير العمل، وانتقم البساسيريُّ من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرَّق خلقا ممّن كان يعاديه، وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا ولما كان يوم الاثنين ليلتين بقيتا من ذي الحجة أُحضر إلى بين يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّبُ برئيس الوزراء وعليه جُبَّةُ صوف، وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مِخنقة من جلود كالتعاويذ، فأُركب جملاً  ، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعه من جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خُلقْان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبُّوه وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان، وأُوقف بازاء دار الخلافة، وهو في ذلك يتلو قوله تعالى : "قُل اللهم مالك الملك تُؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعزُّ من تشاء وتُذلُّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير" (آل عمران : 16).

فالبس جلد ثور بقرنيه وعُلَّق بكلوّب في شِدْقيه، ورفع إلى الخشبة حيَّاً، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه الله، وكان آخر كلامه أن قال : الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً  . وكان هذا الوزير قد سمع الحديث من أبي أحمد الفَرَضيَّ وغيره، ثم كان أحد المعَدَّلين، ثم استكتبه الخليفة القائم بأمر الله واستوزره ولقَّبهَ رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الورى، وكان متضلعاً بعلوم كثيرة مع سداد رأي ووفور عقل، وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهراً ولما قتل كان له من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر .

4-القائم بأمر الله وعبادته ودعاؤه الذي علق على الكعبة :

 سار الخليفة القائم بأمر الله إلى محل اعتقاله إلى حديثة عانة فكان عند مهارش أميرها حولاً كاملاً وليس معه أحد من أهله، فحكي عن الخليفة القائم بأمر الله أنه قال : لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة، فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة، ثم دعوت الله بما سنح لي، ثم قلت : اللهم أعِدْني على وطني، وأجمع بيني وبين أهلي وولدي ويَسرَّ اجتماعنا، وأعد روض الأُنس زاهراً، وربع الُقرب عامراً، فقد قلّ العزاء وبرح الخفاءُ،قال : فسمعت قائلاً على شاطئ الفرات يقول نعم نعم فقلت : هذا رجل يخاطب آخر،ثم أخذت في السؤال والابتهال فسمعت ذلك الصائح يقول : إلى الحول إلى الحول، فعلمت أنه هاتف انطقه الله بما جرى الأمر عليه. وكان كذلك، خرج من داره من ذي القعدة من هذه السنة، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة، وقد قال الخليفة القائم في مقامه بالحديثة شعراً يذكر فيه حاله، فمنه قوله :

خابت طنوني فيمن كنت آمُلُه
   
    ولم يَجُلْ ذكر من واليت في خلدي

تعلمَّوا من صروف الدهر كلُّهُم
   
    فما أرى أحداً يحنوا على أحد


ومن ذلك أيضاً قوله :

مالي من الأيام إلا موعِدٌ
   
    فمتى أَرَى ظَفَراً بذاك الموعد

يومي يَمُرُّ وكلما قضَّيتُه
   
    علَّلْتُ نفسي بالحديث إلى غد

أحيا بنفسي تستريح إلى المنُى
   
    وعلى مطامعها تروح وتعتِدي


أ‌-دعاء القائم بأمر الله الذي علق على الكعبة المشرفة :

 أرسل الخليفة القائم بأمر الله هذا الدعاء مع بدوي وأمره أن يعلقه على الكعبة وهو في أسره وإليك نص الدعاء : إلى الله العظيم من عبدك المسكين، اللهم إنك العالم بالسرائر المحيط بمكنونات الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك وإطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي، بما أن فيه عبد من عبيدك قد كفر بنعمتك، وما شكرها، وألقى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك، وتجبر بأناتك حتى تعدى علينا بغياً، وأساء إلينا عتواً وعدواناً. اللهم قل الناصرون لنا، واغتر الظالم، وأنت المطلع العالم، والمنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك يا رب العالمين.

اللهم إنا حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، وقد رفعت ظلامتي إلى جرمك ووثقت في كشفها بكرمك، فأحكم بيني وبينه وأنت خير الحاكمين، وأرنا منه ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالأثم، اللهّم فأسلبه عزه، ومكنا بقدرتك من ناصيته يا أرحم الراحمين. فحملها البدوي وعلقت على باب الكعبة. فحُسب ذلك اليوم فوُجد أن البساسيري قتل وجيء براسه إلى بغداد بعد سبعة أيام من التاريخ  .

فقد نفع الله القائم بأمر الله بهذا الدعاء فكذلك ينبغي لكل من قُهر وبُغي عليه أن يستغيث بالله تعالى، وإن صَبر وغفر فإن في الله كفاية ووقاية  .

ب‌-رسالة الخليفة القائم بأمر الله من أسره إلى طغرل بك :

أرسل الخليفة من أسره رسالة إلى السلطان طغرل بك جاء فيها : بحق الله أدرك الإسلام فقد ساد العدو اللعين وأخذ ينشر مذهب القرامطة  ، فلما فرغ السلطان طغرل من تمرد أخيه إبراهيم ينّال وأسره وقتله، وتمكن من أمره وطابت نفسه واستقر حاله، ولم يبق له في تلك البلاد منازع كتب إلى قريش بن بدران، من الأعراب، يأمره بأن يعاد الخليفة إلى داره، على ما كان عليه، وتوعّده على ترك ذلك بأساً شديداً فكتب إليه قريش يتلطفُ به ويسالمه، ويقول : أنا معك على البساسيريَّ بكلَّ ما أقدر عليه، حتى يمكن الله منه، ولكن أخشى أن تَسَّرعَ في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة، أو يبدر إليه أحد بأذيةٍ، ولكنَّي سأعمل لما أمرتني بكل ما يمُكنني، وأمر بردَّ امرأة الخليفة الخاتون المعظمةَّ أرسلان خاتون إلى دارها وقرارها، ثم راسل البساسيريَّ وأشار إليه بعود الخليفة إلى داره، وخوّفه من جهة الملك طغُرل بك وقال له فيما

قال : إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر صاحب مصر وبيننا وبينه ستمائة فرسخ، ولم يأتنا من جهته رسول ولا أحد، ولم يفكر في شيء ممّا أرسلنا إليه، وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد ، ومما جاء في رسالة طغرل بك إلى الأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران : ... ولكل مُجْترم في العراق عفونا وأمننا مما بدر منه إلا البساسيريَّ فإنه لا عهد له ولا أمان منّا، وهو موكول على الشيطان وتساويله فقد أرتكب في دين الله عظيماً، وهو إن شاء الله مأخوذ حيث وجد ومُعذَّب على ما عمل، فقد سعى في دماء خلق كثير سوء دخيلته، ودلَّت أفعاله على سوء عقيدته. وكتب في رمضان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وبعث بهذا الكتاب مع رسولين من أهل العمل وبعث معهما بتحف عظيمة للخليفة وأمرهما أن يخدما الخليفة نيابة عنه، جزاه الله عن الإسلام خيراً، ولما وصل الكتاب إلى قريش بن بدران، استعلم أخبار الملك طغرل بك من الرسل وغيرهم، فإذا معه جنود عظيمة، فخاف من ذلك خوفاً شديداً، وبعث إلى البريّة فأمر بحفر أماكن للماء وتجهيز علوفات كثيرة إلى هناك ونفَّذ الكتاب والأخبار إلى البساسيريَّ، فانزعج لذلك البساسيري، وخارت قوته وضعف أمره، وبعث إلى أهله فنقلهم عن بغداد وأرصد له إقامات عظيمة بواسط وجعلها دار مقّرته، ووافق على عود الخليفة إلى بغداد، ولكن اشترط شروطاً كثيرة لتُذهب خجله ولما انتقل أهل البساسيريَّ من بغداد وصَحِبَتهم أهل الكرخ والروافض، وانحدروا في دجلة إلى واسط كان خروجهم عن بغداد في سادس ذي القعدة من هذه السنة وفي مثله من العام الماضي دخلوا بغداد، وعند ذلك ثار الهاشميون وأهل السنة من باب البصرة إلى الكرخ، فنهبوه وأحرقوه منه محالَّ كثيرة جداً انتقاماً لما فعل الروافض فيهم، واحترق من جملة ذلك دار العلم التي وقفها الوزير أرد شير من مدة سبعين سنة وفيها من الكتب شيء كثير، وكان من جملة ما احترق درب الزعفران، وفيه ألف ومائتا دار لكل دار منها قيمة جليلة عظيمة، وترحَّل قريش بن بدران إلى أرض الموصل وبعث إلى حديثة عانة يقول لأميرها مُهارِش بن مُجَليَّ الذي سلمَّ إليه الخليفة : المصلحة تقتضي أن الخليفة تُحوَّله إلىَّ حتى نستأمن لأنفسنا بسببه،ولا تُسلمه حتى تستأمن لنا وتأخذ أمانا في يدك دون يَدِي، فامتنع عليه مُهارشُ وقال : قد غرّني البساسيري، ووعدني بأشياء فلم أرها، ولست بمرسله، إليك أبداً، وله في عنقي إيمان كثيرة لا أعذرها. وكان مُهارِشٌ رجلاً صالحاً ثقة أميناً رحمه الله، فقال للخليفة : من المصحلة أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل ونظرنا لأنفسنا، فإنا نخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا. فقال له الخليفة : أفعل ما فيه المصلحة. فسار في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلاً بقلعة تَلَّ عُكْبَرَا فلقيته رسل السلطان طغرل بك بالهدايا والتُحف التي كان أنفذها إليه وهو متشوق إليه كثيراً  وجاء في رواية : أن الإمام القائم رأي- في الليلة التي أطلق في غدها – رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له : لا تأكل الطعام الذي يقرب إليك في غد فإنه مسموم، وقد قرب خلاصك. قال : فأصبح، وقُدَّم إليه دجاج مسموم، فامتنع من الأكل، وأطلق في عصر ذلك اليوم، ورُدَّ إلى بغداد  .

ج‌-دخول طغرل بك بغداد ولقاؤه بالخليفة القائم بأمر الله :

جاءت الأخبار بأن السلطان طغرل بك قد دخل بغداد وكان يوماً مشهوداً، غير أن الجيش نهبوا البلد سوى دار الخلافة وصُودِر خلق كثير من التجار، وأخذت منهم أموال كثيرة، وشرعوا في عمارة دار المُلك وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها وسُرادق عظيمة وملابس سَنيّةً، وما يليق بالخليفة في السفر، أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندريَّ ولما انتهوا إليه أرسلوا بتلك الآلات قبل أن يصلوا إليه، وقال لمن حوله : اضربوا الُّسرادِق وليلبس الخليفة ما يليق به، ثم نجىءُ نحن فنستأذن عليه فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة فلما دخل الوزير ومن معه قبَّلوا الأرض وأخبروه سرور السلطان بما حصل من العود إلى بغداد واشتياقه إليه جداً وأخبروا مُهارِشاً بشكر السلطان له ونيته له بما ينبغي لمثله من الإكرام، وكتب عميد الملك كتاباً إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى الأمرُ عليه، وأحَبَّ أن يأخذ خطَّ الخليفة في أعلى الكتاب ليكون أقّر لعين السلطان فلم يكن عند الخليفة دواة وأحضر الوزير دَواته، ومعها سيف، وقال هذه خدمة السيف والقلم، فأعجب الخليفة ذلك، وترَحَّلوا من منزلهم ذلك بعد يومين، فلما وصلوا إلى النهّروان خرج السلطان طغرل بك من بغداد لتلقيَّه، فلما انتهى إلى السُرادق قبَّل الأرض بين يديه فأخذها الملك فقبلها، ثم جلس عليها كما أشار أمير المؤمنين، وقّدم إلى الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بُوَيه فوضعه بين يدي الخليفة، وأخرج اثنتي عشرة حبَّة من لؤلؤ كبار، وقال : أرسلان خاتون – يعنى زوجة الخليفة تخدم وتسأل أن تُسبَّحَ بهذه السبُّحه وجعل يعتذر عن تأخره عن الحضرة بسبب عصيان أخيه إبراهيم : فقتلته واتَّفق موت أخي الأكبر داود فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده، وكنت عزمت على أن أصمُدَ إلى الحديثة، لأصون المهجة الشريفة، ولكن لما بلغني، بحمد الله، أمر مولاي أمير المؤمنين الخليفة فرحت بذلك، وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة أمير المؤمنين، وأنا إن شاء الله تعالى أمضي وراء هذا الكلب – البساسيريَّ – وأقتنصه، وأعود إلى الشام، وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة بما كان من فعل اليساسيري هاهنا، فدى له الخليفة وشكره على ذلك، كل ذلك يترجمه عميد الملك بين الخليفة والملك طغرل بك، وأعطى الخليفة للملك سيفاً كان معه، لم يبق معه من أمور الخلافة سواه، وأستأذن الملك لبقية الأتراك أن يخدموا الخليفة، فرفعت الأستار من جوانب الخَرْكاه، فلما شاهد الأتراك الخليفة قبَّلوا الأرض ثم دخل بغداد يوم الاثنين الخميس بقين من ذي القعدة وكان ذلك يوماً مشهوداً، الجيش كله معه والقضاة، والأعيان بين يديه، والملك طغرل بك أخذ بلجام بغلته، حتى وصل على باب الحجرة، ولما وصل الخليفة إلى دار مملكته، ومقرَّ خلافته أستأذنه السلطان طغرل بك في الخروج وراء البساسيريَّ، فأذن له وكان قد عزم أن يمضي معه فقال : يا أمير المؤمنين، أنا أكفيك ذلك إن شاء الله وأطلق الملك لمهارش عشرة آلاف دينار فلم يرضى  .

د‌-مقتل البساسيري :

شرع السلطان طغرل بك في ترتيب الجيوش للمسير وراء البساسيري، فأرسل جيشاً من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام، وخرج هو في التاسع والعشرين من الشهر في بقية الجيش وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلاًّت وتمور يُهيَّئها لقتال أهل بغداد ومن فيها من الغُزَّ، وعنده أن الملك طغرل بك ومن معه ليسوا بشيء يخاف منه، وذلك لما يُريده الله تعالى من إهلاكه على يَدى الملك طغرل بك، جزاه الله عن الإسلام خيراً  ولما سار السلطان نحوه وصلت إليه السَّرية الأولى فلقوه بأرض واسط، ومعه ابن مزيد، فاقتتلوا هنالك، وانهزم أصحابه، ونجا البساسيري بنفسه على فرس فتبعه بعض الغلمان، فرمى فرسه بُنشابة فألقته إلى الأرض، فجاء الغلام، فضربه على وجهه، ولم يعرفه، وأسره واحد منهم يقال له كُمُشتكتين، وحزّ رأسه وحمله إلى السلطان، وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به إلى بغداد، وأن يرفع على قناة، وأن يطاف به في المحّالَّ والدّبادب والبُوقات والنفاطون معه، وأن يخرج الناس والنساء للفرجة عليه فُفعل
ذلك  ، كان البساسيري مقدماً عند الخليفة القائم بأمر الله، لا يقطع أمراً دونه وخطب له على منابر العراق كلها، ثم طغا وبغى وتمرد وعتا وخرج على الخليفة، بل وعلى المسلمين، ودعا إلى خلافة الفاطميين، فتم له ما رامه من الأمل الفاسد وأستدرج، ثم كان أخذه في هذه السنة  ، 451ه، وقد كان مع البساسيري خلق من أهل بغداد خرجوا معه، ظانين أنه سيعود إليها، محبة فيه، فهلكوا ونهبت أموالهم كلها، ولم ينج من أصحابه إلا القليل  .

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن






 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق