178
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثالث سياسة نور الدين الخارجية
المبحث الثاني:تصدي نور الدين محمود للحملة الصليبية الثانية وسياسته في ضم دمشق:
ثانياً:الحملة الصليبية الثانية:
كان لسقوط الرها في أيدي المسلمين ردة فعل عنيفة في الغرب الأوروبي وباعثاً على السرعة في إرسال حملة صليبية جديدة، بعد أن أثار سقوطها الرعب في النفوس، لا بسبب المكانة الدينية التي تتمتع بها هذه المدينة في تاريخ النصرانية فحسب، بل لأنها كانت أيضاً، أول إمارة أسسها الصليبيون في الشرق الأدنى، فجاء سقوطها إيذانا بتزعز البناء الكبير الذي شيده الصليبيون في الحملة الصليبية الأولى في الشرق الأدنى، وأدرك الغرب الأوروبي أنه إذا لم يسارع إلى ترميم ذلك البناء فإنه لن يلبث أن ينهار ( ) وكانت نداءات الاستغاثة قد وصلت إلى البابا يوجنيوس الثالث من فرنج الشرق، فقد بعثت ملكة بيت المقدس بوفد رفيع المستوى إلى البابا لطلب النجدة بعد سقوط الرها ( ) وأرسل البابا رسلاً إلى إمبراطور ألمانيا وملك فرنسا يحثهما على الإسراع لنجدة فرنج الشرق من خطر المسلمين، وفي الوقت كلف أحد رجال الدين المشهورين في فرنسا اسمه برنارد بالدعوة للحرب ضد المسلمين في الشرق، فقام هذا القس بالدور الذي قام به البابا أوربان الثاني عام 490ه/1095م أثناء الدعوة للحملة الفرنجية الأولى ( )، لبى الإمبراطور كونراد الثالث ولويس السابع ملك فرنسا، دعوة البابا وخرجا كل بجيشه عبر أوروبا باتجاه القسطنطينية ومن هناك عبرا مضيق البوسفور إلى آسيا الصغرى ( ).
1- السلاجقة في آسيا الصغرى يقضون على الجيش الألماني :
كان الجيش الألماني يتقدم الجيش الفرنسي عدة أيام وعندما بلغ منطقة دوريليوم شرق مدينة نيقيه نفس الموقع الذي انتصر فيه فرنج الحملة الأولى على السلاجقة بقيادة قلج أرسلان قبل خمسين عاماً، وقع الجيش الألماني في قبضة جيش السلطان مسعود أمير سلاجقة الروم في آسيا، فقد تراجع السلطان مسعود وفق خطة عسكرية ذكية حتى واصل الجيش الألماني تقدمه إلى قلب فريجيا، وكان السلطان مسعود قد نشر قواته على قمم الجبال المحيطة بهم ولما وصل الجنود الألمان إلى نهر باتيس قرب دوريليوم داهمهم الجيش السلجوقي، وكان قد استبد بهم التعب والظمأ فاختلت قيادتهم، وحاولوا الاحتماء في شعاب الجبال، لكن السلاجقة أحاطوا بهم وأمطروهم وابلاً من السهام، وفقد الجنود الألمان ميزة استعمال السهام لإبعاد الأتراك في حين افتقرت خيالتهم إلى العلف، عندئذ قرَّر كونراد الثالث الإنسحاب والعودة من حيث أتى، لكن السلاجقة لم يتركوه وشأنه فهاجموا مؤخرة جيشه ومقدمته وقلبه، فدبَّت الفوضى في صفوفه وتعَّرض أفراده لأفدح الخسائر بين قتل وأسر والواقع أن القتال لم يكن سوى مذبحة مروعة، قتل فيها تسعة أعشار الجيش، وأصيب كونراد الثالث نفسه بجرحين أحدهما في رأسه ( ) ، حاول كونراد الثالث، عبثاً جمع شتات جيشه إلا أنه ترك ساحة المعركة عند المساء ممعناً في الفرار مع من تبقىَّ من رجاله، وقليل ماهم، عائدين إلى نيقية، في حين غنم السلاجقة كميات لا حصر لها من الغنائم ( ) ، فقد غنموا كل ما في معسكرهم من مواد وخيول وأسروا أعداداً كبيرة منهم، ظلت الغنائم تباع في أسواق المدن الإسلامية عدة شهور ( ) وبهذه الهزيمة الساحقة يمكننا التأكيد بأن الجيش الألماني قد فشل في تحقيق الغاية التي أتى من أجلها إلى الشرق، مما سيكون له أثر سيء على الحملة الصليبية الثانية ( ).
2- سلاجقة الروم يعرقلون تقدم الجيش الفرنسي :
خرج الجيش الفرنسي بقيادة الملك لويس السابع متأخراً عن الجيش الألماني وكانت القوات الفرنسية مساوية في العدد تقريباً للجيش الألماني إنما كان أكثر تنظيماً واصطحب لويس السابع معه زوجته إليانور ( ) وفي الوقت الذي كان يجري فيه القتال بين السلاجقة والقوات الألمانية، عبرت القوات الفرنسية البوسفور إلى آسيا الصغرى، ووصلت إلى نيقية، وعلم الملك الفرنسي بهزيمة الأمبراطور الألماني، فأسرع لمواساته ومساعدته ( ) وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتَّخذها الملك الفرنسي فقد فأجاه السلطان السلجوقي مسعود في مدينة ديكيرفيوم قرب أنطاكية وراح يناوئ الصليبيين حتى بلغ الجسر المقام على النهر ونشبت في هذا المكان رحى معركة قاسية استطاع الصليبيون خلالها شق طريق لهم على الجسر. عند ذاك تراجع مسعود إلى داخل أسوار المدينة، وتمكَّن الصليبيون بعدهما من متابعة طريقهم، ولم يغامر مسعود بالهبوط إلى السهل لمطاردتهم، إلا أن القبائل التركمانية البدوية الضاربة في المناطق الحدودية، تصَّدت لهم وأمطرتهم وابلاً من السهام، كما طاردتهم وتخطَّفت بالقتل جنود المؤخرة والشاردين والمرض، ولم ينُجِ الجيش الصليبي من الفناء الشامل سوى هبوط الظلام حيث انسحب التركمان ( ) ولم يصل الجيش الفرنسي إلى أنطاكية إلا بعد أن تكبد خسائر هائلة، وبعد أن شفى الأمبراطور الألماني من مرضه أكمل رحلته إلى فلسطين بحراً على سفن الأسطول البيزنطي ( ) ، والتقى الإمبراطور الألماني والملك الفرنسي في القدس مع الملك بلدوين الثالث ملك القدس وأمه مليزاند وكبار القادة ورجال الدين في مملكة القدس، وبحث الجميع موضوع الهدف الذي ستتوجه الحملة لاحتلاله وقرروا أن يكون هدفهم الأول دمشق ( ).
3- الهجوم الصليبي على دمشق :
توجهت الجيوش الفرنجية المتحالفة نحو دمشق التي كان يحكمها آنذاك معين الدين أنر أتابك الملك مجير الدين أبق بن محمد بن بوري، الذي كان أكثر الأمراء المسلمين قرباً من الفرنج وتعاونا معهم ( ) ، ولذلك لم يكن يتوقع أن يكون الضحية الأولى لهذه الجيوش الفرنجية الضخمة، لكنه لم علم بنوايا الفرنجة ومسيرهم نحو دمشق اتخذ جميع الإجراءات اللازمة للدفاع عن المدينة وأرسل يسأل المساعدة من نور الدين محمود وسيف الدين غازي ( ) ، كان من عادة نور الدين محمود تحليل الأوضاع الدولية والإقليمية ومتابعة الأحداث الجارية - وتحليها بعمق ثم - ويخرج بالدروس والعبر التي تفيده في تقرير سياسته المستقبلة وقد شكلت الحملة الصليبية الثانية الحدث الأكبر في المنطقة والعالم كله عام 543ه/1148م وكانت بالنسبة لنور الدين محمود الحدث الأول من نوعه بعد توليه الحكم عام 541ه/1146م والذي يمارس عليه سياسته المذكورة، فقد كان نور الدين يتوقع أن تكون إمارته (حلب) الهدف الأول لهذه الحملة، لأنها تشكلت وتوجهت للشرق على خلفية سقوط مدينة الرها عاصمة إمارة الرها الفرنجية عام 539ه/1144م، على يد عماد الدين ولكن الذي حصل أن الحملة غيَّرت هدفها المتوقع وتوجهت إلى دمشق وحاصرتها محاولة احتلالها، وكان هذا التغيير مفاجأة كبيرة لنور الدين، ومفاجأة أكبر لمجير الدين آبق حاكم دمشق وأتابكه معين الدين أنر المدبر الحقيقي لشؤون إمارة دمشق، كانت مفاجأة نور الدين معروفة الأسباب أما مفاجأة حكام إمارة دمشق فلأنهم كانوا أصدقاء الفرنجة الوحيدين من المسلمين في المنطقة وجرى بين الطرفين تعاون وثيق ضد عماد الدين زنكي عندما كان يحاول الاستيلاء على دمشق، ولم يكن متوقعاً من الفرنجة مهاجمة أصدقائهم في دمشق وترك عدوهم الأول في حلب، ولكن نور الدين محمود استفاد من هذا التغيير المفاجئ في هدف الحملة التي لم يحصل ارتجالاً ولم يكن حماقة كما يذكر بعض المؤرخين ( ) بل جاء بعد دراسة وتحليل للأوضاع في المنطقة قام بها قادة الحملة في اجتماعات مكثفة اشترك بها ملك بيت المقدس وقادته في مدينة عكا قبل الهجوم على دمشق ( ) .
لقد تأكد لنور الدين محمود المغزى الحقيقي لغزو الفرنجة السابق في الحملة الأولى والحالي في الحملة الثانية والذي لا يمت بصلة إلى استرجاع قبر المسيح عليه السلام من المسلمين وتأمين طريق الحج إلى القدس على طوال الساحل شمالاً إلى القسطنطينية، كما كان يزعم زعماء الدين المسيحي الذين خططوا لهذه الحروب كما أن الهدف الحقيقي للحملة الفرنجية الثانية أبعد ما يكون عن الانتقام لسقوط الرها لأن الحملة توجهت إلى دمشق حليف الفرنجة في المنطقة ولم تتوجه إلى حلب أو الرها حيث يوجد من يتوجب الانتقام منه، فقد أدرك نور الدين محمود أن هدف الفرنجة الحقيقي هو احتلال المشرق الإسلامي والسيطرة عليه كما كانت الإمبراطورية الرومانية تسيطر عليه قبل الإسلام وأنهم لا يميزَّون في عملهم لتحقيق هذا الهدف بين إمارات ودول المسلمين فالحليف المتعاون معهم سواء عندهم مع المقاوم لسيطرتهم وتوسعهم، المجاهد لتحرير البلاد من احتلالهم، فهم يقصدون احتلال بلاد الجميع والسيطرة على الجميع، وعلى هذا الأساس فإنه من الأفضل لهم البدء بدمشق التي تعتبر قلب بلاد الشام وأكثر الإمارات الإسلامية فيها مساحة وموارد ولكونها الأضعف عسكرياً، ثم يتم بعد ذلك التحول إلى حلب والرها والموصل وغيرها، فالأمر إذن حرب شاملة لن يسلم منها المراقب عن بعد ظناً منه أن الخطر بعيد عنه، فدوره قادم ولو بعد حين، وإذا كان الأمر كذلك فإن نور الدين بما اشتهر به من سياسة بعيدة النظر، لابد أن يخوض هذه الحرب من بدايتها فدمشق بالنسبة له، كحلب تماماً وهي في الوضع الراهن تشكل الخط الأول للدفاع عن حلب والموصل وباقي بلاد المسلمين ولذلك نراه يحشد جيشه إلى جانب جيش أخيه سيف الدين غازي أمير الموصل بالقرب من حمص وبعلبك لإجراء التنسيق اللازم مع حكام دمشق حول العمل المشترك لمواجهة الغزو الأجنبي، وكان لهذا الحشد الأثر الرئيسي في فشل الهجوم الصليبي على دمشق وقد خرج نور الدين محمود من هذا الحدث الكبير بدروس مهمة تؤكد قناعاته وتوجهاته السابقة. من هذه الدروس : الأهمية القصوى للوحدة بين الإمارات الإسلامية لمواجهة الخطر الفرنجي وتحرير البلاد من احتلالهم، ثم الأهمية الاستراتيجية لإمارة دمشق في المواجهة مع الفرنجة، وضرورة الاستيلاء عليها بأي ثمن، ومنها وضع التدخل الأوروبي في الصراع مع الإمارات الفرنجية في الاعتبار ( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق