إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 5 يوليو 2014

138 دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي الفصل الرابع المدارس النظامية في عهد السلاجقة المبحث الخامس:الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية: سادساً : دور أبي حامد الغزالي في الإصلاح :


138

دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي

الفصل الرابع

المدارس النظامية في عهد السلاجقة

المبحث الخامس:الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية:

سادساً : دور أبي حامد الغزالي في الإصلاح :

1-منهج الغزالي في الإصلاح : ذكر الدكتور ماجد عرسان الكيلاني أن القواعد التي قام عليها منهج الغزالي في الإصلاح والتجديد ثلاث قواعد:

القاعدة الأولى : إن الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله، وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود.

القاعدة الثانية : وتربط القاعدة الثانية بالأولى ارتباطاً متلاحماً : فما دام المسلمون مسؤولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم، وما داموا قاعدين عن حمل هذه الرسالة، فإنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب هذا القعود من داخل المسلمين أنفسهم .

القاعدة الثالثة : فقد جاءت مكملة للقاعدة الثانية، فما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود، فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد تواترات " سلبية " تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام  .

2-صفات منهج الغزالي في الإصلاح : تميز منهج الغزالي في الإصلاح بصفات عدة منها :

الصفة الأولى : خلو كتاباته من تحريض المسلمين على جهاد الصليبيين، وخلوها من التنديد بوحشيتهم، وجرائهم التي كانوا يقترفونها في أطراف العالم الإسلامي.

الصفة الثانية : هي اعتماد النقد الذاتي، ولذلك لم يلجأ إلى تلمس التبريرات وإلقاء المسؤولية على القوى المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف وقابلية الهزيمة من خارج وهذا منهج في البحث يتفق مع المبدأ الإسلامي القائل : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " (الشورى، آية : 30)
فكان الغزالي يحاول أن يعالج قابلية الهزيمة، فالمشكلة حسب تصور الغزالي في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين في أمور العقيدة والاجتماع وما سوى ذلك هي مضاعفات تزول بزوال المرض الأساسي  .

الصفة الثالثة : التي اتصف بها منهج الغزالي في الإصلاح هي انطلاقه من منطلق إسلامي أصيل، فأهتم بجانب الإصلاح الفكري والنفسي. وهذا مبدأ قرآني واضح " إن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد، آية : 11) وبدأ الغزالي بخاصة نفسه أولاً، ثم أخذ بتغيير ما بأنفس الآخرين، واستمر أصحابه وتلامذته في تطبيق هذا المنهاج  ، فساهمت هذا الجهود مع جهود أخرى في ظهور جيل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي كما سنرى في مكانة.

الصفة الرابعة : إن الغزالي لم يعالج قضايا المسلمين باعتبارهم قومية منفصلة تصارع قوميات أخرى، وإنما باعتبار هذه القضايا بعض مضاعفات قعود المسلمين وعجزهم عن حمل واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

3-تشخيص الغزالي لأمراض المجتمع الإسلامي :

‌أ-فساد رسالة العلماء :

ركز الغزالي في مواقع جّمه على نقد العلماء المنتسبين إلى الدين وهم في الحقيقة علماء الدنيا وهو يحملهم مسؤولية كبيرة في فساد الملوك والحكام وفساد العوام، ويرى أن الداء العضال فقد الطبيب، والأطباء هم العلماء، وهم أنفسهم مرضوا مرضاً شديداً  ، فتحدث عما وقع فيه أهل العلم ورجال الدين من طلب الجاه والرياسة، ونيل الخطوة عند أهل الحكم والسياسة، والجدل الفارغ والنقاش الحاد، والاكتفاء بمسائل الفروع والأحكام والانصراف عن علم الآخرة، وتهذيب النفس، وحقيقة ما فيه المنتدبون للإصلاح والدعوة من الكلام المزخرف، واللفظ المُسجع، والقصص المُلهية، ورأى عموم الفساد، وغفلة الناس وسكوت العلماء، وفقدان النذير   فالغزالي يرى أن أدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المتمرسون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان، واستهواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً؛ فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدى في منطقة الأرض منطمساً، ولقد خيَّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو الجدل يتذَّرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف يتوسَّل به الواعظ إلى استدراج العوام إذا لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام، وشبكة للحطام. فأمَّا علم طريق الآخرة، ما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً وحكمة، وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً فقد أصبح بين الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً، ولما كان هذا ثلماً في الدين مُلما، وخطباً مُدلهما، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مُهمّا لإحياء الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمناحي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين  . ويعتقد الغزالي أن التبعة الكبرى في هذا الفساد الشامل، والضَّعف في الدين والانحلال في الأخلاق، تقع على العلماء، ورجال الدين، وهم السبب الأول في فساد الأوضاع؛ لأنهم ملح الأمة، وإذا فسد الملح فما الذي يُصلحه؟ ويتمثل الغزالي ببيت خوطب فيه العلماء :

يا معشر القَّراء يا ملح البلد
   
    ما يصلح الملح إذا الملح فسد


ويذكر كيف مرضت قلوب الناس، واشتدت الغفلة عن المعاد ويذكر أسباب ذلك، فيذكر منها مرض العلماء واعتلالهم، وهم أطباء القلوب فيقول : والثالثة: وهو الداء العضال – فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً، وعجزوا عن علاجه. ويقول في موضع آخر : فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الدّاء عُضالاً، والمرض مزمناً، واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طبُّ القلوب، وأنُكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها ومُراءاة   ويردُّ الغزالي فساد الملوك والأمراء إلى ضعف العلماء وإهمالهم لواجبهم يقول : بالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك لفساد العلماء، فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك، خوفاً من إنكارهم  ، ويلوم الغزالي العلماء على تقاعدهم عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلمة الحق عند سلطان جائر ويعلل ذلك بوقوع العلماء في شباك الأمراء، وحبهم للدنيا وطلبهم للجاه  ، ولاحظ الغزالي – وقد مضى مدة طويلة في التدريس والإفتاء، وعاش بين العلماء وخبر سيرتهم – أنه قد شغل الناس بالجُزئيات الفقهية، والمسائل الخلافية، ووقع الاكتفاء بعلم الفقه والفتيا وانصرف بذلك العلماء وطلبة العلم عن العلوم النافعة، والأشغال المفيدة الأخرى وشُغلوا عن العلم الذي يُصلحون به نفوسهم، وينالون به سعادة الدنيا والآخرة   وقد ترتب عن فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي آثار من أهمها : -
-البعد عن قضايا المجتمع والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها.
-التعصب المذهبي واختفاء الفضائل العلمية.
-تفتيت وحدة الأمة وظهور الجماعات والمذاهب.
-انتشار التدين السطحي والفئات التي مثلته، كفئة العلماء.
وفئة أصحاب العبادة والعمل والمغرورون، وفئة المتصوفة، وفئة أرباب المال، وقد فصل الإمام الغزالي في الحديث عن هذه الفئات في كتابه إحياء علوم الدين  .

‌ب-انحراف الألفاظ عن مدلولاتها :

وقد فطن الغزالي – لذكائه الباهر وتجربته العلمية – أن من أسباب الالتباس وانخداع الناس بالمظاهر، وبُعدهم عن الحقائق، هو أنه قد فشا في هذا العصر استعمال كلمات القرآن والحديث في غير محلها، وفي غير معناها الأصيل القديم، وصار يُفهم منها مالم يكن يفهم في العصر الأول، يعقد في كتاب " الإحياء " فصلاً خاصاً في بيان ما بُدَّلَ من ألفاظ العلوم ويقول في مُفتتحِه : أعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة، وتبديلها ونقلها، بالأعراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السَّلف الصالح والقرن الأول وهي خمسة ألفاظ : الفقه، والعلم والتوحيد، والتذكير والحكمة، فهذه أسامي محمودة، والمتصفوف بها أرباب المناصب في الدين ولكنها نُقلت الآن إلى معان مذمومة، فصارت القلوب تنصر عن مذمّة بمعانيها لشُيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم  ، ثم شرح الألفاظ المذكورة :

-فالفقه : كان يطلق في العصر الأول على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، فخُصَّص في هذا العصر بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عِللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها.

-العلم : وكان لفظ العلم يُطلق على العلم بالله تعالى، وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، وتصَّرف فيه أهل الزمان بالتخصيص، حتى شهروه في الأكثر يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها.

-التوحيد : وكان التوحيد عند الأولين، وهو أن يرى الإنسان الأمور كُلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يَرى الخير والشرَّ كله إلا منه جلّ جلاله وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها، بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات، وتأليف الإلزامات، حتى لقَّب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وتسمَّى المتكلمون العلماء بالتوحيد.

-التذكير : والتذكير هو الذي عناه الله سبحانه وتعالى فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الإيمان يواظبون عليه، وهو القصص والأشعار، والشَّطح والطامات.

-والحكمة : والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " (البقرة ، آية : 269). فصار اسم الحكيم يُطلق على الطبيب والشاعر والمنجم؛ حتى على الذي يُدحرج القرْعة على أكُفَّ السَّوادية في شوارع الطرق  .

وبعد هذه المقارنة بين معاني هذه الألفاظ القديمة ومحلَّ استعمالها وبين معانيها المحُدثة ومحل استعملها وبيان التحريف الذي وقع في إطلاق هذه الكلمات وتفسيرها يقول : فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن العلوم المحمودة إلى المذمومة، فكل ذلك من تلبيس عُلماء السوء بتبدُّل الأسامي، فإن اتبعت هؤلاء اعتماداً على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عُرف في العصر الأول، كنت كمن طلب الشرف بالحكمة بإتباع ما يُسمى حكماً؛ فإن اسم الحكيم صار يُطلق على الطبيب والشاعر والمنجم في هذا العصر، وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ  .

وهكذا يهيب الغزالي بالعلماء، في قوة وصراحة وشجاعة وإخلاص وعمق وتحليل علمي، ويثير فيهم الغيرة والشعور، ويستحثهُّم على الرجوع إلى مركزهم في الأمة، وهو خلافة الأنبياء والوصاية الدينية والخلقية على المجتمع الإسلامي والحسبة على الحكومة والحكام، والخواصّ والعوام، معتقداً بأنهم حجر الزاوية في إصلاح المجتمع، وبصلاحهم صلاح العالم، وبفسادهم فساد العالم، ثم يلتفت إلى السلاطين والأمراء، لأنهم الركن الثاني في إصلاح النوع الإنساني  .

‌ج-نقد السلاطين الظلمة :

لم يكن نقد الغزالي ولا نصحه موجها للجمهور فحسب ولا للعلماء والمتصوفة ونحوهم من الطبقات فحسب، بل شمل نصحه وتوجيهه السلاطين والوزراء، الذين بأيديهم أمر المسلمين وطالما ذكر أن صلاح الأمة لا يتم إلا بصلاح هاتين الفئتين : أهل العلم والفكر، وأهل السياسة والسلطة، فهما الصفات اللذان إذا صلحاً صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، وطالما حكى قول بعض السلف : لو كان لي دعوة مستجابة لدعوتها للسلطان، فإن الله يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً والناس يمنعهم من إسداء النصح وقول الحق المرأمران : الخوف والطمع، وهو في حياته الجديدة ليس عنده ما يخاف عليه، وليس عندهم ما يطمع فيه، وقد خبت في قلبه جمرة الحرص، وحب المال والجاه، بعد أن جعل الدنيا طريقاً لسفره لا محلا لإقامته واتخذ منها قنطرة يعبرها ولا يعمرها زاره وزير الخليفة أنوشروان في بيته تكريماً له، وإقراراً بمنزلته وفضله وما كان ليحدث من هؤلاء الكبراء إلا لمثل الغزالي، ولكن أبا حامد قال له : زمانك محسوب عليك وأنت كالمستأجر اللأمة، فتوفرك على ذلك أولى من زيارتي  ، وقد أدرك الغزالي ببصيرته وثقافته الواسعة أن أول ما نقص من عُرا الإسلام ما يتعلق بالحكم والسياسة، وأن أبرز ما انحرف فيه الحكم عن صراط الإسلام كان في سياسة المال ولهذا شدد النكير على السياسة المالية للسلاطين، وشدد على العلماء في الدخول عليهم أو مخالطتهم، أو قبول الهدايا منهم لأنها رشوة على الدين، ولأن أموالهم جلها سحت  ، إليك لآراء الغزالي في هذا المجال.

-تحريم التعامل مع السلاطين الظلمة.
-تحريم التجارة في الأسواق التي بناها السلاطين الظلمة.
-تحريم التعامل مع قضاة السلاطين الظلمة وخدمهم وشرطتهم.
-تحريم الانتفاع بالمرافق والمؤسسات التي بناها السلاطين الظلمة. وقد فصل هذه الأمور في كتابه أحياء علم الدين  .

 وقد تحدث الغزالي عن سلاطين عصره فقال : .. فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمحوا في استخدامهم والتكثر بهم، والاستعانة بهم على أغراضهم، والتجمُّل بغشيان مجالسهم، وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم فلو لم يُذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً وبالتردد في الخدمة ثانية، وبالثناء والدعاء ثالثاً، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكبير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً، وبإظهار الحُب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوئ أعماله سابعاً، لم ينُعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلاً؛ فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يُعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يُعلم أنه حرام أو يشك فيه، فمن استجرأ على أموالهم، وشبَّه نفسه بالصحابة والتابعين، فقد قاس الملائكة بالحّدادين  . وقيمة هذه الكلمة الجريئة لا تُعرف إلا في جوَّ الحكومات الشخصية الرهيبة التي كانت كلمة واحدة تصدر من عالم أو مؤلف في نقد ملك أو حاكم تطيح بحياته  . ولم يقتصر الغزالي على إبداء آرائه في السلاطين الجائرين في مؤلفاته، بل أبدى رأيه وجهر بالحق والنصيحة أمام الملوك كُلمَّا سنحت له فرصة وقد قال للسلطان " سنجر بن ملك شاه السَّلجوقي " الذي كان يحكم خراسان من أقصاها إلى أقصاها : أسفا : إن رقاب المسلمين كادت تنقصُّ بالمصائب والضرائب ورقاب خيلك كادت تنقضُّ بالأطواق الذهبية  ، وقد كتب إلى أخيه الأكبر محمد بن ملك شاه – وكان أكبر ملوك عصره – رسالة ذكَّره فيها بمسؤوليته، وحَّذره من عقاب الله وغضبه ولفت نظره إلى إصلاح المملكة  . وكتب إلى وزراء المملكة رسائل مستفيضة، ولفت نظرهم بكل جرأة وصراحة إلى فساد الأوضاع، وجور الحكام وابتزازهم للأموال، وما كان يعانيه الشعب من حيف الأمراء، وغفلة المسؤولين، وطمع الموظفين، وحذرهم عقاب الله وبطشه، وذكرهم بمصير الوزراء السابقين، والحكام الظالمين، وحثَّهم على إصلاح الجهاز الإداري، وتنظيم الحكومة والضرب على يد الظلمة ورسائله الفارسية التي وجهها في هذا المعنى إلى الوزراء مثال الشجاعة والصَّدع بالحق، ومثال لقوة الإنشاء وبلاغة التعبير، كالتي أرسلها إلى فخر الملك، ومجير الدين  . ولم يقتصر الغزالي على بذل النصيحة لملوك عصره ووزرائهم وتوجيههم الديني، وتحذيرهم من سخط الله، بل كان يبحث لعلو همته وحرصه على إقامة الدين وإسعاد المسلمين عن دولة فتية تقوم على أساس ديني متين، وفكر سليم، وقد قامت في عصره دولة نشيطة بريئة من كثير من علل الحكومات الإسلامية التي عاصرها، وهي دولة المرابطين بالمغرب، كان على رأسها رجل هو أقوى ملوك المسلمين في عصره وأنشطهم، هو يوسف بن تاشفين، صاحب مراكش، ويحدثنا ابن خلَّكان، أن الغزالي قصده لعله يتعاون معه على توجيه الحكومة  ، يقول ابن حلكَّان : وبلغني أن الإمام حجة الإسلام، أبا حامد الغزالي تغمده الله تعالى برحمته – لما سمع ما هو عليه من الأوصاف الحميدة، وميله إلى أهل العلم، عزم على التوجه إليه، فوصل إلى الإسكندرية، وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه، فوصله خبر وفاته، فرجع عن ذلك العزم  .

‌د-نقده للبدع والمنكرات التي حدثت في المجتمع : لم يكن نقد الغزالي مقتصر على العلماء والسلاطين والأمراء، بل إنه استعرض المجتمع الإسلامي المعاصر كُلَّه، فذكر ما انتشر فيه من بدع ومنكرات وأوهام ومغالطات، ويدل كتاب الإحياء على أنه – وإن كان نشأ نشأة علمية وعاش بين الكتب والتلاميذ – كان متصلاً بالمجتمع اتصالاً وثيقاً، وقد درسه دراسة عميقة، وكان واسع الإطلاع على المدنيَّة في عصره، وأساليب الحياة، وأجواء الطبقات. وإن ما ذكره من أخلاق مختلف الطبقات وِعلَلها ليدل دلالة واضحة على قوة ملاحظته، ودقَّة نظره. وقد عقد في كتابه بابا مستقلاً في المنكرات المألوفة في العادات والتقاليد التي ألِفّها الناس، فلا يشعر كل واحد بأنها منكرات دخيلة على الحياة الدينية، وقد دقَّق فيها واستوعبها استيعاباً لا يقدر عليه إلا من عاشر الناس معاشرة طويلة، وخبر الحياة ودرسها دراسة واسعة عميقة ذكر فيها منكرات المساجد ومنكرات الأسواق ومنكرات الشوارع ومنكرات الحمامات، ومنكرات الضيافة والمنكرات العامة  ، وخصَّص الغزالي جزءاً من الكتاب بذم الغُرور، ذكر فيه أصناف المغترين وفرق كل صنف، ذكر منهم المغترَّين من أهل العلم وفِرَقهم والمغترين من المتصوفة ، والمغترين من أرباب الأموال وفرقهم، وقد ذكر منافذ الشيطان ومداخل النفس في هذه الطبقات وأصنافها، وذكر في أفكارهم ومزالقهم وعقدهم النفسية مالا يطَّلع عليها إلا عالم كبير من علماء النفس، ومصلح اجتماعيُّ ذكيُّ له تجارب طويلة ونظر نافذ  ، وقد انتقد العلماء والمشتغلين بالعلم في غُلَّوهم في الإكثار من الجزئيات الفقهية، والخلافيات، والكلام والجدل، والتعمق في العلوم الآلية : كالنحو، واللغة، والشَّعر، والغريب، والانهماك به، وانتقد الصوفية بالاكتفاء بحفظ أقوال المشائخ وأخبارهم ... وذكر من التباسات الصوفية ومبالغاتهم شيئاً كثيراً يدل على إنصافه وتدقيقه  ، وقد ذكر عن المغترين من أرباب الأموال طرائف وحقائق تدل على النظر العميق، والفهم الديني الصحيح، وقد ذكر من المغترين من أرباب الأموال طرائف وحقائق تدل على النظر العميق، والفهم الديني الصحيح يقول : ربما يحرصون على إنفاق المال في الحج، فيحُجُّون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعاً  . ويقول : وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها، يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البُخل، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج فيها إلى نفقها، كصيام النهار وقيام الليل، وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم، فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال وقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها، ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشف على الهلاك وهو مشغول بطبخ السَّكنجين يسكن به الصَّفراء، ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى السكنجين ؟ ولذلك قيل لبشر الحافي : إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة ؟ فقال : المسكين؛ ترك حاله، ودخل في حال غيره، وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع، والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدينار ومنعه للفقراء  ، وقد تحدث الغزالي عن صور كثيرة من الأخطاء والبدع التي وقعت في المجتمع واستطاع تصويرها بريشته البارعة، فّصور مخايل، قسمان وجه ذلك المجتمع، وجسم دقائقه وتجاعيده، ويظهر في ذلك كله ذكاؤه، وسعة إطلاعه، ودقة ملاحظته وبراعة تصويره، وسلامة تفكيره  .

4-ميادين الإصلاح عند الغزالي : لم يكتف الغزالي بتشخيص الأدواء التي ضربت المجتمع في زمانه وإنما جعل هذا التشخيص مقدمة لاستخلاص ميادين العلاج وكذلك يمكن القول أن ميادين الإصلاح عند الغزالي – اشتملت على الميادين التالية   :

‌أ-العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين : يرى الغزالي أهمية العلماء الربانيين في الإصلاح ولذلك خلص إلى وجوب هذا النوع من العلماء وتحديد وظيفتهم وعلاقاتهم بالسلاطين  : فالعلماء هم أطباء الدين عليهم أن يطلبوا مرضى العقول والنفوس لعلاجهم لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ويطلبونهم واحداً واحداً فيرشدونهم. فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم... وهذا فرض عين على العلماء، وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية ومن كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم، فإن الخلف لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم، ومرضى القلوب أكثر من مرضى الأبدان، والعلماء أطباء، والسلاطين قوّام دار المرضى، فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القّيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكّف شره عن نفسه وعن سائر الناس  . وللعلماء الذين يقومون بوظيفة تطبيب الناس من مرض الدنيا شروط وصفات حددها الغزالي فيما
يلي :
-أن لا يطلب العالم الدنيا بعلمه.
-أن تكون عناية العالم بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنبا العلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدل والقيل والقال.
-أن يكون العالم غير مائل للترف في المطعم والمشرب والملبس والأثاث بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك.
-أن يكون العالم مستقصياً عن السلاطين محترزاً عن مخالطتهم.
-أن لا يكون مسارعاً إلى الفُتيا بل يحترز في ذلك ما وجد إلى الخلاص سبيلاً.
-أن يكون شديد لعناية بتوبة اليقين.
-أن يكون أكثر بحثه في علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش الشكوك ويثير الشر  . ولقد أسهب الغزالي في تحديد صفات العلماء المطلوبين لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وميز بين علماء الآخرة وبين علماء الدنيا أو علماء السوء. وأطنب في التمييز بين أخلاق الطرفين العلمية والاجتماعية ونوع علاقاتهم مع السلاطين والعوام والأغنياء والفقراء، وميز بين أساليب الطرفين في الإرشاد والوعظ والمناقشة كل ذلك في ضوء الوظيفة الأساسية التي حددها الإسلام للعلماء  .

‌ب-وضع منهاج جديد للتربية والتعليم : امتاز المنهاج الذي وضعه الغزالي عن المناهج المعاصرة بأنه تخطىّ الجزئية التي أفرزتها المذهبية، فلم يقتصر ذلك المنهاج على علوم الفقه التي حددها المذهب، وإنما تكاملت فيه العلوم الدينية كلها كالتوحيد، والتصوف والفقه، كذلك تكاملت فيه العلوم الدينية والمهن الدنيوية لأن العلوم – حسب مفهوم الغزالي – كلها إسلامية ولكنها تنقسم إلى قسمين : شرعية وغير شرعية، فالشرعية ما استفيد من الأنبياء وغير الشرعية ما أرشد إليها العقل كالطب والحساب، والعلوم الشرعية فرض كفاية فلو خلا بلد منها سارع إلى الهلاك  . ومن يقتصر على العلوم الدنيوية دون الشرعية يضيع عمره فيما لا ينفعه في الآخرة  . وتدل مؤلفات الغزالي التي درّسها لطلابه أنه قد صنفها لتغطي الميادين الآتية :

-بناء العقيدة الإسلامية : والهدف منه تكوين عقيدة واضحة حية تكون بمثابة الأيدلوجية التي تحدد مسار السياسات المختلفة وتوجهها وأوضح الكتب التي مثلت ميدان بناء العقيدة هو كتاب " الحكمة من مخلوقات الله عز وجل " ومن يطالع الكتاب يخال نفسه أمام طبيب مختص بالتشريح، أو فلكي عالم بالفضاء. فقد اشتمل على أبواب معنوية بـ " التفكير في خلق السماء وفي هذا العالم " و" في حكمة الشمس" و" حكمة القمر والكواكب" " وحكمة خلق الأرض" والبحر والماء والهواء والنار والإنسان. وتشكيل أجسام كل من الإنسان والبهائم والطيور والنحل والنبات وغير ذلك من المخلوقات. ولقد عرض الغزالي هذه الموضوعات بأسلوب قائم على تشريح الأجسام وتحليل عمل الأجرام وبيان تناسق وظائف كل عضو إبراز دقة الخليقة وحكمتها  .

-ميدان تهذيب النفس والإرادة : وهدفه الارتقاء بالإنسان عن مستوى الخضوع للشهوات والأهواء إلى مقام العبودية لله حيث يتحرر الفرد من الخضوع للشهوات أو الخوف، ويتصرف طبقاً لمراد الله سبحانه وتعالى عن قناعة ورضى، ولتحديد متطلبات هذا الميدان ووسائله وضع الغزالي أبحاثاً مطولة في التحليل النفسي ومراتب تطور النفس وأحوالها والمؤثرات التي تؤثر في السلوك والفكر، والممارسات التي يجب أن يمر بها المتعلم. ولقد استقى الغزالي مكونات هذا المنهج من القرآن والسنة ومصادر تراث السلف وأوائل الصوفية التي تتسق مع الكتاب والسنة. ولقد طبق الغزالي هذا المنهج. في تهذيب النفس – على نفسه عندما هجر التدريس في النظامية وهجر الأهل والموطن والجاه أحد عشر عاماً حتى صفت نفسه، ثم طبقه على تلاميذه عندما عاد لبلده ليشتغل بتعليم الآخرين وتهذيبهم  .

-ميدان دراسة العلوم الفقهية وما اشتملت عليه من أنظمة ومبادئ تتطلبها المعاملات الجارية والقضايا الحياتية القائمة والمتجددة ولقد كانت دراسات هذا الميدان متحررة من التقليد المذهبي متصلة اتصالاً مباشراً بالقرآن  .

-ميدان الحكمة والإعداد الوظيفي. ولقد أدرج الغزالي تحت هذا الميدان جميع السياسات والإدارات والمهن التي يحتاجها المجتمع وكيفية توزيع الأفراد حسب استعداداتهم وقدراتهم وأشار إشارة صريحة إلى أن علوم هذا الميدان لا تقتصر على ما عرفه الإنسان وإنما سيبرز الكثير منها في المستقبل بسبب تطور هذه الحياة وتجدد الحاجات  ، ومن جهود الغزالي في هذا المجال كتاب " التبر المسبوك في نصيحة الملوك " الذي أورد فيه أخباراً تظهر أهمية العدل، وسياسة السلطان، وسياسة الوزراء مستشهداً بتاريخ الحكومات في فارس والروم وبتاريخ الخلفاء. وهكذا الكتاب يشكل منطلقات معينة لتحديد مفهوم الإدارة الحكومية كما يتصورها الغزالي  . وتكشف أبحاث الغزالي في هذا الميدان عن إطلاع واسع وخبرات عميقة في ميدان الإدارة والسياسة والآثار التي تترتب على حسن الإدارة أو سوئها، كذلك بحث الغزالي في تقدم العلوم وتجددها، وفي نظريات التعلم وفي التطور الثقافي والتطور الذي يصيب المجتمعات عبر الزمان والمكان وغير ذلك من أصول التربية سواء منها الاجتماعية أو العقائدية أو التربوية  . ولقد طبق الغزالي هذه الآراء التربوية في مدرسته التي أنشأها واستقل بالتدريس بها هو وبعض أصحابه، وكان لها أكبر الأثر في تخريج أنماط جديدة من الرجال أسهموا فيما بعد في الحركة الإصلاحية إسهاماً فعالاً  ، وأصبح منهاج مدرسة الغزالي نموذجاً احتذته المدارس الخاصة التي نشأت متأثرة بدعوته وأهمها المدرسة القادرية في بغداد التي لعبت دوراً رئيسياً   في نهوض الأمة ودعم حركة الجهاد في عهد نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي.


‌ج-إحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – عند الغزالي – دوائر بعضها أوسع من بعض أولها : أن يبدأ الفرد بنفسه ليضع منها نموذج المؤمن المطلوب : فكن أحد رجلين إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك وإياك أن تشتغل بما بصلح غيرك قبل إصلاح نفسك   وثانيها : أن يعلم أهل بيته. وثالثها : أن يدعو جيرانه . ورابعها : أهل محلته : وخامسها : أهل بلده. وسادسها : أهل المناطق الحضرية في البلاد عامة. وسابعها : أهل البوادي : وثامنها : الإنسانية كلها. وفي ذلك يقول الغزالي : فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات. ثم يعلم أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانهن ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده، ثم إلى أهل السواد المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم. وهكذا إلى أقصى العالم. فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد، ولا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه  . على أن الغزالي في هذه الدوائر خّص السلاطين ببحث أسماه " باب أمر الأمراء بالمعروف ونهيهم عن المنكر " وكان الغزالي عنيفاً في تحريض العلماء على الوقوف من الأمراء الآمر الناهي مستهدفاً بذلك إرساء القاعدة التي تؤمن بها وهي أن " السياسة تدور في فلك العقيدة " وليس العكس. ولقد حشد في سبيل ذلك الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وأطنب في سرد قصص علماء السلف مع الخلفاء الراشدين والأمويين وأوائل العهد العباسي  . وهكذا في عشرات الأمثلة إلى أن خلص من ذلك كله إلى القول إن واجب العالم أن يُقَرّع السلطان الظالم كقوله : يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه. فذلك أن لا يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب   ويكرر الغزالي هذا المعنى في أكثر من موضع : للمحتسب، بل يستحب له، أن يعرض نفسه للضرب والقتل إن كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق وفي تقوية قلوب أهل الدين  . ولقد اعتبر الغزالي أن المسلمين مسؤولين عن النهوض لمواجهة المنكر والأمر بالمعروف، وأن التقاعس ذنب ومعصية ومما قاله في هذا المجال : أعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً من هذا الزمان من منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف. فأكثر الناس جاهلون الشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب كل فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم. ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب  . وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراحل : أولها : التعريف بالتعليم، وثانيها : الوعظ، وثالثها : الزجر، ورابعها : المنع بالقهر .

‌د-نقد السلاطين الظلمة : اعتبر الغزالي السلاطين والأمراء في عصره ظلمة متعدين لحدود الله، يحرم على العلماء المخلصين الاختلاط بهم أو التعامل معهم حتى يفيئوا إلى شرع الله  . وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى.

‌س-محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية، وتصحيح التصور السائد عن الدنيا والآخرة : عالج الغزالي المادية والسلبية الدينية اللتين جرفتا العالم الإسلامي في زمانه بروح الفقيه بأمر الدنيا والآخرة، لذلك لجأ إلى الأسلوب الهادئ التحليلي الذي يخاطب العقل ويستهدف الإقناع وتجنب لهجة الخطيب الواعظ الذي تشاغله ظواهر الأمور وأعراض المرض الثانوية فيجنح إلى إثارة العواطف ودغدغة المشاعر، .. وقد عمل الغزالي على تبصير الناس بحقيقة الدنيا والصورة التي يجب أن تكون عليها الإنسان بها  ، وحث الناس على الاقتداء بعهد النبوة وجيل الصحابة في حل هذه الإشكاليات من مادية جارفة، وتصور مغلوط عن الدنيا والآخرة .

‌ر-الدعوة للعدالة الاجتماعية : ركز الغزالي على الدعوة للعدالة الاجتماعية بالقدر الذي ركز على أمور العقيدة والدعوة للإصلاح. وأساس آرائه في هذا المجال أن : المال آلة صبها الله في أيدي عباده لتكون آلة لدفع حاجاتهم ووسيلة ليتفرغوا لطاعته. فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر، ومنهم من حماه وأحبه وفرغه لعبادته وساق إليه حاجته على أيدي الأغنياء ولذلك عليه أن يأخذ بقدر الحاجة  .

وقد فصل الغزالي في أنماط الحياة الاجتماعية التي تحقق العدالة الاجتماعية المطلوبة، فقد صنف كتاباً في آداب الكسب والمعاش " ضمنه آراءه في الحث على العمل وتبيان فضيلته، والبيع وأركانه وشروطه وسائر مظاهر المعاملات التجارية والحياة الاقتصادية  ، كذلك وضع كتاب " الحلال والحرام " في الإحياء وأراد منه تحديد أنماط الحياة الاجتماعية وكيف ينقي المجتمع من العادات المخالفة للإسلام في أساليب المعيشة والتكامل  ، ومحاربة الاحتكار والكنز لأن : الاحتكار ظلم في المعاملة، وبائع الطعام الذي يحتكر الطعام ينتظر غلاء الأسعار، هو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع يبرأ منه الله
تعالى  ، وأفرد الغزالي كتاباً خاصاً في " حقوق الأخوة والصحبة "   فذكر أن هناك حقاً في المال وحقاً في الإعانة بالنفس. ولقد فسّر قوله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " (الشورى ، آية : 38). أي خلطاء من الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض  . وكان الغزالي يرى : أن في المال حق سوى الزكاة : لذلك يجب على الأغنياء مهما وجدوا الفقراء في حاجة أن يزيلوا حاجتهم. ومهما أرهقت الفقير حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع المسلم  .

‌ش-محاربة التيارات الفكرية المنحرفة : لم يغفل الغزالي التيارات الفكرية المضادة التي استهدفت العقيدة الإسلامية من أصولها، والتي تمثلت بتيارين هما : الباطنية والفلاسفة وقد بينا موقف الغزالي من كليهما وفي مجابهته لهذين التيارين لم يلجأ الغزالي إلى الشتائم والقذف وإنما اعتمد الأسلوب العلمي القائم على الدراسة والإطلاع إطلاعاً يتفوق على أصحاب الفكر نفسه  ، ولقد ركز الغزالي في تفنيده لهذين التيارين على الأصول الأساسية لكل منهما، وبذلك اقتلعهما من جذورهما حتى آل أمرهما إلى البوار والانحسار، ولنا أن نقدر للغزالي هذه الجرأة الفكرية خصوصاً إذا تذكرنا الإرهاب الفكري الذي أشاعته الباطنية وهي تغتال كل معارض أو منتقد حتى سقط نتيجة لهذا الإرهاب مئات العلماء والأعيان  . ولقد ترتب على جهود الغزالي من انحسار للتيارات الفكرية المنحرفة التي مثلها الباطنية والفلاسفة، ومز كدت سوقهما بين الجماهير وآل أمرهما فيما بعد إلى البوار والسقوط  .

‌ك-الإصلاح في ميدان الفكر : اجتهد الغزالي في إيقاظ الوعي في المجتمع الإسلامي وذلك بتحرير العقل من رق التقليد، وبالعودة إلى منابع الإسلام الأصيلة من كتاب وسنة، والتأكيد على النظرة الكلية الشاملة للمنهج الإسلامي   وإليك شيء من التفصيل :

-دور العقل : قّرر الغزالي بأنه لا تعارض بين العقل والشرع وفي ذلك يقول : فلا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، كن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية  . ثم يقرر بناء على هذا عدم تعارض العلوم العقلية مع العلوم الشرعية فيقول : وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن وهو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم لبعض فيعجز عن الجمع بينهما فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به، فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين، وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات  .

-رفض التقليد : يرى الغزالي – بعد أن حدد مصدر التلقي – أن العالِم ينبغي أن لا يكون مقلداً. ويشرح لنا ذلك عندما تحدث عن صفات علماء الآخرة فيقول : ومنها يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء المقلَّد  ، صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله. وإنما يقلَّد الصحابة – رضي الله عنهم – من حيث إن فعلهم يدل على سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن العالم عليه أن يعمل عقله في تفهم أسرار أقواله صلى عليه وسلم وأفعاله، لأنها لا تخلو عن أسرار، واكتشاف ذلك هو مهمة العالم.. قال : ثم إذا قلد صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في تلقي أقواله وأفعاله بالقبول، فينبغي أن يكون حريصاً على فهم أسراره، فإن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم فعله، وفعله لا بد وأن يكون لسر فيه، فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال، فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال وعاءً للعلم ولا يكون عالماً. ولذلك كان يقال : فلان من أوعية العلم فلا يسمى عالماً إذا كان شأنه الحفظ من غير إطلاع على الحكم والأسرار .. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم  . وينبغي للعالم أن يعرف الحق، وبه يعرف الرجال، وإلى هذا يوجهه الغزالي : فأعلم أن عرف الحق بالرجال، حار في متاهات الضلال، فأعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكاً طريق الحق  ، ويتحدث الغزالي عن الحجب التي تحول دون الفهم فيذكر منها التقليد، فيقول : ومنها : أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له، بمجرد الإتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكن أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بُعد، وبداله معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال : كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك، فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله  . وتحدث الغزالي عن التقليد وبين أن النظر ليس حفظ الدليل، وإنما هو البحث وأعمال الفكر للوصول إلى الدليل الذي به تكون قناعة العقل وبهذا المنطق يدعو الغزالي إلى تحرر العقل من رقَّ التقليد، وذلك بأعمال عقولهم وعندها يمكنهم أن يؤدوا دورهم في أداء واجبهم ولعل الدافع للغزالي إلى هذا الموقف من التقليد، إنما كان بفعل ما رآه من جمود علماء عصره على مذاهب أئمتهم – سواء أكان ذلك في الفقه أو الاعتقاد – وتعطيل عقولهم، بحيث لا يخالفونهم حتى ولو كان الدليل مؤيداً لغير ما ذهبوا إليه  .

-الدعوة إلى الكتاب والسنة : قال الغزالي في رسالته " أيها الولد " : أعلم أن الطاعة والعبادة، متابعة الشرع في الأوامر والنواهي، بالقول والفعل. يعني : كل ما تقول وتفعل، وتترك قوله وفعله، يكون باقتداء الشرع وقال : أيها الولد : ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع، إذا العلم والعمل بلا اقتداء بالشرع ضلالة  ، ويقول في
" ميزان العمل " : أعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل، والمدعي فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له، العلامة الأولى : أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع، موقوفة على حد توقيفاته، وإيراداً وإصداراً، وإقداماً وإحجاماً، إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها  .

‌د-الالتزام بمنهج السلف : ويؤكد الغزالي على الحرص على معرفة سيرة الصحابة والتزام نهجهم : فتقليد الصحابة رضي الله عنهم إنما كان : من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم  . فالمقلد لهم إنما هو – في الحقيقة – متبع للرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذا كان للصحابة، ميزة على غيرهم من الناس، فالغزالي ينصح من أراد التقليد أن يلتزم بهم فيقول : وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما أشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل عن الصحابة وعلو منصبهم، فقد أجمع على تقدمهم، وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم ولايشق غبارهم  ، ولذا ينبغي أن يكون الصحابة هم المقياس الذي يقاس بهم العلماء، فمن كان أشبه بهم فهو الأقرب إلى منهج الحق وطريق السلف : وأعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم للحق، أشبههم بالصحابة، وأعرفهم بطريق السلف، فمنهم أخذ الدين  .. وبعد أن عرَّف بالعلم المحمود والعلم المذموم – يقول : وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف، أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف، فكل ما أرتضاه السلف من العلوم قد أندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث  . وإذا كان الأمر كذلك فينبغي عدم الاغترار بما أحدث ولو أجمع عليه الناس، وينبغي البحث عما كان عليه الصحابة. وتلك صفة من صفات علماء الآخرة : ومنها صفات علماء الآخرة – أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليها الجمهور، فلا يغرَّنه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم. وليكن حريصاً على التفتيش على أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم  .

 ويؤكد الغزالي على هذا الأمر، لما يترتب عليه من انحراف في الأمة، وتطابق أكثر الناس على أمر لا يعني صوابه ويبرهن على ذلك ببرهان واقعي، وهو أن صنعة الكلام التي تواضع الناس عليها.. لم تكن في السلف  ، فيقول : .. ودع عنك ما تطابق أكثر الناس عليه، وعلى تضخيمه وتعظيمه، لأسباب ودواع يطول تفصيلها، فلقد قبض رسول الله عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم، كلهم علماء بالله، أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام  . فهذه صيحة الغزالي التي دعا فيها إلى أعمال العقل، ونبذ التقليد والتزام منهج السلف، هي حلقة من سلسلة صيحات دوى بها المجتمع الإسلامي من قبل رجال الإصلاح في كل عصر  ، وقد كانت دعوة الغزالي في أواخر القرن الخامس الهجري قد أثرت تأثير كبيراً في عصره والذي بعده.



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق