179
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثالث سياسة نور الدين الخارجية
المبحث الثاني:تصدي نور الدين محمود للحملة الصليبية الثانية وسياسته في ضم دمشق:
ثانياً:الحملة الصليبية الثانية:
4- موقف رجال الدين المسيحي من الحملة الصليبية الثانية :
أما عن موقف رجال الدين المسيحي من خروج الحملة الصليبية الثانية إلى الشرق، فإنه لم يكد نبأ سقوط الرها - في يد عماد الدين زنكي سنة 539ه/1144م يتردد في عواصم غرب أوروبا حتى أثار مخاوفاً وقلقاً شديدين، وأدرك الصليبيون أن ذلك يمثل بداية النهاية لبقية الإمارات الصليبية في الأراضي المقدسة تحتاج مراجعة بالمسؤولين عن إمارة أنطاكية، واستقر الرأي على إرسال وفد إلى البابا يوجنيوس الثالث 540ه - 548ه/1145 - 1153م) ليدعو إلى حملة صليبية جديدة فقامت بالفعل في أوروبا حركة كبيرة تدعو بكل حماس إلى سرعة القيام بهذه الحملة لإعادة إمارة الرها إلى المسيحيين وبادر البابا يوجنيوس الثالث بدعوة لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث امبراطور ألمانيا ليتزعما تلك الحملة. وقد رحب لويس السابع بطلب البابا، ودعا أتباعه للاجتماع به للنظر فيما يتخذ من الترتيبات ولما لم يبد هؤلاء أي حماس للاشتراك في هذه الحملة، قرر الملك لويس السابع تأجيل تنفيذ دعوة البابا لمدة ثلاثة شهور، ولجأ إلى أحد أعلام الدين المسيحي في مملكته، وهو القديس برنارد - رئيس دير كليرفو الذي كان يتمتع بشهرة كبيرة ويفوق الملك في السلطة على حد تعبير المؤرخ الإنجليزي رانسيمان، فقد كان له قدرة عظيمة على الإقناع والتأثير في الناس، ولم يكد الملك لويس السابع والبابا ييوجينيوس يطلبان منه القيام بالدعوة للحملة الصليبية حتى أسرع القديس برنارد لتلبية هذا الطلب والعمل بكل قواه من أجل إنجاح هذا المسعى ( ) ، وكما وقف الباب أوربان الثاني في كليرمونت يدعو للحملة الصليبية الأولى قبل ذلك بخمسين سنة وقف القديس برنارد خارج كنيسة فيزيليه في شوال 540ه/مارس 1146م يدعو للحملة الصليبية الثانية، ونفذ ببلاغته إلى قلوب متعطشة للحرب والمغامرة فتشتعل ناراً، فلما استمع الناس لسحر بيانه وبلاغته وفصاحته، أخذوا يصيحون طالبين الصلبان، وعندئذ خلع القديس برنارد أرديته الخارجية فقطعت وحيكت صلبانا، وظل هذا القديس ومساعدوه يخيطون الصلبان لكل الذين تطوعوا للاشتراك في هذه الحملة ( ) وبعد عدة أيام كتب القديس برنارد رسالة إلى البابا يتضح منها مدى تأثير رجال الدين المسيحي في الناس ومدى طاعة الناس لهم - في ذلك الوقت - فيقول فيها : لقد أمرتم، فأطعت، وما كان لمن أصدر الأمر من سلطة، جعلت طاعتي مثمرة، فلم أكد أفتح فمي وأتحدث حتى تكاثر الصليبيون، فلاحصر لعددهم، فالقرى والمدن هجرها سكانها، فلا تكاد تجد رجلاً واحداً لكل سبع نساء ويصادفك في كل مكان الأرامل اللائي لا زال أزوجهن أحياء ( ) .
وبعد ذلك أخذ الحماس يزداد عند القديس برنارد بعد النجاح الذي أحرزه في فرنسا، فأخذ يطوف أقاليم ألمانيا مؤملاً أن يجتذب الألمان للاشتراك في هذه الحملة وقد نجح إلى حد كبير في التأثير على كونراد الثالث ملك ألمانيا للانضمام إلى الحرب المقدسة، ويطلب منهم أن يقوموا بشرح الإعلان البابوي الذي بعث به البابا إلى كافة مدن أوروبا من أجل أن يتحمل الجميع مسؤولية مساعدة الأرض المقدسة بفلسطين والعمل على تحريرها ( ) ، واستقر رأي المشاركين في هذه الحملة على مهاجمة دمشق واحتلالها واشترك رجال الدين المسيحي جنباً إلى جنب مع الجند في حصار دمشق فكان مع الملك الألماني كونراد قسيس عجوز يدعى إلياس، طويل اللحية، يعتقدون به، فلما حاصروا دمشق، ركب هذا القسيس حماره وعلق على عنقه صليبياً وحمل في يده صليبياً وجمع القساوسة بالصلبان وركب الملوك والفرسان بين يديه، ولم يتخلف من الصليبيين المشاركين في الحصار أحد إلا من تركوه لحفظ الخيام. ووقف هذا القسيس أمام الجميع وهو يتقدمهم قائلاً : لقد وعدني المسيح أني أفتح اليوم دمشق ولا يردني أحد. ولكن باءت نبؤته بالفشل إذ هاجمه أحد شباب المجاهدين فقتله وقتل حماره ( ).
5- انتصار دمشق على الحملة الصليبية الثانية :
في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة نازلت الفرنج دمشق في عشرة آلاف فارس وستين ألف راجل، فخرج المسلمون في دمشق للمصاف فكانوا مائة وثلاثين ألف رجل وعسكر البلد، فاستشهد جماعة، وقتل من الفرنج عدد كثير، فلما كان في اليوم الخامس وصل غازي بن أتابك، وأخوه نور الدين في عشرين ألف إلى حماه، وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضّرع إلى الله تعالى، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع، وضجَّ الناس والنساء والأطفال - مكشفي الرؤوس، وصدقوا الافتقار إلى الله، فأغاثهم( ) وقال تعالى " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " (النمل ، آية : ) وكان من أسباب الله التي جعل فيها النصر لأهل دمشق وصول جيوش الموصل وحلب في الوقت المناسب، فقد اتصل كل من سيف الدين غازي وأخوه نور الدين بمعين الدين أنر لتنسيق التعاون بينهم ضد الفرنجة وكان معين الدين أنر حاكم دمشق لم يكن يرغب بدخول سيف الدين ونور الدين دمشق وكان في الوقت نفسه يهدد الفرنجة بتسليم دمشق لسيف الدين أو لنور الدين إذا حاولوا اقتحامها وراسل حكام القدس ووعدهم بتسليم حصن بنياس لهم إذا أقنعوا الإمبراطور كونراد والملك لويس بالإنسحاب عن دمشق، وترافقت هذه الاتصالات مع حدوث خلاف بين الفرنجة أنفسهم حول من سيحكم دمشق بعد احتلالها ( )، قبل حكام القدس عرض معين الدين إنر، وأقنعوا الإمبراطور كونراد والملك لويس بضرورة الإنسحاب عن دمشق خوفاً من تسليمها لسيف الدين غازي " ملك الشرق " ( ) ، الذي إن تسلمها طمع باحتلال القدس وباقي الإمارات الفرنجية فيما بعد فيزول الوجود المسيحي كله من الشرق، انسحبت جيوش الفرنجة إلى فلسطين ومنها غادر الإمبراطور كونراد عن طريق البحر إلى القسطنطينية في طريق عودته لألمانيا، بينما تأخر الملك لويس عدة أشهر ثم غادر بطريق البحر إلى فرنسا ( ).
وهكذا انتهت أكبر حملة فرنجية إلى الفشل الذريع بسبب تضامن الإمارات الإسلامية، كالموصل وحلب مع دمشق وسلاجقة الروم في وجه العدوان، وبسبب توفر إرادة المقاومة والقتال في نفوس القادة، بعكس الوضع الذي حصل خلال الحملة الفرنجية الأولى التي حققت أهدافها باحتلال معظم بلاد الشام بسبب اختلاف هذه الإمارات وعدم توفر إرادة القتال وضعف روح المقاومة في نفوس الحكام، كان نور الدين محمود المستفيد الرئيسي من فشل الحملة الفرنجية الثانية " بعد حاكم دمشق " فقد برزت أهمية الدور الذي قام به وأخوه سيف الدين غازي في إرغام الفرنجة على الإنسحاب عن دمشق خائبين، وظهرت بالتالي أهمية التعاون والتضامن بين الإمارات الإسلامية في حمايتها من أطماع الفرنجة وهذا ما كان نور الدين محمود يسعى لتحقيقه باعتباره الخطوة الأولى على طريق الوحدة التي كانت تمثل الهدف الإستراتيجي له في سبيل تحرير البلاد من الاحتلال الفرنجي، أدرك نور الدين محمود بعد فشل الحملة الفرنجية الثانية الأهمية الكبيرة لدمشق في مواجهة الفرنجة سواء من حيث موقعها الجغرافي المواجه الأكبر وأقوى الإمارات الفرنجة (مملكة القدس) أم من حيث إمكانياتها وكثرة مواردها وقوتها البشرية، فترسخت فكرة الاستيلاء عليها في نفسه وأخذ يسعى لتحقيق ذلك معتمداً الوسائل السلمية ومستفيداً من تجربة والده في هذا المجال ( ).
6- مشاركة فقهاء المغاربة للدفاع عن دمشق :
لم تقتصر المشاركة الفعلية للفقهاء في القتال على فقهاء مدن بلاد الشام وحدهم، إذ تشير بعض الروايات إلى مشاركة أولئك الفقهاء المغاربة والأندلسيين الذين كانوا يقيمون ببلاد الشام في تلك المعارك، فعندما تعرض مدينة دمشق عام 543ه/1147م للغزو الصليبي شارك أولئك الفقهاء جيوش مدينة دمشق لمواجهة ذلك الغزو؛ وكان منهم الفقيه المغربي حجة الإسلام أبو الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي المالكي، والشيخ عبد الرحمن الحلحوني ( ) وكان الشيخ الفندلاوي كبيراً زاهداً عابداً - خرج راجلاً، فراه معين الدين - حاكم دمشق - فقصده وسلَّم عليه وقال له : يا شيخ، أنت معذور، ونحن نكفيك، وليس بك قوَّة على القتال، فقال : قد بعت واشترى، فلا نُقيلهُ ولانستقيله. يعني قول الله تعالى : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " (التوبة ، آية :111) وتقدّم فقاتل الفرنج حتى قتل رحمه الله شهيداً ( ). واستشهد الشيخ الحلحوني بعد قتال واستبسال ( ) ورؤي الشيخ الفندلاوي في المنام بعد استشهاده فقيل له : أين أنت ؟ قال في جنات عدن على سُرر متقابلين ( ) .
7- ما قيل من شعر :
قال أبو الندى حسان بن نمير الكلبي في مدح مجير الدين صاحب دمشق :
عَرَّجْ على نَجْدِ لعلَّكَ مُنْجِدي
??بنسيمها ويذكر سُعْدى مُسْعِدي
من قاتل الإِفرنج ديناً غيره
??والخيلُ مثل السيل عند المشهد
ردَّ الأمانَ بكلَّ نِدْب باسل
??ومن الجياد بُكَّل نهد أجْرَدِ
ومن السيوف بكلَّ عَضْب أبيض
??ومن العَجَاج بكلَّ نقع أسود
حتى لوى الإسلام تحت لوائه
??وغدا بحمد من شريعة أحمد ( )
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق