34
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الأول
السلاجقة ، أصولهم وسلاطينهم
المبحث السادس:عهد التفكك والضعف وانهيار الدولة السلجوقية:
رابعاً : وفاة بركيارق وتولى محمد بن ملكشاه السلطنة :
توفى السلطان بركيارق في سنة 498ه ببروجرد على أثر مرض أصابه، وقد عين السلطان بركيارق قبيل وفاته ابنه ملكشاه ولياً لعهده، وكان طفلاً صغيراً لم يبلغ الخامسة من عمره آنذاك ولذلك عين الأمير أياز ، أتابكا له ، وسار الأمير أياز وبرفقته ملكشاه بن بركيارق إلى بغداد ونال موافقة الخليفة العباسي المستظهر بالله بإقامة الخطبة له في بغداد ولقبه بلقب جلال الدولة ، وكان السلطان محمد وقتذاك توجه إلى الموصل يخبره بأن الموصل من الأقاليم التي دانت له بعد الصلح بينه وبين أخيه السلطان بركيارق، وما كان من جكر مش إلا أن رفض تسليمها أياه مدعياً بأن ما وصل إليه من كتب السلطان بركيارق بعد الصلح تأخره ألا يسلمها إلى غيره، ولما وصل الخبر بوفاة السلطان بركيارق إلى جكرمش لم يكن أمامه مفر من أن يبذل الطاعة للسلطان محمد، وأن يسلم الموصل له ، وقد أسرع السلطان محمد إلى بغداد بعد أن أقيمت الخطبة بها لملكشاه ابن بركيارق ودخلها من الجانب الغربي وخطب له في مساجد هذا الجانب، بينما كانت الخطبة قائمة باسم جلال الدولة ملكشاه بن بركيارق في الجانب الشرقي ومن ثم أصبح هناك سلطانين في وقت واحد ، واستشار الأتابك أياز أتباع السلطان ملكشاه بن بركيارق فيما يفعله مع السلطان محمد، فاستقر بهم الرأي على قتاله ومنعه من السلطنة ولكن وزيره الصفي أبا المحاسن، وأشار عليه بالصلح مع السلطان محمد وتسليمه السلطنة، فأرسل أياز وزيره الصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد طلباً للصلح، وتسليمه السلطنة، واعتذاره عما بدر منه، وطلب العهد والأمان لملكشاه بن بركيارق ولنفسه وللأمراء الذين معه وأجاب السلطان محمد الأمير أياز إلى ما التمسه منه ، وكان الذي أخذ البيعة بالصُّلح إلكيا الهّراسي مدرس النظامية ، فهذا الفقيه لم يقف أمام تلك الصراعات الدامية التي كانت تهدد كيان الدولة الإسلامية آنذاك موقف المتفرج، وإنما كان له دور كبير في فض كثير من المنازعات القائمة بين الحكام والملوك في بعض البلدان الإسلامية حرصاً على تماسك المسلمين ووحدتهم، وقد نجح بالفعل إلى حد كبير في الصلح بين ملكشاه بن بركيارق وعمه السلطان محمد ، وأصبحت السلطنة دون منازع وخطب له في سنة 498ه، يقول ابن كثير في من توفي من الأعيان عام 498ه، بركيارق بن ملكشاه ركن الدولة السلجوقي، خطب له ببغداد سِتَّ مرات وعزل عنها ست مرات وكان عمره يوم مات أربعاً وعشرون سنة وشهوراً وقام من بعده ولده ملكشاه، فلم يتّم أمره بسبب منازعة عمه محمد له وقال الذهبي : وكان بركيارق شاباً شهماً شجاعاً لّعاباً، فيه كرم وحلم، وكان مدمناً، للخمر، تسلطن وهو حدث، له ثلاث عشرة سنة، فكانت دولته في نكد وحروب بينه وبين أخيه محمد، يطول شرحها وهي مذكورة في الحوادث ... مات بعلة السَّلَّ والبواسير، وكان في أواخر دولته قد توطَّد ملكه وعظم شأنه ولما احتضر، عهد بالأمر من بعده لابنه ملكشاه بمشورة الأمراء، فعقدوا له، وهو ابن خمسة أعوام وقد تولى محمد بن ملكشاه وحكم أكثر من ثلاثة عشر عاماً عمت الفوضى في أثنائها جميع أنحاء الدولة فضعف الشرق الإسلامي أمام الصليبيين في بلاد الشام وأمام القوات الأخرى المعادية في جوف الدولة الإسلامية وأهمها الطائفة الإسماعيلية . وانقسمت الدولة السلجوقية بعد وفاة بركيارق وأصبح كل جزء من الدولة السلجوقية تابع لوالي مستقل، فالأجزاء الشرقية تخضع لحكم سنجر، والأجزاء الشمالية تخضع لحكم أخيه محمد وبلاد الشام تحت سيطرة أبناء تتش، وآسيا الصغرى تحت حكم أبناء سليمان بن قتلمش وتفككت وحدة الدولة عما كانت عليه في عهد السلاجقة العظام .
1-موعظة رهيبة بليغة يحضرها السلطان محمد بن ملكشاه :
في سنة 501ه من يوم الجمعة زار السلطان محمد بن ملك شاه السلجوقي مشهد الإمام أبي حنيفة، وكان معه الوزير أحمد نظام الملك، والبرسقي صاحب الشرطة ببغداد، وجماعة من الأمراء والأعيان، ثم أدى صلاة الجمعة، في جامع المهدي بالرصافة ، وقد خطب الجمعة الشيخ أبو سعد المعّمر بن علي، فكانت خطبته رهيبة وقد وجّه الكلام فيها إلى الوزير أحمد نظام الملك قال : الحمد لله ولي الأنعام، وصلى الله على من هو للأنبياء ختام، وعلى آله سٌرج الظلام، زينه الله بالتقوى، وختم أعماله بالحسنى وجمع له بين خير الآخرة والدنيا. معلوم يا صدر الإسلام أن آحاد الرعية من الأعيان، مخيَّرون في القاصد والوافد، إن شاؤوا وصلوه وإن شاءوا فصَلوه، فأمّا من توشحَّ بولائه، وشرشح لآلآئه، فليس مخيراً في القاصد والوافد، لأنّ من هو على الحقيقة أمير، فهو في الحقيقة أجير، قد باع نفسه وأخذ ثمنه، فلم يبق له من نهاره، ما يتصّرف فيه على اختياره، ولا له أن يصلي نفلاً، ولا يدخل معتكفاً دون التبتّل، لتدبيرهم، والنظر في أمورهم، لأن هذا فضل، وهذا فرض لازم وأنت يا صدر الإسلام، وإن كنت وزير الدولة، فأنت أجير الأمة استأجرك جلال الدولة بالأجرة الوافرة، لتنوب عنه في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا ففي مصالح المسلمين، وأما في الآخرة فلتجب عند ربّ العالمين، فإنه سيقفه بين يديه، ويقول له : ملكتك البلاد، وقلدّتك أزمّة العباد فما صنعت في إقامة البذل وإفاضة العدل ؟ فلعله يقول : يا رب اخترت من دولتي شجاعاً عاقلاً حازماً، وسمّيته قوام الدين نظام الملك، وها هو قائم في جملة الولاة وبسطت يده في السوط والسيف والقلم، ومكنتّه في الدينار والدرهم فأسله يا ربّ ماذا صنع في عبادك وبلادك ؟ أفتحسن أن تقول في الجواب : نعم تقلّدت أمور البلاد وملكت.
أزمّة العباد، ودنوت من تلقائك، اتخذت الأبواب والنّواب، والحجاب والحُجّاب، ليصّدوا عني القاصد، ويردّوا عني الوافد فاعُمر قبرك كما عمّرت قصرك، وانتهز الفرصة، ما دام الدهر يقبل أمرك، فلا تعتذر فما ثّم من يقبل عذرك. فهذا ملك الهند، وهو عابد صَنَم، ذهب سمعه، فدخل عليه أهل مملكته يعزّونه في سمعه فقال : ما حزني لذهاب هذه الجارحة من بدني ولكن لصوت مظلوم كيف لا أسمعه فأغيثه ! ثم قال إن كان ذهب سمعي، فما ذهب بصري، فليؤمر كل ذي ظلامه أن يلبس أحمر، حتى إذا رأيته عرفته وأنصفته، وأنت يا صدر الإسلام أحق بهذه المأثرة، وأولى بهذه المعدلة، وأحرى من أعّد جواباً لتلك المسألة، فإنّه الله الذي تكاد السموات يتفطرن منه، في موقف ما فيه إلا خاشع أو خاضع، أو مقنع ينخلع فيه القلب، ويحكم فيه الرب، ويعظم الكرب أو يشيب الصغير والكبير ويُعزَل الملك والوزير "يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكر " (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوءٍ تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيد ". وقد استحلبت لك الدعاء وخلّدت لك الثناء مع براءتي من التهمة، فليس لي في الأرض ضيعة ولا قرية ولا بيني وبين أحد خصومه، ولا بي بحمد الله فقر
ولا فاقة ، فلما سمع الوزير أحمد نظام الملك هذه الموعظة بكى بكاء شديداً، وأمر له بعد الصلاة بمائة دينار، فأبى أن يأخذها الخطيب. وقال : أنا في ضيافة أمير المؤمنين الخليفة، ومن يكون في ضيافة الخليفة يقبح أن يأخذ عطاء غيره. فقال له الوزير فضّها على الفقراء. فأجابه الشيخ الخطيب : الفقراء على بابك أكثر منهم على بابي، ولم يأخذ شيئاً ، وبعد انتهاء الصلاة، اجتمع الفقهاء وبحضرة السلطان محمد بن ملكشاه فقال لهم : هذا يوم قد انفردت فيه مع الله تعالى، فخلّوا بيني وبين المكان فصعدوا إلى أعاليه، فأمر غلمانه بغلق الأبواب وأن لا يمكنّوا الأمراء من الدخول إليه، وقام يصلى ويدعو ويخشع وأعطاهم خمسمائة دينار، وقال : اصرفوا هذه في مصالحكم وادعوا لي .
2-نصيحة الإمام الغزالي لمحمد بن ملكشاه :
عندما علم الإمام أبو حامد الغزالي أن السلطان محمد بن ملكشاه تولى الحكم، أرسل له كتاباً يخاطه فيه قائلاً : أعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان : طائفة غفلاء نظروا إلى مشاهد حال الدنيا، وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا، ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركون لأعاديهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله .
ولا شك أنها نصيحة غالية ودرس عظيم فقد نصح الإمام الغزالي محمد بن ملكشاه ونصحه بعدم الغفلة والاغترار بمناهج الدنيا ونسيان الآخرة والأعمال الصالحة التي تنفع صاحبها في آخرته ظنناً منه بامتداد العمر، موضحاً له أنه من العقل ألا يتجاهل الإنسان أن الأجل قريب وأنه لا بد أن يسرع بعمل الأعمال الصالحة ويؤدي ما عليه لله تعالى حتى يخرج من الدنيا كامل الإيمان، فالإنسان لن يأخذ معه إلى قبره إلا العمل الصالح، ثم ينصحه الإمام الغزالي نصيحة غير مباشرة يتفجر من كل حرف فيها الحث على جهاد الأعداء، فيخبره أن العقلاء يخططون ويدرسون ما الذي يتركون لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله، أي يجب أن يتخذوا جبال أعدائهم أعمالاً من شأنها أن تظل مؤثرة فيهم حتى بعد أن يموت هؤلاء العقلاء، وتظل آثار أعمالهم في ذاكرة أعدائهم، فكان لهذه النصيحة العظيمة رد فعل كبير عند السلطان محمد بن ملكشاه، فبمجرد أن انفرد بالسلطنة بدأ في بعث حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين سيأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله تعالى.
وقد جاءت روايات أخرى في نصيحة الإمام الغزالي ذكر فيها : ويجب أن تعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك، فينبغي للملك أن ينظر في أمور رعيته، ويقف عند قليلها وكثيرها وعظيمها وحقيرها، لا يشارك رعيته في الأفعال المذمومة، ويجب احترام الصالحين، وأن يثبت على الفعل الجميل، ويمنع من الفعل الرديء الوبيل، ويعاقب في ارتكاب القبيح، ولا يحابي من أصر على القبيح، ليرغَّب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات، ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهى المفسد عن فساده ويتركه عن مراده، أفسد سائر أموره في بلاده. وقال الحكماء : إن طباع الرعية نتيجة طباع الملك، لأن العوامّ إنما يبخلون، ويركبون الفساد، وتضيق أعينهم اقتداء منهم بملوكهم، فإنهم يتعلمون منهم، ويلزمون طباعهم، ألا ترى أنه قد ذُكر في التاريخ أن الوليد بن عبد الملك – من بني أمية – كان مصروف الهمة إلى العمارة والزراعة وكان سليمان بن عبد الملك همّته في كثرة الأكل وتطيب الطعام، وقضائه الأوطار، وبلوغ الشهوات ، وكانت همّة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة. قال محمد بن علي بن الفضيل : ما كنت أعلم أمور الرعية تجري على عادة ملوكها، حتى رأيت الناس في أيام الوليد بن عبد الملك قد اشتغلوا بعمارة الكُرم والبساتين، واهتموا ببناء الدور، وعمارة القصور ورأيتهم في زمان سليمان بن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب الطعام، حتى كان الرجل يسأله صاحبه : أيَّ لون اصطنعت، وما الذي أكلت ؟ ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة، وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات، وإعطاء الصدقات لتعلم أن في كل زمان تقتدي الرعية بالسلطان، ويعملون بأعماله، ويقتدون بأفعاله : من القبيح والجميل، واتباع الشهوات، وإدراك الكمالات، كما يقال .
وقد ذكر بعض المؤرخين أن كتاب الغزالي التبر المسبوك في نصيحة الملوك هو عبارة عن توجيهات للسلطان محمد بن ملكشاه الذي كان مستولياً في عهد المستظهر بالله العباسي، خاطب فيه الغزالي السلطان محمد وذكّره بنعم الله عليه وأهم تلك النعم نعمة الإيمان وبين له أن للإيمان عشرة أصول وعشرة فروع : أما أصول الإيمان فهي : أعلم أيها السلطان أنك مخلوق ولك خالق وهو خالق العالم وجميع، الكون : أعلم أن الباري تعالى ليس له صورة ولا مثل، إنه على كل شيء قدير، وأن علمه محيط بكل شيء، وأنه سميع بصير ويقول للشيء كن فيكون، وأمره تعالى على جميع الخلق، نافذ، وأن جميع ما في العالم مخلوق له تعالى وليس معه شريك، وبعد الموت حساب وسؤال وصراط وجنة ونار.
وجعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وأوصل نبوته إلى درجة الكمال وأمر الخلائق من الإنس والجن بطاعته ، وأما فروع شجرة الإيمان فهي : العدل والإنصاف، استماع نصيحة العلماء المخلصين، أن يحارب الظلم من أي جهة صدر، يبتعد عن الغضب ويميل إلى العفو والكرم والتجاوز، يرضى لنفسه ما يرضاه للمسلمين قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات، أن يبتعد عن الشهوات، الرفق واللطف خير من الشدة والعنف، كسب رضا الرعية ضمن موافقة الشرع، أن لا يطلب رضا أحد بمخالفة الشرع، ومن نصائحه أن يعرف لماذا وجد الإنسان في الدنيا، وأن يعرف مصيره، ثم يحذره من الجور والفساد، وأن يبتعد عن أعمال اللهو كلعب الشطرنج والنرد وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد لأن ذلك يمنعه من أمور الرعية وعلى السلطان أن يعين رعيته في أوقات الأزمات الاقتصادية، وأن يكون عالي الهمة، وأن يتخلى بالحكمة، وأن يستعمل عقله ثم ذكر شروط الوزير : أن يكون كاتباً، صالحاً عادلاً، وهو حاجة ملحة، كما يذكر شروط الكاتب ومنها : خفة الروح عالماً ببراية القلم وأن يعطى كل حرف حقه. كما يتعرض لخير النساء وهي الولود الخفيفة المهر، صاحبة الديانة والعفاف والستر ويبدو أن هذا السلطان كان يصغى لنصائح الغزالي وأخذ ببعضها لقد حرص على العدل والإحسان وتقريب أهل الدين والمعرفة.
2-محاربته للباطنية :
انتهزت الباطنية الإسماعيلية فرصة الاضطرابات التي حدثت بعد وفاة ملكشاه والصراع الذين وقع بين أبناء البيت السلجوقي، فسعوا إلى التمكين لأنفسهم عن طريق الاستيلاء على مزيد من القلاع والأماكن الحصينة والتسلل إلى بلاد السلاطين وإلى جيوشهم، وكان جيش بركيارق من الجيوش التي تزايد فيها نفوذهم، وانتشر فيه دعائهم ويبدو أن بركيارق لم يشأ أن يصطدم معهم بسبب إنشغاله في الصراعات الدائرة مع أهل بيته إلى أن اتهم بالميل إليهم، وتبين له خطرهم وأشار عليه أعوانه أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم، فأذن السلطان في قتلهم في عام 494ه فأخذوا من خيامهم، وأخرجوا إلى ميدان عام فقتلوا فيه : ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف ، ويذكر أبو الفرج بن الجوزي : أن القتلى بلغوا ثلاثمائة وسرعان ما تتبعهم أمراء الأقاليم فقد قتل " جاولي سقاوو " خلقاً كثيراً منهم بمنطقة " خوزستان " يقارب الثلاثمائة ، وأرسل بركيارق إلى الخليفة العباسي يشير عليه بتتبع الموجودين منهم في عاصمة الخلافة، فأمر بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك " ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب " . وطاردهم السلطان سنجر في نفس العام 494ه فقتلت عساكره منهم خلقاً كثيراً، وحاصروا قلعة " طبس " وخربوا سورها وأوشكت على السقوط، فلجأ الباطنية إلى رشوة قائد العسكر الأمير " بزعش " ومعه كثير من المتطاوعة إلى قلعة " طبس " مرة أخرى فخربها هي وما جاورها من القلاع والقرى، وأكثر فيهم القتل والنهب والسبي، ومع ذلك فإن أصحاب سنجر أشاروا عليه بأن يؤمنهم مقابل ألا يبنوا حصناً ولا يشتروا سلاحاً، ولا يدعوا أحداً إلى مذهبهم .
وقد أثار هذا الصلح سخط كثير من الناس على سنجر، بسبب ما وقع عليهم من أذى بأيدي هذه الفئة، ولعلهم أيضاً بأنهم لم يحترموا هذا الأمان ولا هذا الصلح، وهذا ما حدث بالفعل، ففي عام 498ه خرج جمع كبير منهم من قلعة " طريثيت " قرب مدينة بيهق وأغاروا على النواحي المجاورة لهم، وأكثروا من القتل ونهب الأموال، وسبي النساء " ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة ، وكان عام 498ه هو نهاية المرحلة التي قاوم السلاجقة فيها نفوذ الباطنية مقاومة فيها الكثير من الحذر بسبب الخلاف الذي كان محتدماً بين أفراد البيت السلجوقي، واستغلال الباطنية هذا الخلاف في التسلل إلى المراكز الهامة في بلاط السلاطين وليس أدل على وجود هذا النفوذ من موقف قائد سنجر عندما قبل رشوتهم في عام 494ه ورحل عنهم بعد أن أوشكت قلعتهم على السقوط، ثم عندما عقد معهم سنجر معاهدة الأمان في عام 497ه، بعد أن أنزل بهم عساكره خسائر فادحة، إن هذا التهاون معهم في هاتين الحادثتين رغم النصر الذي حققته عساكر سنجر عليهم فيه دليل على تغلغل نفوذهم داخل بلاط السلاطين، أو على الأقل فيه دليل على تخوف السلاطين وحذرهم منهم وقد كان لهذه المقاومة الحذرة ردود فعل من جانب الباطنية بدءوها باغتيال نظام الملك عندما أرسل عسكراً قاموا بحصار الحسن بن الصباح إثر استيلائه على " الموت " في عام 483ه ، وفي عام 490ه قتلوا " أرغش النظامي" مملوك نظام الملك بمدينة الري، كما قتلوا في العام ذاته الأمير " برسق " من كبار قواد طغرلبك، وأول من تولى شِحنه بغداد وفي عام 495ه على باب أصفهان، وفي عام 498ه خرجوا على قافلة الحجاج القادمة مما وراء النهر وخراسان عند مدينة الري فقتلوا من فيها، وغنموا أموالهم ودوابهم، كما قتلوا في نفس العام شيخ الشافعية بمدينة " الري " الفقيه أبا جعفر المشاط
?مرحلة أخرى في محاربة الباطنية : نبهت هذه الجرائم – وأمثالها – التي ارتكبها الباطنية سلاطين السلاجقة إلى أنه لابد من مقاومة جدية لهذه الطائفة وإلا استشرى خطرها، وعم ضررها وهددت أمن الدولة ونظامها، وتميزت هذه المرحلة بأنه قد بدا فيها واضحاً حرص السلطان محمد – الذي استقرت له الأمور بعد وفاة أخيه بركيارق في عام 498ه على استئصال هذا الداء، ولم يكن هذا الهدف واضحاً في المرحلة السابقة التي كانت تستهدف – فقط – الحد من خطرهم، وسنركز على عملين كبيرين – كنموذج – قام بهما السلطان محمد في مجال محاولة القضاء على هذه الفئة.
أ-إسقاطه لقلعة أصبهان "شاه دز " وقتل الزعيم الكبير ابن عطاش الذي كان متحصناً.
ب-حصاره لقلعة الموت مدة تزيد على ست سنوات بدأ السلطان محمد حصاره لقلعة أصبهان في عام 500ه بعد أن استفحل بها أمر الداعي أحمد بن عطاش : فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق وأخذ الأموال، وقتل من قدروا على قتله، .. وجعلوا له على القرى السلطانية، وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذي، فلما صفت السلطنة لمحمد ولم يبق له منازع لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم، فرأى البداية بقلعة أصبهان لأن الأذى بها أكثر، وهي متسلطة على سرير ملكه فخرج بنفسه فحاصرهم .
ولأول مرة نرى سلطاناً سلجوقياً يخرج بنفسه لقتال الباطنية، وقد تمكن من الاستيلاء على هذه القلعة في ذي القعدة من عام 500ه بعد حصار دام حوالي ثلاثة شهور، ووقع ابن عطاش أسيراً هو وابنه فقتلا، وحمل رأساهما إلى بغداد ، لم يحصل السلطان محمد على هذا النصر في أول لقاء مباشر بينه وبين هذه الطائفة بثمن بخس، وإنما واجه كثيراً من المواقف الحرجة التي صمد أمامها حتى تحقق هدفه ومن ذلك أنه لما عزم على حربهم في رجب من عام 498ه استخدم المشايعون لهم في عسكره حرب الشائعات، ليصرفوه عن غايته، فأذاعوا أن قلج أرسلان " سلطان سلاجقة الروم، قد ورد بغداد وملكها، وافتعلوا في ذلك مكاتبات ثم أظهروا أن خللاً حدث بخراسان، وكان هدفهم من ذلك كله إبعاد السلطان عن أصفهان حتى لا يتحقق الهدف الذي يسعى إليه، لكن السلطان توقف حتى تحقق من بطلان الشائعات فانصرف لغايته .
-محاولة الباطنية الإسماعلية هدم شرعية قتالهم : عندما شدد السلطان محمد بن ملكشاه الحصار عليهم لجأ الباطنية إلى الخداع، فكتبوا إلى الفقهاء السنيين يطلبون فتواهم في قوم يؤمنون بالله ورسوله، ولكن يخالفون الإمام هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم، وأن يقبل طاعتهم، ويحرسهم من كل أذى وكادت اللعبة تنجح بعد أن أفتى أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقف البعض عن الفتوى، فجمع السلطان الفقهاء للمناظرة، فانتصر رأي الفقيه الشافعي : أبي الحسن على بن عبد الرحمن السمنجاني الذي أفتى بإباحة دمائهم نظراً لرأيهم في الإمام الذي يستطيع أن يحّرم عليهم ما أحل الله، ويحل لهم ما حرم الله، وتكون طاعته في هذه الحالة – حسب اعتقادهم فيه – واجبة .
كان هدف الباطنية من هذه الخطوة أن يهدموا شرعية قتِالهم، حتى يضعف السلطان وينصرف الجند والناس عنه ما دام يقاتل قوماً مؤمنين، ولما لم تفلح هذه الخطة لجاءوا إلى المطاولة وكسب الوقت، فطلبوا من السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم، فصعد إليهم بعض العلماء، ثم عادوا بغير طائل، وأخيراً طلبوا أن يؤمنوا ويتركوا القلعة مقابل أن يوصلهم السلطان إلى بعض قلاعهم الأخرى على دفعات، فإذا عاد إليهم من أخبرهم بوصول الدفعة الأولى إلى القلاع سالمين، نزل ابن عطاش ومن بقي معه ليوصلهم السلطان إلى الحسن الصباح في " ألموت "، ووافق السطلان محمد على ذلك، ووصل الفوج الأول إلى القلاع التي عينوها، فلما تأكد ابن عطاش أن أتباعه وصلوا سالمين نقض عهده، واستمر في العناد إلى أن انتهت مقاومته وسقط أسيراً .
وكان هذا النصر الذي حققه السلطان محمد على أحمد بن عبد الملك بن عطاش في أصفهان دافعاً إلى ملاحقة الباطنية، وخاصة في عاصمتهم " آلموت" ففي عام 503 ه، أرسل وزيره : أحمد بن نظام الملك فحاصر هذه القلعة لكنه اضطر للرحيل عنها عند حلول الشتاء، وحاول الباطنية الانتقام من هذا الوزير في نفس العام فطعنوه بالسكاكين في أحد مساجد بغداد إلا أن الطعنات لم تكن قاتلة فبرئت جراحه .
3-الاستمرار في محاربة الباطنية : وكرر السلطان المحاولة في عام 505ه وندب لقتال الحسن أحد الأمراء واسمه : أنوشتكين شيركبر، فملك من الباطنية عدة قلاع ولكنه وقع في الخطأ الذي وقع فيه سلطانه قبل ذلك، فأمن من كانوا في هذه القلاع، وسيرهم إلى الموت ثم سار هو بعد ذلك بحصارها بعد أن ازدادت قوة ومنعة باطنية القلعة بمن توجه إليها من الباطنية وأمده السلطان بعدد من الأمراء وانعقد عزمهم على إسقاط هذه القلعة مهما كلفهم من جهد، فبنوا المساكن حولها، وعين لكل طائفة من الأمراء – بالتناوب – أشهراً يقيمون فيها لحصارها، على أن يقيم القائد العام " أنوشتكين " إقامة دائمة ولم يتوقف السلطان في هذه الظروف عن إمدادهم بالمؤن والذخائر والرجال حتى اشتد الأمر على الباطنية، وعدمت عندهم المؤن بسبب طول الحصار، ولم يجدوا بدا من إنزال نسائهم يطلبن الأمان لهم، على أن يسلموا القلعة ويوسع لهم كي يمضوا إلى أي طريق شاءوا، ولكن أنوشتكين أدرك الأخطار التي ترتبت على منحهم الأمان في الماضي، وكان من أبرز هذه الأخطار أن هذه القلعة " الموت " أضحت أكبر مركز لتجمعاتهم بعد أن وفد عليها الكثيرون من القلاع الأخرى التي سقطت قبل ذلك، لهذا رفض أن يمنحهم الأمان، وأعاد النساء إلى القلعة قصدا كي يموت الجميع جوعاً، لكن ما أمله هذا القائد لم يتحقق بسبب وفاة السلطان محمد في عام 511ه وإصرار الأمراء والجند على الرحيل بعد سماعهم هذا النبأ. وذلك بعد أن استمر حصار القلعة ما يقرب من ست سنوات وبعد أن كان سقوطها وشيك الوقوع، ولم يبق أمام القلعة بعد وفاة السلطان غير أنوشتكين، فانتعشت آمال الباطنية، وقويت نفوسهم واضطر هذا القائد إلى الانسحاب بجنده فغنم الباطنية ما تخلف منهم .
وبوفاة السلطان محمد توقف تنفيذ مشروعاته للقضاء على هذه الفئة ووجد الباطنية فرصة مجددة لتقوية أنفسهم مستفيدين من الصراع على السلطة الذي أعقب وفاة السلطان محمد بين ولده محمود وعمه السلطان سنجر، وخلال الخمس عشرة سنة التي أعقبت وفاته استطاعوا بوسائلهم المتعددة أن يمدوا نفوذهم إلى بلاد الشام، وأن يستولوا فيها على بعض القلاع والحصون .
4-وفاة السلطان محمد بن سنجر : توفي سنة 511ه :كان السلطان محمد فحل آل سلجوق وله بر في الجملة وحسن سيرة مشوبة، فمن عدله أنه أبطل ببغداد المّكْسَ والضرائب ومنع من استخدام يهودي أو نصراني، وكسا في نهار أربع مائة فقير، وقد كان كفَّ مماليكه عن الظلم، ودخل يوماً إلى قُبة أبي حنيفة، وأغلق على نفسه يُصلي ويدعو، وقيل : إنه خلَّف من الذهب العين أحد عشر ألف ألف دينار ومات معه في العام صاحب قسطنطينية، وصاحب القُدس بغدوين لعنهما الله ، قال أحمد القرماني : .. ثم مرض زماناً طويلاً فقيل له : مرضك سحري، وإنما سحرتك زوجتك، فأعضل داؤك وأبطل دواؤك ! وحملوا السلطان إلى أن كحَّلها وحبسها في بيت ضيق، واعتقلها، وأخرجوا خاتم السلطان وقالوا إنه أمر بخنقها، ومن عجيب القدر أن الزوجين توفيا في ساعة واحدة، فالختون في بيتها خنقت، والسلطان على فراشه نفسه زهقت في أواخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة وخلف خمس بنين، وهم محمود، ومسعود، وطغرل، وسليمان وسلجق ، وكلهم تولوا السلطنة سوى سلجق، ولما آيس السلطان نفسه أحضر ولده محموداً وبكى كل منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على سرير الملك، وينظر في أمور الناس، فقال له ولده : فإن هذا اليوم غير مبارك : فقال : صدقت ، ولكن على أبيك، وأما عليك، فمبارك، فامتثل أمره وجلس على سرير الملك أبو القاسم محمود بن محمد بن ملكشاه مكان والده وأحكم قواعده، وهو يومئذ في سن الحلم قويّ المعرفة باللغة العربية ، مات السلطان محمد بن ملكشاه في آخر سنة إحدى عشرة وخمس مائة بأصبهان، ودفن بمدرسة كبيرة له، وقد تزوج المقتفي بابنته فاطمة، وعاش ثمانياً وثلاثين سنة .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق