136
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الخامس:الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية:
رابعاً : الغزالي وعلم الكلام :
ما من شك أن الغزالي ألف كتباً في علم الكلام ونترك الغزالي يحدثنا عن ماذا استقّر رأيه في هذا العلم فقد قال : إني ابتدأت بعلم الكلام، فحصلته، وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علماً وفياً بمقصوده، غير وافٍ بمقصودي. وإنما مقصوده، حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها من تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة، فلّهجُوا بها، وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصر السنة بكلام مرتب، يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله ، هكذا نشأ علم الكلام وصَرّح الغزالي أنه لم يف بحاجته عند الفحص، ووجده قاصراً عن أداء المهمة الموكلة إليها، خاصة وأن أصحابه قد أكثروا الخوض فيه، وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها.. ولم يحصل من علمهم ما يمحو ظلمات الحيرة ، ولهذا ما تحدث الغزالي في كتابه (الإحياء) عن العلوم قال : أعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع .. وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها، وتطويل بنقل لمقالات أكثرها ترهات وهذيانات، تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ، ثم بين أن ذلك لم يكن في الصحابة فقال : .. فلقد قبض رسول الله عليه وسلم عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم كلهم علماء بالله أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام . وقد بين الغزالي أن بعض الفرق ضلت بسلوكها طريق علم الكلام، ولفت النظر إلى أن القرن الأول لم يسلكوا هذا المسلك فقال : ولكنه .. عميت بصيرته، فلم يلتفت إلى القرن الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من أهل البدع والهوى، فما جعلوا أعمارهم ودينهم عرضاً للخصومات والمجادلات..وإذا رأوا مصراً على ضلالته هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر، بل قالوا : إن الحق هو الدعوة إلى السنة، ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة، إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه أوتوا الجدل ، ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث إلى كافة أهل الملل، فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة، ودفع سؤال وإيراد إلزام، فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم، ولم يزد في المجادلة عليه، لأن ذلك يشوش القلوب . وبين الغزالي الغلط في إطلاق لفظ " التوحيد " على علم الكلام فقال : لفظ التوحيد : وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها. حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسمي المتكلمون : العلماء بالتوحيد، مع جميع ما هو خاصة هذه الصناعة، لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والممارة، فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع، فلقد كان ذلك معلوماً للكل، وكان العلم بالقرآن هو العلم كله، وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر، لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإن فهموه لم يتصفوا به، وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل . وأنكر الغزالي على عوام الناس ان يشتغلوا بعلم الكلام.
وقال : إن دين عوام الناس ينبغي أن يكون صافياً نقياً بعيداً عن تعقيدات الجدليين المتكلمين؛ ولهذا ينبغي إلجام العوام عن علم الكلام ثم بين الإمام الغزالي أن إيمان العوام الحاصل لهم بتواتر السماع إنما يقوى بكثرة العبادة والذكر فيقول : والإيمان الراسخ على الحقيقة هو إيمان العوام الحاصل على قلوبهم من الصبا بتواتر السماع، وتمام تأكيده بلزوم العبادة والذكر، فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى وتطهير القلب من كدرات الدنيا وملازمة ذكر الله دائماً تجلت أنوار المعرفة وصارت الأمور – التي كان قد أخذها تقليداً – عنده كالمعاينة والمشاهدة والكلام المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جداً مشرف على الزوال بكل شبهة . وقال : لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس، لكن ليس ذلك بمقصور عليه وهو أيضاً نادر، بل الأنفع الكلام الجاري في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن. فأما الكلام المحَّرر على رسم المتكلمين، فإنه يُشعر نفوس المستمعين بأن فيه صنعة وجدلاً، ليعجز عنه العاميَّ، لا لكونه حقاً في نفسه؛ وربما يكون ذلك سبباً لرسوخ العناد في قلبه، ولذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين ولا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره، ولا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة، ولا على العكس، وتجري هذه الانتقالات بأسباب آخر حتى في القتال بالسيف، ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة لهذه المجادلات، بل شَّددوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال . وازداد الغزالي – مع الأيام، وبعد التجارب العلمية – إقتناعاً بأن أسلوب القرآن في الإقناع أبلغ وأنفع وأعُّم وأشمل للطبقات والمستويات الفكرية المختلفة، وبأن علم الكلام علاج مؤقت ومختص بمن نشأ عنده شكوك وشبهات ولا حاجة للطبائع السليمة والعقول المستقيمة. أما القرآن فكان الغذاء الصالح، والماء السائغ، يحتاج إليهما كل إنسان وينتفع، ولا ضرر فيه ولا خطر. يقول في كتابه " إلجام العوام عن علم الكلام " الذي هو من آخر مؤلفاته : فأدَّلة القرآن مثلُ الغذاء، ينتفع به كل إنسان، وأدلة المتكلمين مثل الدواء، ينتفع به آحاد الناس، ويستضُّر به الأكثرون؛ بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبُّي الرضيع، الرَّجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مّرة، ويمرضون بها أخرى، ولا ينتفع بها الصبيان أصلاً . ويذكر تجربته ومشاهدته كشاهد على ذلك : والدليل على تضُّرر الخلق به، المشاهد والعيان والتجربة، وما ثار من الشَّر منُذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام، مع سلامة العنصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك . وهكذا تتجلىّ شخصية الغزالي في نقد الفلسفة وعلم الكلام شخصية فريدة مستقلة التفكير، قوية التأثير تمتاز بسلامة الفكر، واتّزان العقل، وحصافة الرأي، وعمق النظر، والثقة بالنفس، له منهج خاص في نقد الفلسفة، وعلم الكلام، وإثبات العقيدة الإسلامية، وهو ممن توفرت عنده أدوات الاجتهاد في هذا الموضوع، فكان من أئمة هذا الفن المجتهدين، ومن كبار المؤلفين المنُتجين .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق