70
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية :
المبحث الثالث:أهم معالم التجديد والإصلاح دولة نور الدين:
ثالثاً :العدل في دولة نور الدين محمود زنكي:
7- رفع الضرائب والمكوس :
لم يترك نور الدين في بلد من بلاده ضريبة ولا مكساً ولا عشراً إلا وأطلقها جميعها في بلاد الشام والجزيرة وديار مصر وغيرها، مما كان تحت حكمه، فقد كان المكس في مصر يؤخذ من كل مائة دينار خمسة وأربعون ديناراً، أي 45% وهذا إلغاء للمكوس، لم تتسع له نفس غيره ( ) وكان رحمه الله نادماً على ما فاته في أمر المكوس، فقد روى أبو شامة أن : الملك العادل كان يرفع يديه إلى السماء ويبكي ويتضرع ويقول : اللهم أرحم العشّار المكَّاس .. وكان قد دعا أحد معاونيه – موفق الدين خالد – وقال له : اقعد واكتب بإطلاق المؤن والمكوس والأعشار واكتب للمسلمين أني قد رفعت عنكم ما رفعه الله تعالى عنكم، واثبت ما أثبته الله عليكم ( ) . وقد أمر بقراءة المناشير في الأقاليم في المساجد على الناس. روى أبو شامة : أن الملك العادل نور الدين لما دخل الموصل سنة 566ه، أمر بإسقاط جميع المكوس والضرائب وأنشأ بذلك منشوراً يقرأ على الناس فيه : وقد قنعنا من الأموال باليسير من الحلال، فسحقا للسحت، ومحقاً للحرام الحقيق بالمقت، وبعداً لما يبعد من رضا الرب، وقد استخرنا الله وتقربنا إليه بإسقاط كل مكس وضريبة في كل ولاية لنا بعيدة أو قريبة ومحو كل سنة سيئة شنيعة، ونفي كل مظلمة فظيعة وإحياء كل سنة حسنة .. إيثاراً للثواب الآجل على الحطام العاجل ( ) . وقرئ منشور آخر بإسقاط المكوس بمصر على المنبر في القاهرة عام 567ه بعد صلاة الجمعة، عن السلطان صلاح الدين، في أيام نور الدين ويأمره جاء فيه : وقد رأينا إسقاط المكوس الديوانية بمصر والقاهرة وأن نتجرد فيها، لنلبس أثواب الأجر الفاخرة، ونطهر منها مكاسبنا ونكفي الرعية ضرهم .. ونضع المكوس فلا ترفعها من بعد، يد حاسب ولا قلم كاتب ( ). وهدد من لا يطيق ذلك من المسؤولين : ومن أزالها زلّت قدمه، ومن أحلّها حلّ دمه ومن قرأه أو قرئ عليه فليتمثل ما أمرنا به وليمضه مرضياً لربه، ممضياً لما أمر به ( )، ولم ترق هذه الخطة في إلغاء الضرائب لرجال الدولة، فاحتج أسد الدين شيركوه بقوله : فالأجناد الذين تأتي أرزاقهم من هذه الجهات، من أين تعطيهم أرزاقهم ؟ أي رواتبهم ؟ فأجابه نور الدين : إن كنا نغزو من هذه الجهات أي من هذه الموارد : نتركها ونقعد ولا نخرج ( ). ولم يكتف نور الدين بذلك، بل أمر خطباء المساجد أن يطلبوا من الناس، أن يسامحوه فيما جبى منهم قبلاً من هذه الضرائب وكتب إلى الخليفة كتاباً يعلمه بما أطلق وبمقدار ما أطلق ويسأله أن يتقدم إلى الوعاظ بأن يستعجلوا من التُّجَار ومن جميع المسلمين له في حلًّ مما كان قد وصل إليه يعني من أموالهم فتقّدم بذلك وجعل الوعاظ على المنابر ينادون بذلك ( ).
وعندما خرج لأخد شيزر خرج أبو غانم بن المنذر في صحبته فأمره نور الدين رحمه الله بكتابة منشور بإطلاق المظالم بحلب ودمشق وحمص وحَرَّان وسنجار والرحبة. وعزاز، وتل باشر، وعداد العرب، فكتب عنه توقيعاً نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ما تقرب به إلى الله سبحانه وتعالى صافحاً وأطلقه مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا عن عمارة ما أخربته أيدي الكُفّار، أبادهم الله، عند استيلائهم على البلاد وظهور كلمتهم في العباد، رأفة بالمسلمين المثاغرين ( ) ، ولطفاً بالضعفاء المرابطين، الذين خَصَّهم الله سبحانه بفضيلة الجهاد، واستمنحهم بمجاورة أهل العناد اختباراً لصبرهم وإعظاماً لأجرهم، فصبروا احتساباً، وأجزل الله لهم أجراً وثواباً "إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب " (الزمر ، آية : 10) وأعاد عليهم ما اغتصبوا عليه من أملاكهم التي أفاء الله عليهم بها من الفتوح العمُريَّة وأقرها من الدولة الإسلامية بعد ما طرأ عليها من الظلمة المتقدمين، واسترجعه بسيفه من الكفرة الملاعين، فطمس عنهم بذلك معالم الجَوْر وهدم أركان التعدَّي، واقر الحق مقَّره لقوله تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " (الأنعام، آية : 160) " والله يضاعف لمن يشاء " (البقرة ، آية : 262). ثم لما أعانه الله بعونه وأيَّده بنصره، وقمع به عادية الكفر، وأظهر بهمته شعائر الإسلام، وأظفره بالفئة الطّاعنة، وأمكنه من ملوكها الباغية، فجعلهم بين قتيل غير مقاد وهارب ممنوع الرُّقاد " واخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " (ص، الآيات : 38 – 40) علم أن الدنيا فانية فاستخدمها للآخرة الباقية، واستبقى ملكه الزّائل بأن قدّمه أمامه، وجعله ذُخراً للمعاد، فالتقوى مادة دارَّه إذا انقطعت المواد وجادّة واضحة حين تلتبس الجواد " يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله " (الأنفطار ، آية : 19) فصفح لكافة المسافرين وجميع المسلمين بالضَّرائب والمكوس، وأسقطها من دواوينه وحرّمها على كل متطاول إليها، ومتهافت عليها، تجنباً لإثمها واكتسابا لثوابها، فكان مبلغ ما سامح به وأطلقه وأنفذ الأمر فيه – تباعاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم – في كل سنة من العين مئة ألف وستة وخمسين ألف دينار ( ) .
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك، أن نشط الناس للعمل، فأخرج التجار أموالهم، ومضوا يتاجرون، وجاءت الجبايات الشرعية بأضعاف ما كان يجبي من وجوه الحرام بينما كان ما ألغاه من المكوس المستحدثة لا يزيد عن (165.000) مائة وخمسة وستين ألف دينار ( ) ، ويقول ابن خلدون : العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته، يكون انقباض أيديهم ( ) عن المكاسب، كسدت أسواقاً العمران، وانتقضت الأحوال ويقول : العدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم .. يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقص الدولة سريعاً ( ).
وكانت هناك أمور عديدة ساعدة نور الدين على إلغاء المكوس وأهمها على الإطلاق توفيق الله له، فقد رأى له وزيره موفق الدين خالد بن القيسراني الشاعر في منامه أنه يغسل ثيابه وقصَّ ذلك عليه ففكر ساعة، ثم أمره بكتابة إسقاط المكوس وقال : هذا تفسير منامك. وكان في تهجده يقول : أرحم العشّار المكّاس وبعد أن أبطل ذلك استعجل الناس في حِلَّ وقال : والله ما أخرجناها إلا في جهاد عدوَّ الإسلام، يعتذر بذلك إليهم عن أخذها منهم ( ) ومن الأسباب التي كانت محركة لنور الدين في إبطال تلك المظالم والخلاص من تلك المآثم موعظة أبي عثمان المنتخب بن أبي محمد البحتري الواسطي فقد قال قصيدة في نور الدين وقدمها له جاء فيها :
مثَّلْ وقوفك أيها المغرور
??يوم القيامِة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلَّماً
??فاحذر بأن تبقى ومالك نور
أَنَهَيْتَ عن شرب الخمور وأنت من
??كأس المظالم طافحٌ مخمورُ
عطَّلْتَ كاساتِ المُدامِ تعُففاً
??وعليكَ كاسات الحرامِ تدورُ
ماذا تقول إذا نُقلت إلى البِلى
??فرداً وجاءك منكرُ ونكيُر
وتَعَلَّقتْ فيك الخصوم وأنت
??في يوم الحساب مُسَحَّبُ مجرورُ
وتَفَرّقَتْ عنك الجنودُ وأنت
??في ضيق اللُّحود مُوَشَّدٌ مقبورُ
وَوَدِدْت أنك ماوَليْتَ ولاية
??يوَماً ولا قال الأنام أميرُ
وبقِيْت بعد العزَّ رَهْنَ حُفيرة
??في عالم الموتى وأنت حقير ( )
وَحُشرتَ عُرياناً حزيناً باكياً
??قلَِقاً ومالك في الأنام مُحيُر
أَرضِيتَ أن تحيا وقَلْبُك دارسٌ
??عافي الخراب وجسمك المعمورُ
أرضيت أن يحظى سواك بقُربه
??أبداً وأنت مُبَعَّدٌ مهجور
مهَّد لنفسك حُجَّةً تنجو بها
??يوم المَعاد لعلكَّ المَعْذُورُ
وكان هذا الرجل من الصالحين الكبار فلما سمعها نور الدين بكى وأمر بوضع المكوسات والضرائب في سائر بلاده ( ) ، فرحم الله الواعظ والمتعظ ووفق من أراد الاقتداء بهم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق