137
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الخامس:الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية:
خامساً : الغزالي والتصوف :
كان التصوف أحد العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخارف الدنيا وزينتها، والإنفراد عن الخلق وهذه الصفات كانت عامة في الصحابة والسلف، ولما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة ويغلب على الظن أن هذا المصطلح كان إفرازاً أنتجه الواقع عندما بدأت تخصصات العلوم تأخذ أبعادها، فقد كانت كلمة " الفقه" تشمل على كل ما انضوى تحت كلمة التصوف، فلما اقتصر مفهوم كلمة الفقه على فقه العبادات وفقه المعاملات في جانبها الظاهر، استبعدت منه بحوث الأخلاق والسلوك، كان لا بد لهذه الجوانب المستبعدة من الاستقلال والانضواء تحت عنوان يمثلها فكان التصوف ومن السهل تعداد ما يشتمل عليه هذا العنوان : فالأخلاق الكريمة هي الأساس والزهد الذي يعني الترفع على الدنيا – ولا يعني ذلك الفقر هو الطريق، وكثرة العبادة هي وسيلة القرب إلى الله تعالى وبتطبيق العلم مع الإخلاص تكون النجاة ، يقول الغزالي في رسالته
" أيها الولد " : ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع، إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة، وينبغي لك ألا تغتر بشطح الصوفية وطاماتهم، لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس، لا بالطامات والنزهات . تلك هي العناصر التي انضوت تحت هذا العنوان .. ثم تبعتها فضوليات ليست في الإسلام في شيء وهي التي أشار إليها الغزالي بالطامات والنزهات وظهرت مصطلحات أخرى مثل " أهل الإرادة " و "أرباب السلوك" التي استعملها ابن القيم رحمه الله. ولكنها لم تنتشر انتشار المصطلح الأول، ومن غير الصواب أن ينظر إلى الفضوليات التي أدخلت على التصوف على أنها الأصل، وتنس العناصر الأصيلة، فيحارب التصوف كله بما فيه من حق وباطل وهو المسلك الذي سلكه ابن تيمية رحمه الله حيث قال في شأن الصوفية عندما علق على كلام أبي القاسم القشيري : والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ (الصوفية) يوافق ما كان عليه السلف. وهذا هو الذي كان يجب أن يذكر، فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ مثل الفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، ومعروف الكرخي إلى الجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء ما بين حقيقة مالات المشايخ وقد جمع المشايخ إما بلفظه أو بما فهمه هو – أي القشيري – غير واحد، فصنف أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي كتاب
" التعرف لمذاهب التصوف" وهو أجود مما ذكره أبو القاسم وأصوب، وأقرب إلى مذهب سلف الأمة وأئمتها وأكابر مشايخها، وكذلك معمر بن زياد الأصفهاني شيخ الصوفية، وأبو عبد الرحمن السلمي جامع كلام الصوفية، هما في ذلك أعلى درجة وأبعد عن البدعة والهوى من أبي القاسم، وكذلك عامة المشايخ الذين سماهم أبو القاسم في " رسالته " لا يعرف عن شيخ منهم أنه كان ينصر طريقة الكلابية ، وبعد أن أثنى ابن تيمية على عقيدة هؤلاء المشايخ من الصوفية، عتب على أبي القاسم القشيري أنه لم يذكر في رسالته الأولياء الكاملين الذين كانوا في القرون الثلاثة الأولى ، فقال : وما ذكره أبو القاسم في رسالته في اعتقادهم وأخلاقهم وطريقتهم، فيه من الخير والحق والدين أشياء كثيرة، ولكن فيه نقص عن طريقة أكثر أولياء الله الكاملين، وهم نقاوة القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم، ولم يذكر في كتابه أئمة المشايخ من القرون الثلاثة وهكذا نرى أن ابن تيمية لم ينكر طريقة الصوفية في أصلها بل أثنى على مشايخها الذين استقاموا على الطريق، ولم يعدهم خارجين على طريق السلف ، وقد نقل كلام القشيري التالي : اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد، ليس فيه تمثيل ولا تعطيل ثم قال ابن تيمية : قلت : هذا كلام صحيح، فإن كلام أئمة المشايخ الذين لهم في الأمة لسان صدق، كانوا على ما كان عليه السلف وأهل السنة، من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وهذه الجملة يتفق على إطلاقها عامة الطوائف المنتسبين إلى السنة، وإن تنازعوا في مواضع . وهكذا يثني ابن تيمية على الصوفية – السليمة – بأن اهتمامهم بالعمل أكثر من اهتمامهم بالقول. ولا بد من هذه التوطئة عند الحديث عن الغزالي والصوفية ولا ندعي العصمة للغزالي ولا غيره لئن العصمة للأنبياء والمرسلين أما غيرهم من الناس يخطئ ويصيب.
1-بدء طريق التصوف عند الغزالي : قد تحدثت فيما مضى عن التحول الكبير الذي حدث للغزالي وكيف استطاع أن يتغلب على أمراض النفس من حب الصيت والجاه والمنصب والشهرة بعد أن أعانه الله على ذلك ويبدو أن الغزالي أختار طريق الصوفية بعد جهد جهيد وهو بنفسه يوضح لنا كيف سلك الطريق فقد قال : ثم إني .. أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل وكان حاصل عملهم، قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل " قوت القلوب " لأبي طالب المكي، رحمه الله وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد، والشبلي، وأبي يزيد البسطامي، قدس الله أرواحهم، وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى أطلعت على كنه مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعليم والسماع، فظهر لي أن أخص خواصهم : ما لايمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق، والحال وتبدل الصفات.
ثم قال : وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع، وأسبابهما، وشروطهما، وبين أن يكون صحيحاً وشبعان وبين أن يعرف حد السكر.. وبين أن يكون سكران بل السكران لا يعرف حد السكر، والصاحي يعرف حد السكر وأركانه، وما معه من السكر شيء والطبيب – في حالة المرض – يعرف حد الصحة وأسبابها، وأدويتها، وهو فاقد الصحة، وكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها، وأسبابها، وبين أن يكون حالك " الزهد" وعزوف النفس عن الدنيا. ثم تحدث عن خلاصة ما توصل إليه بشأن المتصوفة، فقال : فعلمت يقيناً : أنهم أرباب " الأحوال" لا أصحاب " الأقوال " وأن ما يمكن تحصيله من طريق العلم، فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك .
2-نتائج الدراسة : كان من نتائج دراسة الغزالي للتصوف أنه نظر في نفسه وتفحص ما هو فيه، فإذا به يرى غروراً كاذباً، وحياة غلبت عليها المظاهر، ففقدت روحها وحويتها وقاس نفسه بمقاييس الإسلام الحقة، فأشفق على نفسه لقد تبين له من نفسه :
أنه كان جل اهتمامه بالجانب النظري من العلم دون الجانب العملي وأن ما كان يعده عملاً يتقرب إلى الله تعالى به من التدريس والتعليم، كان فاقداً لشرط القبول وهو النية ..وإذا به فجأة يجد نفسه بلا رصيد في مقياس الآخرة.
وأنه يفتقد عنصراً مهماً في ميداني النظر والعمل وهو " الإخلاص".
فاكتشف من نفسه ما دفعه إلى الخوف، وإلى الحرص على الوقت فيما تبقى من عمره أن يصرف في مرضاة الله . وانتهى به المطاف إلى طريق الصوفية، فعلم يقيناً – كما يقول هو – أنهم هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكم الحكماء الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً .. وأن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور النبوة، وليس على وجه الأرض نور يستضاء به . وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها – وهي أول شروطها – تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى .. ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة – استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وأخرها الفناء بالكلية في الله ؟. وهذا الآخر بالإضافة إلى ما يدخل تحت الاختبار والكسب ولكن الترقي مستمر حتى ينتهي إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح، لا يمكن الاحتراز عنه، قال : وعلى الجملة : ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة (الحلول) وطائفة " الاتحاد " وطائفة " الموصل" وكل ذلك خطأ ويأخذ على الغزالي دخوله إلى التصوف. وقد كان دخول المحب العاشق لا دخول الفاحص الناقد، فلم ينظر إلى علوم الصوفية وتراثهم بعين النقد التي نظر بها إلى علوم الفلسفة والمتكلمين والباطنية بل بعين الرضا والحب :
وعين الرضا عند كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقال الشاعر :
وإذا الحبيب أتي بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
وسد هذا أنه تعامل مع التصوف بقلبه قبل عقله، وبذوقه قبل فقهه، وهذا ما جعله يقبل أشياء مما أخذ على القوم في الفكر، وفي السلوك دون أن يعرضها على قانون الفقه أو منطق العقل ومن أجل هذا أنكر عليه العلامة ابن الجوزي وغيره من الناقدين قوله لكثير من أفكار الصوفية وأعمالهم وأحوالهم، وهي مخالفة لقانون الشرع، منحرفة عن الكتاب والسنة الصحيحة وربما أعتذر أبو حامد في بعض الأحيان عن تجاوزات بعض القوم باعتذارت لا يقبلها منه الفقهاء ، كقوله بعد حكاية الصوفي الذي عرفه الناس بالإصلاح في محله، فخاف على نفسه الفتنة، فدخل الحمام، وسرق بعض الثياب الفاخرة، ولبسها وخرج.. فلحقه الناس وأخذوا منه الثياب وصفعوه... وصار يعرف بعد ذلك (لص الحمام)؟ فسر بذلك وسكنت نفسه . قال أبو حامد : فهكذا كانوا يروضون أنفسهم، حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق، ثم من النظر إلى الخلق، ثم من النظر إلى النفس، وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه، مهما رأوا صلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير ، وابن الجوزي شدد النكير على أبي حامد في حكاية هذا وأمثاله واستحسانه وتبريره .
3-تصوف بغير شيخ : بدأ الغزالي تصوفه في شهر رجب عام 488ه - كما ذكر في المنقذ – حيث التجاذب في نفسه بين شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، فلم يزال يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وتصدق رغبته بكرة وتضعف عشية حتى صمم أخيراً على سلوك طريق الآخرة واستمر هذا التردد قرابة ست أشهر – كما قال – وما طول هذه المدة إلا لأن الأمر الذي يقدم عليه هي الخطوة الأولى في هذه النقلة البعيدة المدى مادياً ونفسياً ولم يكن هناك من يستشيره في هذا الأمر، فيكون في مشورته مساعدة على البت فيه، إنما كان تصرفاً شخصياً، كان الباعث عليه وقوفه على علم التصوف الذي أيقظ فيه، حساب نفسه وتدبر أمره وأما ما تذكره بعض المصادر، من أنه تتلمذ على الفارمدي وأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل ، فذلك أمر فيه نظر ذلك أن " الفارمدي" توفي عام 477ه والغزالي لم يبدأ مشوار التصوف إلا في أواخر عام 488ه أي بعد أكثر من عشر سنوات من وفاة الرجل ولعله كان مرشداً في علم التصوف لا في التطبيق، ذلك أن عام 477ه وما قبله كان الفترة التي سيطر فيها على الغزالي التطلع على الجاه والمنزلة .. الأمر الذي يتعارض مع مفهوم التصوف نستطيع القول إذن بأن الغزالي قطع طريق التصوف بمجاهدته الشخصية دون الاعتماد على شيخ تتوفر فيه المواصفات اللازمة المهمة وليس هذا بمستغرب على الغزالي، فقد كان له من الهمة والعزم ما تصغر معه عظائم الأمور .
4-نقد الغزالي للصوفية : على الرغم من أن الغزالي يزكي طريقة الصوفية؛ لأنها تتضمن العلم والعمل معاً، وأنه انحاز إلى طريقتهم الذوقية في نهاية الأمر، بعد التجربة والممارسة وإتقان العلم، فإن لم يتوان عن نقد معظم فرق الصوفية التي سادت في عصره وما قبله، نقداً شديداً ، وسلط الأضواء على أخطاء وانحرافات بعض المتصوفة.
أ-قلة المتصوفين :يرى الغزالي أن التصوف غير موجود، وذلك لعدم وجود من يسلك الطريق، وإذا وجد السالكون، فهم غير منضبطين مع ما يتطلبه الطريق من سلوك.
يقول : والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت، إلا التصوف، فإنه قد انمحق بالكلية وبطل لأن العلوم لم تتدرس بد والعالم – وإن كان عالم سوء – فإنما فساده في سيرته لا في علمه، فيبقى عالماً غير عامل بعلمه والعمل غير العلم. وأما التصوف فهو عبارة عن تجرد القلب لله تعالى، واستحقار ما سوى الله، وحاصله يرجع إلى عمل القلب والجوارح، ومهما فسد العمل فات الأصل ، ويوضح أن المشايخ الذين يقتدى بهم لا وجود لهم فيقول : وقد خلت البلاد الآن عن شيخ يقتدى به في علمه وسيرته . ويبين لنا سبب هذا الفقدان للمتصوفة فيقول : .. إن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله. ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، فإن دواءه مخالفة الشهوات، وهو نزع الروح، فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه، لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء، وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض، قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً، والمرض مزمناً، وإندرس هذا العلم، وأنكر طب القلوب، وأنكر مرضها . وإذا كان الشيخ المربي مفقوداً والسالك غير موجود، حلَّ مكانهما المنتفعون واللصقاء، وهنا كان على الغزالي أن يبين الأخطاء ويظهر الانحرافات حتى لا يساء فهم الدين .
ب-فساد المتصوفة : ويعطينا الغزالي صورة عما آل إليه أمر المتصوفة من فساد فيقول : ... إن أكثر متصوفة هذه الأعصار – لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار، ودقائق الأعمال، ولم يحصل لهم أنس بالله تعالى ويذكره في الخلوة، وكانوا بطالين غير محترفين ولا مشغولين – قد ألفوا البطالة، واستثقلوا العمل، واستوعروا طريق الكسب، واستلانوا جانب السؤال والكدية، واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد، واستسخروا الخدم المنتصبين للقيام بخدمة القوم، واستخفوا عقولهم وأديانهم، من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة، وانتشار العبث، واقتناص الأموال بطريق السؤال، تعللاً بكثرة الأتباع لم يكن لهم في الخانقاهات حكم فاقد .. فلبسوا المرقعات، واتخذوا في الخانقاهات منتزهات .. ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويعتقدون أن كل سواد تمرة .. فهؤلاء بغضا الله .
ج-الغرور والجهل : ويرى الغزالي أن الغرور قد هيمن على كثير من المتصوفة، وقد عَّد نماذج كثيرة من غرورهم ثم قال : وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في مجلدات، ولا تستقص ثم بين أن مصدر ذلك كله الجهل وعدم سلوك الطريق بشكل صحيح بحيث يكون بعد العلم، فالكثير منهم جهلة، ومع ذلك أدعوا المعرفة، بترديد كلمات هي طامات، ويظن أنه أوتي علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء فضلاً عن العوام . وكل ذلك بناءً على أغاليط ووساوس، يخدعهم الشيطان بها، لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم، ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم، صالح للاقتداء به .
د-سقوط التكاليف : ويحدثنا الغزالي عن انحراف آخر لبعض الصوفية، لعله من أسوأ انحرافاتهم ذلك بعضهم وقع في الإباحة، وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام .. وهم فئات . ومن هؤلاء طائفة ظنت أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل بعد الوصول يستغنى عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة، وزعموا أنه أرتفع عن محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف وإنما التكاليف على عوام الخلق . وحكم الغزالي على هذه الفئات بأنها مذاهب باطلة وضلالات هائلة . إن الغزالي لم يقبل التصوف بعجزه وبجره، بل رفض في حزم تصوف أهل الحلول والاتحاد كالحلاج وأشباهه ولم يقبل إلا التصوف السني القائم على الكتاب والسنة واجتهد أن يرد كل فكرة أو خلق أو سلوك أو حال، مما يقول به المتصوفة إلى أصول إسلامية وأن يستدل عليها بالقرآن والحديث والأثر ، وقد حاول أن يخفف من غلوا القوم في فهمهم للتوكل والزهد ونحوهما وإن أصابه شيء من رذاذهم ، ونقول ما قاله الذهبي : فرحم الله أبا حامد، فأين مثله في علومه ولكن لا ندّعي عصمته من الغلط والخطأ .
5-أثر الغزالي في التصوف : أثر الغزالي أثر كبير في التصوف ولا زال هذا الأثر إلى يومنا الحاضر، فقد استطاع أن يصنع معالم لطريق التصوف ومقاييس له، تكشف الزيف وتظهر الخطأ الأمر الذي يساعد على الإصلاح ويسهل طريقه ومما يذكر له في هذا الميدان .
أ-ضرورة العلم الشرعي : نبّه الغزالي على ضرورة العلم الشرعي لسالك طريق الآخرة، خلافاً لما كان شائعاً بين كثير من الصوفية إن العلم حجاب وقد جعل أول كتاب من كتب " الإحياء " الأربعين كتاب العلم، وأول عقبة يجب أن يجتازها " العابد " هي العلم كما في منهاج العابدين وأكد في مواضع لا تحصر : أن السعادة لا تنال إلا بالعلم والعمل وقال في رسالة " أيها الولد " : إن العلم بدون عمل جنون، والعمل بدون علم لا يكون ، والأحياء هو الكتاب الذي وصنعه لسالكي الطريق وإذن فهو ينكر كل الإنكار أن تكون المجاهدة ورياضات النفس قبل العلم لم يؤدي ذلك إلى الانحراف. ويرى الغزالي أن نظرة العالم أدق وأصوب من نظرة الصوفي .
ولذلك قال : .. ونور العلم إذا أشرق أحاط بالكل وكشف الغطاء ورفع الاختلاف .
ب-رفض الغزالي للتأويلات الباطنية التي تخرج بالنصوص الشرعية عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع، ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل، فإن هذا يقتضي بطلان الثقة بالألفاظ وتسقط من منفعة كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ما يسبق إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضابط له ومثل لذلك بقول بعضهم في قوله تعالى : " أذهب إلى فرعون إنه طغى " : أي إشارة إلى قلبه. وقوله " وأن ألق عصاك " أي ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله فينبغي أن يلقيه ومثله حديث : " تسحروا فإن في السحور بركة ". وتأويله بأنه الاستغفار في الأسحار، وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها .
ج-جعل من التصوف علم أخلاقي عملي : فقد نقله من مجرد الذوق والتحليق والشطح والتهويل إلى علم أخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب وآفات النفوس ويزكيها بمكارم الأخلاق ومن نظر إلى الإحياء ) عرف أن لبابه وغايته في نصفه الأخير وهو يتكون من ربعين : ربع (المهلكات) وربع (المنجيات) وكل من هذه وتلك عشرة كاملة وكلها تدور حول "الأخلاق"، فهو – كما ذكر في مقدمة الكتاب – يذكر في (المهلكات) كل خلق مذموم ورد القرآن بإماطته وتزكية النفس عنه وتطهير القلب منه ويذكر في (المنجيات) كل خلق محمود، وخصلة مرغوب فيها، من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين ، كما أخذ عليهم من الناحية العلمية عدم دقتهم في تعريفاتهم لأعمال القلوب، لغلبة أحوالهم الذاتية والآنية عليهم ومن تتبع الإحياء وغيره من كتب الغزالي، بإنصاف، وجد أنه حاول كبح جماح القوم، والوقوف بهم عند الحدود والحواجز الشرعية، وضبط أقوالهم وأعمالهم، بتقييد مطلقها، وتحديد مبهمها، وإعطائها معنى مقبولاً، ونجح في ذلك إلى حد بعيد .
د-تصحيح مفهوم الزهد : الزهد أصل كبير من أصول التصوف، نتج عنه : الإعراض عن الدنيا، وهو المسلك الذي يجاهد الصوفية نفوسهم من أجله كمرحلة أولى من طريقهم، ولكن بعضهم بالغ في هذا، بل وعلى حد تعبير الغزالي : أضلهم الشيطان في الإعراض عنها . وقد ساق لنا نموذج من هذا الإعراض، وبين خطأهم، ثم بين لنا السلوك الصحيح في هذا الموضوع بقوله : .. وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو : أن لا يترك الدنيا بالكلية، ولا يقمع الشهوات بالكلية. أما الدنيا : فيأخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات. فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده :
فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة.
ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص، والحر والبرد.
ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن، أقبل على الله تعالى بكنه همته، واشتغل بالذكر والفكر طول العمر. وبقي ملازماً لسياسة الشهوات، ومراقباً لها، حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى، ولا يعلم ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية، وهم الصحابة وقد كانوا على النهج القصد، وعلى السبيل الواضح، .. فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم من الأمور تفريط ولا إفراط بل كان أمرهم بين ذلك قواماً وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين، وهو أحب الأمور إلى الله تعالى ... والله أعلم .
والخلاصة : أنه مما لا شك فيه أن أثر الغزالي كان كبيراً على التصوف، إذ أراده تصوفاً سنياً، على طريقة الجنيد وقد أفلح إلى حد كبير في الإصلاح في هذا الميدان ولا يمكن تقدير ذلك إلا بالمقارنة بين ما كان عليه التصوف قبل الغزالي وما آل إليه بعده ، ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي، ثم كيف صار بعده عرف فضل الغزالي على التصوف وأهله، وما ترك فيه من أمر واضح، يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب من جوانب الثقافة والحياة الإسلامية وهذا ما اعترف به وقرره الذين عنوا بدراسة التصوف ورجاله وتاريخه ، ومهما يكن من أمر في هذا الباب الخطير، فالغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق