135
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الخامس:الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية:
ثالثاً : موقف الغزالي من الفلاسفة والفلسفة :
يمتاز الغزالي عن كل من سبقه في محاربة الفلسفة، أنهم اتخذوا موقف الدفاع عن الإسلام وعقائده، والاعتذار عن الدين الإسلامي فكانت الفلسفة تهاجم الإسلام، وهؤلاء يدافعون عن الإسلام وينفون التهم الموجهة إليه، ويحاولون أن يُبَّرروا موقفه، ويلتمسوا العذر لعقائده ونظرياته، فكأنَّ علم الكلام كان جُنَّة تتلقَّى هجمات الفلسفة وتُحصّن العقيدة الإسلامية، ولم يجتريء أحد من المتكلمين أن يُهاجم الفلسفة ويغزوها في عقر دارها، لعدم تعُّمقهم في الفلسفة وتضلعُّهم من أصولها وفروعها، ولعدم تسلحهم بالأسلحة التي يُواجهون بها الفلسفة ويوسعونها جرحاً ونقداً؛ فكان موقفهم موقف الدفاع عن قضية، وموقف الدفاع دائماً ضعيف، أما الغزالي، فقد هاجم الفلسفة وتناولها بالفحص والنقَّد، وهجم عليها هجوماً عنيفاً مبنياً على الدراسة والبحث العلمي، حجة مثل حجة الفلسفة، وعقل مثل عقل الفلاسفة الكبار، ومدوَّني الفلسفة، وألجأ الفلسفة إلى أن تقف موقف المتهم، وألجأ مُمثليها إلى أن يقفوا موقف المدافعين، فكان تطوراً عظيماً في موقف الدين والفلسفة، وكان انتصاراً عظيماً للعقيدة الإسلامية عادت به الثقة إلى نفوس أتباعها والمؤمنين بها وزالت عنهم مهابة الفلسفة وسيطرتها العلمية .
1-درسته للفلسفة : لم يتهور الغزالي في الهجوم على الفلسفة وإنما درس الفلسفة أولاً كما حكى هو بنفسه في " المنقذ من الضلال " وكان يؤمن بأنه : لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فجَّد واجتهد في دراستها ومعرفة حقيقتها وأغوارها، حتى أطَّلع على منُتهى علومهم، ثم لم يستعجل كذلك ولم يبدأ بالهجوم بل رأى أن المباحث الفلسفية لا تزال غامضة معقَّدة ليست في متناول الأوساط من الناس، وأن الكُتب الفلسفية قد ألَّفت في لغة رمزية وفي أسلوب غير واضح وكأنّ مؤلفيها قد تعمدوا ذلك ليقيموا سياجاً حول الفلسفة يحوطها من تناول العامة، أولم يكونوا يُحسنون التأليف، فرأى أن يؤلف كتاباً يذكر فيه المباحث الفلسفية ونظريات الفلسفة ومسائلها في لغة سهلة واضحة، وفي أسلوب مشرق، وقد رُزق الغزالي قدرة عجيبة في تبسيط المسائل العلمية وإيضاحها فكسر ذلك السياج، ورفع الاحتكار العلمي، وألفَّ كتاب " مقاصد الفلاسفة " وذكر فيه المصطلحات الفلسفية، وبحوث الفلسفة وعرضها أحسن عرض، الأمر الذي لم يحسنه رجال الفلسفة، وذلك دون أن ينتقدها أو يعلق عليها وقد برهن الدكتور سليمان دنيا في مقدمته الثانية لكتاب " تهافت الفلاسفة " على أن عرض الغزالي لمسائل الفلسفة كان أحسن من عرض الفلاسفة أنفسهم لهذه المسائل، عندما قارن في بعض المسائل بين أسلوب الغزالي، وأسلوب ابن سينا، وخلص إلى القول بأن منهج الغزالي أوضح وأدق وبطرح كتاب " مقاصد الفلاسفة " استطاع الغزالي أن يحقق أموراً هامة ساعدته على كسب المعركة القادمة منها :
-أزال الهالة الكبيرة عن الفلسفة وجعلها في المتناول.
-اعترف له الجميع – بما فيهم الفلاسفة – بالأستاذية في هذا الفن كما هو شأنه الأمر الذي مهد له السبيل إلى أن يقول كلمته فيما بعد ... فيجد من يستمع إليها، وقد ظن الفلاسفة يومئذ أنهم كسبوا إلى صفهم علماً جديداً من أساطين الفلسفة.
-حدد الغزالي ما ينبغي الوقوف عنده من الفلسفة حين أرجعها إلى ستة أصول، وأن أكثر هذه الأصول لا تتعارض مع الدين فألقى الأضواء بذلك على مكان المعركة المرتقب.
وقد بين الإمام الغزالي في كتابه ( المنقذ من الضلال ) أن الفلسفة انتصرت ووقفت على رجليها بآفتين :
إحداهما : نابعة من جهل المندفعين في الدفاع عن الإسلام بإنكار الفلسفة كلياً . وقال في بيان هاتين الآفتين : الأولى : إن من ينظر فيها " أي في الرياضيات التي هي من الفلسفة يومئذ " يتعجب من دقائقها، ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، فيحسب أن جميع علومهم – في الوضوح، وفي وثاقة البرهان، كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم، وتعطيلهم، وتهاونهم بالشرع، ما تداولته الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض، ويقول : لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم .. فهذه آفة عظيمة
والآفة الثانية : نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينتصر بإنكار كل علم منسوب إليهم : فأنكر جميع علومهم وأدعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل، وإنكار البرهان القاطع فازداد للفلسفة حباً، وللإسلام بغضاً ولقد عظمت على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية .
2-ضربة قاصمة : وبعد أن أخذ الغزالي مكانته في المجتمع كفيلسوف يشهد له الجميع .. ألف كتابه " تهافت الفلاسفة" الذي قيل عنه : إنه طعن الفلسفة طعنة لم تقم لها بعد في الشرق قائمة يقول الدكتور سليمان دينا : وأختار له اسم ( تهافت الفلاسفة) وعنى بهذا الاسم – فوق دلالته على الكتاب – التشهير بالفلاسفة، الإعلان عنهم بأنهم متهافتون، فحسب من يقرأ عنوان الكتاب فقط، أو حتى يسمع به، أن يعرف أنه محاولة لإثبات تهافت الفلاسفة، وعنى بالتهافت ما أوضحه في المقدمة الأولى من نفس الكتاب بقوله : .. فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول. فالتهافت الذي اختاره مضافاً إلى الفلاسفة، معناه التناقض، أي تناقض الفلاسفة، يعني تناقض أفكارهم وتعارضها وتساقطها، وليس كالتناقض اسم يؤدي ما يؤديه من دلالة على هوان الفكر الموصوف به، وسخفه وحقارته، فكان الغزالي أقسى ما يكون على الفلاسفة بهذه التسمية . يقول الشيخ الأستاذ أبو الحسن الندوي في وصف الكتاب : ويتسم هذا الكتاب بقوة التعبير، وسلامة العبارة، وسهولة الأسلوب، بخلاف عامة الكتب التي ألفت في الموضوع، ويدل على أن مؤلفه ممتلئ بالإيمان والثقة بدينه، والاعتداد بشخصيته وتفكيره، ينظر إلى الفلاسفة القدماء كأقران وزملاء، ورجال من مستواه العقلي والفكري، يناقشهم ويباحثهم بحرية واعتماد، ويقرع الحجة بالحجة، وكان المسلمون في حاجة شديد إلى هذا الطراز من المؤلفين، والباحثين، الذي يواجه الفلسفة بإيمان وثقة، وعقل حر، وشجاعة علمية، يكفر بعصمة الفلاسفة وقدسيتهم وعبقريتهم وكونهم فوق مستوى البشر في العقل والتفكير. وبهذه الصفة يتجلى الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) فجاء في أوانه وقضى حاجة زمانه . ويشرع الغزالي – بعد أربع مقدمات ذكر فيها منهاجه – في البحث، وشرح حال الفلاسفة، وفرق علومهم التي تصادم الشريعة، والتي لا تصادمها، وناقش الفلاسفة في شرائعهم ومقدماتهم للبحوث الإلهية، وبعد هذا كله يشرع الغزالي في بيان مسائل الفلاسفة ومناقشتهم في ذلك في ضوء البحث العلمي والحجة العقلية، وهي ست عشرة مسألة في الإلهيات وما بعد الطبيعيات، وأربع في الطبيعيات، ويبين فيها ضعف استدلالهم وتناقضهم واختلافهم وتهافت عقيدتهم . وقد ساعد الغزالي على نجاحه في تسديد هذه الضربة القاصمة أمور منها :
التمهيد لها كما رأينا.
-تحديد ميدان المعركة وهو الجانب الإلهي من الفلسفة، واستبعاد الجوانب الأخرى من رياضيات ومنطق.
-مكانة الإمام الغزالي وعلمه بدقائق الفلسفة، كما يعلمها كبار الفلاسفة.
-استعماله كل الأسلحة التي توفرت لديه، فهو يقول في حديثه عن ذلك : ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطوراً مذهب الفرق إلباً واحداً عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد . وقد كان الغزالي واثقاً من انتصاره بعد أن أحكم الوسائل وخطط للمعركة التخطيط السديد، ولذلك نجده – وقد نزل إلى ساحة المعركة. غير مبال بخصمه، ساخرا منه، مستهزئاً بعقله الذي يتبجَّح به، ولننظر إلى بعض النصوص التي أوردها في كتابه " تهافت الفلاسفة " وهو يستعمل سلاح السخرية قلنا : ما ذكرتموه تحكمات، وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو حكاها الإنسان عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه . وقال ذلك في مقام الحديث عن نشأة الكائن الأولى الواحد عن الإله ونشأة ثلاثة كائنات عن هذا الكائن الأول الواحد. وقال : فلست أدري كيف يقنع المجنون من نفسه بمثل هذه الأوضاع، فضلاً عن العقلاء الذين يشقون الشعر – بزعمهم في المعقولات . ومما دفعه إلى هذا الأسلوب موقفهم المشابه من الإسلام والمسلمين وإلا فالغزالي يحترم العلم ويقدر أهله ولكن هؤلاء جاهروا بالكفر وترفعوا على الناس وظنوا بأنفسهم الفطنة – كما يقول في المقدمة – فاستحقوا هذا الأسلوب. وفي مقدمة الكتاب هجوم عنيف، فيصبح عاجزاً عن تدارك أمره، وكان هذا الهجوم في نص أدبي رائع في معناه ومبناه . وعلق الإمام الغزالي على بحثهم واجب الوجود، وأنَّه يعقل نفسه ولا يعقل غيره بكلمته اللاذعة القوية : فقد انتهى بهم التعمق في الفطنة، إلى أن أبطلوا كل ما يُفهم من العظمة، وقَّربوا حاله تعالى في حال الميت الذي لا خير له بما يجري في العالم، إلا أنه فارق الميت في شعوره بنفسه فقط، وهكذا يفعل الله سبحانه بالزَّائغين عن سبيله، والنَّاكبين عن طريق الهدى، المنكرين لقوله تعالى " ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ( الكهف : 51) " الظانين بالله ظن السوء " (الفتح: 6) المعتقدين أن أمور الربوبية، تستولي على كُنْهها القوى البشرية، المغرورين بعقلهم زاعمين أن فيها مندوحة عن تقليد الرسول – صلوات الله عليهم
وسلامة – وأتباعهم – رضوان الله عليهم – فلا جرم اضطروا إلى الاعتراف بأن لُباب معقولاتهم رجع إلى مالو حكي في منام لتعجَّب منه . وهكذا يستمر الغزالي في نقد الفلاسفة وتشريحها إلى آخر الكتاب، حتى يأتي على جميع المسائل التي تكفَّل الرَّد عليها، وهي عشرون مسألة، أكثرها في الإلهيات، وكفَّرهم في ثلاث مسائل، إحداها : مسألة قدم العالم، وقولهم أن الجواهر كلها قديمة، والثانية : قولهم إن الله تعالى لا يُحيط علماً بالجزئيات الحادثة في الأشخاص. والثالثة : إنكارها بعث الأجساد وحشوها. قال: فهذه المسائل الثلاثة، لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها معتقد كَذبِ – الأنبياء – صلوات الله عليهم وسلامه – وأنَّهم ذكروا ما ذكروه على سبيل المصلحة، تمثيلاً لجماهير الخلق وتفهيماً، وهذا هو الكفر الصراح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين .
3-تأثير كتاب تهافت الفلاسفة :
ليس أهمية الكتاب في تكفير الفلاسفة، بل إن غاية الكتاب هو إسقاط قيمة الفلسفة العلمية، والحطُّ من مكانتها، وإثبات إنها مجموع أفكار وتَخيلات، وقياسات وتخمينات، وبذلك خدم الغزالي الدين خدمة باهرة، وخلَّف الفلسفة التي كانت وَتحُلُّ من نفوسهم محلَّ القدسية والإجلال،خلفَّها الغزالي بضرباته الموجعة وهجماته العنيفة إلى الوراء، أو وقفها على الأقل وشغلها بنفسها والدفاع عن نفسها ولم تستطع الأوساط الفلسفية أن تُقدم كتاباً قوياً جديراً بالذكر يرد على " تهافت الفلاسفة يقول علماء الإفرنج : إن الغزالي طعن الفلسفة في الشرق العربي طعنة قاضية، وكاد يكون نصيبها في الغرب كذلك، لو لم تَلق في ابن رشد حامياً لها أحياها قرناً من الزمان .
4-خلاصة عمل الغزالي في ميدان الفلسفة :
نستطيع تلخيص عمل الغزالي في ميدان الفلسفة بما يلي :
-حاربها دفاعاً عن الإسلام وخدمة لدينه، وقد كانت الفلسفة حرباً على الدين.
-لم يحارب الفلسفة كلها، إنما حدد معركته مع الفلسفة الإلهية الإغريقية.
-أبعد عن الفلسفة العلوم الأخرى التي كانت منضوية تحت لوائها، فجعلها وحيدة بعيدة عن جنودها الذين كانت تستخدمهم كسياج في الدفاع عنها، وقد أصبحت هذه العلوم فيما بعد مستقلة قائمة بذاتها مثل : الرياضيات، والطبيعة الفيزيا والمنطق، وعلم الأخلاق، والسياسة.
-رفع الحصانة عنها، وأزال تلك الهالة التي كانت تضفي عليها التقديس والاحترام وأثبت أنها مجموعة أفكار، وتخيلات وقياسات وتخمينات. وهكذا لم ير الغزالي، فيها بعد تعريتها ما يصلح أن يكون " علماً " ولذلك عندما تحدث في كتابه " الإحياء " عن العلوم لم يعَّد الفلسفة علماً وأوضح ذلك بقوله " وأما الفلسفة فليست علماً برأسها بل هي أربعة أجزاء :
أحدها : الهندسة والحساب.
الثاني : المنطق : وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه.
الثالث : الإلهيات .. وكما أن الاعتزال ليس علماً براسه بل أصحابه طائفة من المتكلمين .. فكذلك الفلاسفة.
الرابع : الطبيعيات : وبعضها مخالف للشرع. وبعضها بحث عن صفات الأجسام ويعطينا خلاصة رأيه في كتابه المنقذ من الضلال فيقول : ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة، وتحصيله، وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات .
5-موقف الغزالي بين العقل والنقل :
يؤكد الغزالي هنا مبدأ مهماً – عمقه ووسعة ابن تيمية فيما بعد في كتابه الكبير درء تعارض العقل والنقل. على اختلاف بينهما في تطبيقه – وهو أن العقل والشرع لا يتعارضان تعارضاً حقيقياً من الناحية النظرية لأن كليهما نور من عند الله، فلا ينقض أحدهما الآخر، ولا من الناحية العملية، فلم يثبت أن اصطدمت حقيقة دينية بحقيقة عقلية، بل يرى الغزالي أن أحدهما يؤيد الآخر ويصدقه ، بل نراه في (المستصفى) وهو من أواخر ما صنف، يعتبر العقل قاضياً، والشرع شاهداً، حيث بقول بعد الديباجة : أما بعد فقد تناطق قاضي العقل، وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع، وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور .. ومحل تجارة، لا مسكن عمارة، ومتجر بضاعتها الطاعة، والطاعة طاعتان؛ عمل وعلم، والعلم أنجحها وأربحها فإنه أيضاً من العمل، ولكنه عمل القلب الذي هو أعز الأعضاء، وسعي العقل الذي هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة، وحامل الأمانة، إذ عرضت على الأرض والجبال والسماء، فأشفقن من حملها وأبين أن يحملنها غاية الإباء ، وها هو في الأحياء نراه يدعو إلى المزج بين العلوم العقلية والعلوم الدينية يبين الحاجة إلى كل منهما، ويقرر أن لا غنى بالعقل عن السمع، ولا غنى بالسمع عن العقل : فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية، والشخص المريض يستفر بالغذاء متى فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب، ولا يمكن علاجها إلا بالأدوية المستفاذة من الشريعة . ثم يحمل الغزالي بقوة على من يظن أن ثمت تناقضاً بين العقليات والشرعيات فيقول : وظن من يظن أن العلوم العقلية متناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به، فينسل من الدين، انسلال الشعرة من العجين، دائماً ذلك، لأنه عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات .
6-انتصار الفكر السني في العهد السلجوقي :
إن المعارك الفكرية ليست بأقل خطراً في حياة الأمة من المعارك العسكرية، ذلك أن الغزو الفكري أسوأ وأشد خطراً على الأمة من الغزو العسكري ولقد انتصر الغزالي في معركته مع الفلسفة دفاعاً عن الإسلام، فاستطاع في أقل التقديرات أن يرد الفلسفة، فيجعلها في موقع الدفاع بعد أن كانت في موقع الهجوم واستحق بجدارة أن يلقب بحجة الإسلام، وانفرد بهذا اللقب الذي بين مكانة الرجل في تاريخ الفكر إن الأمة اليوم في أشد الحاجة لحجة إسلام جديد يفضح المناهج الغربية والدساتير الوضعية، والشعارات البرّاقة في مجال الحريات، والعدل، وحقوق الإنسان والمرأة، ونظام الحكم، ومحاسبة الحكام، وغير ذلك من الشعارات والمبادئ الزاحفة، فيقدم البدائل الصحيحة من خلال كتاب الله وسنة رسوله وعقيدة الأمة وتراثها، فينتصر للإسلام في المعركة الفكرية الخطيرة التي تدار رحاها بين الثقافات والحضارات، فيبين عوار مناهج الخصوم، ويستفيد من الحق الذي معهم ويطرح المشروع الفكري الإسلامي في أبهى حلة، مع جمال الألفاظ في العرض، وعمق المعاني في الأسلوب مؤيداً لأفكاره بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة والأدلة الواضحة.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق