إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 9 يوليو 2014

60 موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية : المبحث الثالث:أهم معالم التجديد والإصلاح دولة نور الدين: أولاً :الحرص على تطبيق الشريعة :


60

موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية

الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية :

المبحث الثالث:أهم معالم التجديد والإصلاح دولة نور الدين:

أولاً :الحرص على تطبيق الشريعة :

لم تكن مقاليد الحكم في دولة نور الدين أداة لخدمة أهداف الطبقة الحاكمة، كما هو الحال في كثير من الدول والحكومات، ولا لتحقيق وحماية مصالح حفنة من البيروقراطيين، كما أنها لم تكن مجرد ذريعة عملية " براغماتية" لتسيير الشؤون المادية المنفعية الصرفة للدولة فحسب، بل إن هنالك أهدافاً أكبر بكثير، وقيماً ومباديء أبعد مدى، كان على أجهزة الدولة أن تسعى إلى تحقيقها في واقع الحياة، وأن تبذل ما تمتلكه من قدرات وخبرات للسير بالأمة قدما صوب آفاقها الرحبة الشاملة إن تنفيذ شريعة الإسلام وقيمه ومبادئه في واقع الحياة، وبعث المجتمع الإسلامي كان هو الهدف المركزي لدولة نور الدين محمود فهي إذن دولة ملتزمة وليست صاحبة أغراض منفعية وكسب واحتراف وقد أكد نور الدين على هذه الحقيقة في أكثر من مناسبة وحشد لها الكثير من الأقوال والتأكيدات والتصريحات ودعا بحماس منقطع النظير إلى تحقيقها، وسعى – فعلاً – إلى أن تنتقل هذه الدعوة – رغم المصاعب والعقبات – من ميدان الفكر إلى ميدان التطبيق ( ) قال : ونحن نحفظ الطرق من لصّ وقاطع طريق، والأذى الحاصل منها قريب، أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضه، وهو الأصل ( ) . وقال : نحن شحن ( ) للشريعة نمضي أوامرها ( ) ، وقال مخاصباً أحد ولاته : انظر في العوادي وما يجري فيها من الدعاوي، وميز بين المحاسن، والمساوئ، وأحمل الأمور فيها على الشريعة ( ). وقال متحدثاً إلى اثنين من كبار موظفيه : والله إني أفكر في وال وليته أمور المسلمين فلم يعدل فيهم أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي وأعواني وأخاف المطالبة بذلك (أمام الله). فالله عليكم، وإلا فخبزي عليكم حرام، ولا تريان قصة مظلوم لا ترفع إلى، أو تعلمان مظلمة إلا وأعلماني بها وارفعاها إلي ( ) وقال فيما يلخص موقفه الملتزم بعبارة تثير الإعجاب : إني جئت هاهنا امتثالاً لأمر الشرع ( ) وثمة شهادات المؤرخين تؤكد جميعاً هذا الحرص على الالتزام وعلى جعل الدولة أدة لتحقيق كلمة الله في الأرض ( ) يقول ابن الأثير : كان نور الدين يعظم الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها ( ). ويقول في مكان آخر : وعلى الحقيقة فهو الذي جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، فإنهم كانوا قبله كالجاهلية، همة أحدهم بطنه وفرجه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى جاء الله بدولته فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم بذلك أتباعه وذويه، فاقتدى به غيره منهم، واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا يفعلونه ( ) ، ويقول أبو شامة : سمعت أبا شداد يقول : أما فكره ففي إظهار شعار الناس وتأسيس قاعدة الدين ( )، ويقول في مكان آخر : كان أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتبعها ( ). ويقول ابن كثير : كان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة واتباع الشرع المطهر ... وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة ( )، ويقول ابن قاضي شهبة : كان نور الدين – لما صارت له الموصل – قد أمر كمشتكين شحنتها ألا يعمل شيئاً إلا بالشرع إذا أمره القاضي، , وألا يعمل القاضي والنواب كلهم شيئاً إلا بعد مراجعة الشيخ عمر الملاء – أحد شيوخ الموصل الصالحين – وعندما حضر والي الموصل وبعض القادة والأمراء فيها إلى الشيخ عمر لكي يكتب إلى نور الدين كتاباً يطلب منه أن يسمح بتشديد العقوبة على بعض المخالفات بسبب كثرة مرتكبيها وعدم ارتداعهم : وكانت أوامر نور الدين أن تكون العقوبات مطابقة لما ورد بأحكام الشريعة بدون زيادة ونقصان ولم يجرؤ الوالي على الكتابة لنور الدين بهذا الموضوع خشية التأنيب وأعتقد أن الشيخ عمر بما له من دالة على نور الدين ربما نجح بالمطلوب، فكتب الشيخ عمر كتاباً إلى نور الدين يقول فيه : إن الزعار وقطاع الطرق والمفسدين قد كثروا ويحتاج إلى نوع سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجئ ليشهد له ( ) فأجاب نور الدين على ظهر رسالة الشيخ بقوله : إن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال، ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه لنا، فما لنا من حاجة على زيادة ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة، فهو يكملها بزيادته وهذا من الجرأة على الله وعلى شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، فالله سبحانه يهدينا وإياك إلى الكتاب وإلى الصراط المستقيم ( ) ، فلما وصل الجواب إلى الشيخ عمر جمع الناس وقرأ عليهم كتابه وجواب نور الدين عليه قائلاً : انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد ( ) . وكان نور الدين معتنياً بحفظ أصول الديانات، ولا يمكن أحداً من إظهار ما يخلف الحق، ومتى أقدم على ذلك أدبه بما يناسب بدعته ( ) وكان لا يقدم على إجراء ما عام أو شخصي، إلا بعد أن يستفتي الفقهاء الذين كانوا أشبه بمجلس شيوخ تشريعي أو هيئة استشارية تستلهم في قراراتها النهائية مؤشرات الشريعة الغراء بحيث لا يقدم أحد في الدولة على عمل أو إجراء إلا ويجيء ذلك العمل منسجماً مع فكر الدولة وعقيدتها وشريعتها ( ). ولم يدع نور الدين منكراً يسود جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية إلا عمل على إزالته وحث موظفيه على التنفيذ الفوري لأوامره بهذا الصدد .. إنه لم يشأ أن يقاتل العدو في الخارج وفي الداخل يعشش الخراب والتفكك والعفن فيدمر الإنسان المسلم، ويفتت العلاقات الاجتماعية، ويستترف القدرات الجهادية الخلاقة للأمة المسلمة، والتي بدونها، كانت تنتهي دائماً إلى مواقع الفرار والذلة والهزيمة. لقد قالها يوماً أحد كبار الشيوخ – برهان الدين البلخي – وجهاً لوجه أمام نور الدين : أتريدون أن تنصروا وفي عسكركم الخمور والطبول والزمور ؟ فلا والله ( ) ، وما كان نور الدين بحاجة إلى من يقول له هذا ولكنها الذكرى التي تهز الفؤاد وتقود إلى مزيد من الإنجاز الذي يبني الجبهة الداخلية النظيفة، المتينة القديرة على مواصلة المهمة القتالية التي قادها نور الدين .. لقد أصدر أوامره إلى كافة موظفيه بالعمل على منع ارتكاب الفواحش وشرب الخمور، أو بيعها في جميع بلاده، أو إدخالها إلى بلد ما، وإسقاط كل ما يدخل تحت شبه الحرام وتصفية آثار الآثام، وإرقة الخمور، وإزالة كل ما ينّد الظلام، وكان ينزل عقابه السريع العادل بكل من خالف عن أمره وكل الناس عنده فيه سواء ( ). لقد بلغ من التزام نور الدين بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام حداً في غاية الروعة والجمال وشدة المحبة لرسول الإسلام، فقد حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور الدين لسماع شيء من الحديث، فمّر أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين أمراً لم يكن يعرفه وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف؛ يشير إلى التعجب من عادة الجند إذ هم على خلاف ذلك لأنهم يربطونه بأوساطهم فلما كان من الغد مر، وأنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من القلعة وهو متقلد السيف وجميع عسكره كذلك ( ) . رحم الله الملك العادل نور الدين الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة، بل لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم اتباعاً لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فما الظن بغير ذلك من السنن ( ). وما أحسن ما قال فيه محمد بن نصر القيسراني :

ذو الجهادين من عدوَّ
    ??فهو طول الحياة في هيجاء

أيها المالك الذي ألزم الناس
    ??سلوك المحجة البيضاء

قد فضحت الملوك بالعدل
    ??لما سرت في الناس سيرة الخلفاء

قاسماً ما ملكت في الناس حتى
    ??لقسمت التقى على الأتقياء ( )


وقال فيه ابن منير :

عفّى جهادك كل رسم مخوفة
    ??وعفت بصفوة عدلك الأكدار
   
ومحا المظالم منك نظرة راحم
    ??لله في خطراته أسرار

غضبان للإسلام مال عموده
    ??فلنوره مما عراه نوار

لم يَبق ما كسى مسلم سلقاً ولا
    ??ساع لمظلمة ولا عشّارُ

همدوا كما همدت ثمود وقادهم
    ??لخسارهم مما أتوه قدارُ

العار في الدنيا شقوا بلباسه
    ??ولباسهم يوم الحساب النار

كم سيرة أحييتها عمرّية ( )
    ??رفعت لها في الخافقين منار

ونوافل صّيرتهن لوازماً
    ??بأقلها تستعبد الأحرار ( )

أما نهارك فهو ليل مجاهدِ
    ??والليل من طول القيام نهارُ ( )


ولقد تحققت في دولة نور الدين محمود آثار تحكيم شرع الله تعالى، من التمكين، والأمن والاستقرار، والنصر والفتح المبين والعز والشرف، وبركة العيش ورغد الحياة في عهده وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل .. إلخ وسوف تتضح بإذن الله تعالى هذه الآثار في هذا الكتاب.

إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ، وإن تلك الآثار الطيبة قد رأينها في دراستنا لدولة الخلفاء الراشدين، ودولة عمر بن عبد العزيز، ودولة نور الدين زنكي، ودولة يوسف بن تاشفين، ودولة محمد الفاتح وهي من سنن الله الجارية والماضية لاتتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم مخلصة لله في قصدها، مستوعبة لسنن الله في الأرض، فإنها تصل إليه ولو بعد حين، وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها ومجتمعاتها ودولها وحكامها.

إن الغرض من الأبحاث التاريخية الإسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان في جهادهم وعلمهم وتربيتهم، وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله، وأخذهم بسنن الله وفقهه ومراعاة التدرج والمرحلية والارتقاء بالشعوب نحو الكمالات الإسلامية المنشودة، إن التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه، وأقام شرعه وقصد رضاه وجعله فوق كل اعتبار ( ). قال تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثّم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " (النساء : 65).

قال تعالى : " وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمُكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً " (النور : 55).


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن 





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق