188
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثالث سياسة نور الدين الخارجية
المبحث الثالث : العلاقات مع القوى الإسلامية في بلاد الشام والجزيرة الأناضول :
ثانياً : ضم الموصل :
انتهت بوفاة قطب الدين مودود في شهر ذي الحجة عام 565ه/ شهر آب عام 1170م مرحلة مهمة من مراحل التعاون بين إمارتي الموصل وحلب. فقد كان قطب الدين مودود حسن الاتفاق مع أخيه، وعلى تفاهم معه، كثير المساعدة له، والإنجاد بنفسه وعسكره وأمواله، حضرمعه المصاف بحارم وفتحها، وفتح بانياس وكان يخطب له في بلاده باختياره من غير خوف ( ) ، وأوصى قطب الدين مودود بالملك من بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي، إلا أن نائبه فخر الدين عبد المسيح استطاع، بالاتفاق مع زوجته الخاتون أن يحول دون توليته، وأخذ العهد لولدها سيف الدين غازي الثاني ( ) ، ويبدو أن النائب خشي من تأثير نور الدين محمود على ابن أخيه عماد الدين زنكي نظراً لطول إقامته عنده وزواجه من ابنته. وكان نور الدين محمود يكرهه : لظلم كان فيه ويلوم أخاه قطب الدين مودوداً على توليته الأمور ( ). وفعلاً استقر الأمر لسيف الدين غازي الثاني، وأضحى فخر الدين عبد المسيح المتصرف في أمور البلاد، وليس للأتابك من الأمر إلا الاسم ( ) . أدَّت التغييرات التي شهدتها دولة الموصل، بعد وفاة قطب الدين مودود، وردة الفعل المناهضة لها من قبل نور الدين محمود إلى ما يلي :
- خضوعها لنفوذ نور الدين محمود المباشر.
- تقلص رقعتها بسبب إقتطاع بعض أجزائها.
والواقع أن نور الدين محمود أِنف من ازدياد نفوذ عبد المسيح وتحكمُّه بأمور الموصل على حساب ابن أخيه سيف الدين غازي الثاني الذي نازع أخاه الأكبر على الحكم، وشقَّ عليه إبعاد عماد الدين زنكي عن خلافة والده وقال : أنا أولى بتدبير بني أخي وملكهم ( ) .
لذلك قَّرر التوجه إلى الموصل لتسوية المشكلة وفقاً لمصلحته وأرسل إلى الخليفة العباسي الحسن أبي محمد المستضيء بأمر الله (566ه - 575ه/1170 - 1180) يشرح له الهدف من هذا التوجه مؤكداً شرعيته وقال : إني قصدت بيتي وبيت والدي، فأنا كبيره ووارثه وأوصى رسوله إليه بأن يأخذ له إذناً في ذلك، وأنه ممتثل لما يرد عليه ( ) منه.
وعبر نور الدين محمود الفرات عند قلعة جَعْبَر في شهر محرم عام 566ه/شهر أيلول عام 1170م قاصداً الرقة، وكانت من أملاك أخيه سيف الدين غازي الأول، فأذعن نائبها له، وسلمه إياها ( ) . ثم تابع زحفه نحو الموصل، فانتزع الخابور كله، وأخذ نصيبين، فأقام بها يحشد العساكر من الأطراف، وانضمَّ إليه نور الدين محمد بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب حصن كيفا، ثم توجه إلى سنجار، وبها حامية من الموصل، فحاصرها، وأقام المجانيق عليها. ووفد عليه أثناء الحصار، عدد من أمراء الموصل يستحثونه على القدوم عليه حتى سقطت في يده، فأعطاها إلى ابن أخيه عماد الدين زنكي الذي كان يرافقه في هذه الحملة، ووصلت إليه أثناء الحصار خلعة الخليفة والإذن له بدخول الموصل والجزيرة وتابع نور الدين محمود زحفه باتجاه الموصل، فوصل إلى بلده وعبر دجلة إلى الجانب الشرقي، ألقى نفسه عند حصن نينوى شرقي الموصل بحيث أضحى لا يفصله عنها سوى النهر. وحتى يبَّرر تقدمه، أرسل إلى ابن أخيه سيف الدين غازي الثاني يوضَّح له أن الهدف من حملته، حفظ المدينة، وإبعاد فخر الدين عبد المسيح عن ولاية المسلمين بوصفه نصرانياً، بالإضافة إلى أن تصرفاته الخشنة، نفَّرت منه الأمراء ( ).
والواقع أن عبد المسيح كان عاجزاً عن الوقوف في وجه نور الدين محمود، كما أنه وقف على مؤامرة دبَّرها أمراء الموصل ضده لإبعاده عن الحكم، وتسليمه الموصل، فأراد تقوية موقفه، فاستنجد بالأتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب بلاد الجبل، وأذربيجان، الذي أرسل بدوره رسولا إلى نور الدين محمود، وكان حينئذ بسنجار، ينهاه عن التعرض للموصل، لكن نور الدين محمود أهمل الرسالة وقال
للرسول : قل لصاحبك، أنا أرفق ببني أخي منك، فلم تُدخل نفسك بيننا ؟ ثم هّدده بالزحف على بلاده وانتزاعها منه لأنه أهمل حفظ البلد من تعديات الكرج ( ) ، واضطر عبد المسيح أخيراً للجنوح إلى السلم واشترط على نور الدين محمود أن :
تبقى الموصل بيد سيف الدين غازي الثاني.
يعطيه لنفسه وأهله.
يمنحه إقطاعاً .
وقد استجاب نور الدين محمود لطلب الصلح، إلا أنه أصّر على خروج عبد المسيح من الموصل، ومرافقته إلى البلاد الشام ( ) ودخل صاحب حلب الموصل في شهر جمادي الأولى عام 566ه شهر كانون الثاني عام 1171م من باب السر ( ) ، واتخذ عدة إجراءات تنفيذية لترتيب أوضاعها منها :
أقرَّ سيف الدين غازي الثاني على الموصل وجزيرة ابن عمر.
ولىَّ مملوكه سعد الدين كمشتكين نائباً عنه في القلعة.
أمر سيف الدين غازي الثاني بالعودة إليه في تدبير الأمور.
أهدى ابن أخيه خلعة الخليفة المستضيء وألبسه إياها وزوّجه ابنته.
أبطل المكوس من البلاد.
أمر ببناء الجامع النوري.
انتزع حّران ونصيبين والخابور والمجدل، من إمارة الموصل، وأقطعها لأمراء عسكره، ثم عاد إلى بلاد
الشام مصطحباً معه فخر الدين عبد المسيح وغيَّر له اسمه، وسمّاه عبد الله، وأقطعه إقطاعاً كبيراً ( )
غيَّرت هذه الترتيبات الإدارية التي نفّذها نور الدين محمود، في الوضع الجغرافي لدولة الموصل كما
تراجع نفوذها القيادي بعد أن خسرت سنجار لصالح عماد الدين زنكي، ونصيبين والخابور اللذين تولاهما نور الدين محمد بن قرأ أرسلان الأرتقي، فخضعت خضوعاً تاماً لنور الدين محمود، وأضحى سيف الدين غازي الثاني مجرد حاكم تابع له، يعمل تحت إشراف نائبه كمشتكين صاحب السلطة الفعلية. وتدليلاً على هيمنته على الإمارة فقد أُعلنِت الخطبة في جميع مساجد الموصل وأعمالها لنور الدين محمود وضربت السكة باسمه ( ) ، وأرسل نور الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري إلى الخليفة المستضيء بأمر الله يطلب تقليده ما بيده من بلاد مصر والشام والجزيرة والموصل، والبلاد التي دخلت في طاعته في دياربكر وخلاط وبلاد قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم، فوافق الخليفة على ذلك وأرسل له التقليد بحكم هذه البلاد جميعها ( ) ، وحرص نور الدين محمود على أن تسود العلاقات الطيبة بينه وبين ابن أخيه في الموصل. ففي عام 569ه/1173م أرسل إليه هدية نفيسة هي عبارة عن تحف نادرة كان صلاح الدين الأيوبي قد انتخبها من خزائن القصر الفاطمي، بالإضافة إلى هدايا أخرى تشتمل على منسوجات وعود وعنبر ( ) .
حين دخل نور الدين الموصل خرج إليه ابن أخيه، فوقف بين يديه، فأكرمه وأحسن إليه، وألبسِه خِلعة جاءته من الخليفة، فدخل بها إلى البلد في أبهة عظيمة، ولم يدخل نور الدين الموصل حتى قوِي الشتاء، فأقام بها، أربعة وعشرين يوماً، فلما كانت آخرُ ليلة أقام بها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له : طابت لك بلدُكَ وتركت الجهاد وقتال أعداء الله. فنهض من فوره إلى السَّفر، وما أصبح إلا وهو سائر إلى الشام واستقضى الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون، وكان معه على سنجار ونصيبين والخابور، فاستناب بها ابنُ أبي عصرون نوّابا وأصحابا ( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق