134
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الخامس:الإمام الغزالي، من كبار علماء المدارس النَّظامية:
ثانياً : موقف الغزالي من الشيعة الباطنية :
إذا كانت إحدى ثمرات المدارس النظامية أنها مهدت الطريق لسيادة المذهب السني الأشعري، فإنه كان من أبرز أثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي، وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي – العالم السني – على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة وخاصة الباطنية الإسماعيلية إذ يذكر هو: أنه ألف في ذلك كتباً عدة : أشهرها فضائح الباطنية الذي كلف بتأليفه في 487ه من قبل الخليفة المستظهر ، على أن الشيء المثير للأعجاب هو شجاعة الغزالي في حملته على الإسماعيلية الباطنية جاءت في وقت انتشر فيه دعاتهم في فارس، وتزايد خطرهم حتى أقاموا الحصون والقلاع، وهددوا أمن الناس وسلامتهم، وقاموا بالاغتيالات على نطاق واسع فشملت كثيراً من الساسة والمفكرين وعلى رأسه نظام الملك نفسه والغزالي قام بهذه الحملة بتوجيه من السلطة – مع رغبة الغزالي العالم السني في القيام بواجبه في الدفاع عن الإسلام الحقيقي ، وهذا شيء جميل لما تلتقي جهود السلطة السياسية مع علمائها في تحقيق أهداف الإسلام من خلال مؤسسات نافعة للمجتمعات والدول والحضارات، كالذي قامت به المدارس النظامية في مقاومة الفكر والنفوذ الشيعي الباطني. كانت الدولة الفاطمية قد تدرعت بالفلسفة وظهرت في مظهر ديني سياسي، فكانت كما يقول الاستاذ الندوي – أشد خطراً على الإسلام من الفلسفة، فقد كانت الفلسفة تعيش في برجها العاجي بعيداً عن الشعب والجمهور ، وأما الباطنية، فكانت تتسَّرب إلى المجتمع وتنفت سمومها فيه، وكانت لها الإغراءات المادية القوية، ولم يكن في العالم الإسلامي في آخر القرن الخامس أحد أجدر بالرد عليها، والكشف عن أسرارها، ونقض ما تبني عليه دعوتها من الغزالي.
1-بنية الكتاب :
الكتاب قسمان : القسم الأول خَّصصه الغزالي لإظهار " فضائح الباطنية " ، وخصّص القسم الثاني لإثبات شرعية خلافة المستظهر بالله. ويمكن أن نتبيّن تقسيماً داخلياً للقسم الأول يحتوي على أكثر من عشرة فصول، مشروعية الرد عليهم، بيان صفاتهم، منشؤهم، أغراضهم، أتباعهم، مذهبهم ويشمل الإلهيات والنبوة والإمامة والحشر والنشر، استدلالهم بالأعداد والحروف، الكشف عن فتوى الشرع في حقهم من التكفير وسفك الدماء، أحكام من قضي بكفر منهم، في قبول توبتهم أوردها، العهد معهم كيف يبطل
ومتى .. إلخ .
فالغزالي بدأ حديثه بمشروعية الرد على الباطنية ذاكراً أن التأليف في الرد عليهم هو فرض عين ، ثم عمد في ما بعد إلى الخوض في المسائل العملية محدداً من منهم يستحق التكفير ومن منهم يستحق التبديع، ومتى تقبل توبتهم ومتى ترد إلخ.
فالغزالي لا يواجه كفّاراً مقطوعاً بكفرهم وإنما يواجه مجموعة ما فتئت تؤكد من خلال أفكارها وعقائدها وممارساتها أنها من داخل الأمة بل هي تقدم نفسها على أنها تروم تطهير الدين من الضلالات كما يقول إخوان الصفا، لذلك كان عليه أن يجتهد في إخراج هذه الجماعية من حظيرة الإسلام حتى يكون جهادها مشروعاً، ولا يتسنى له ذلك إلا بالكشف عن أصولها وأتباعها وعقائدها وغايتها القريبة والبعيدة، وحينما يتم ذلك تصبح معاملتهم معاملة الكفّار " أي جهادهم" أمراً مشروعاً ويجري عليهم حينئذ ما يجري على الكفّار من شروط وأحكام وطرائق .
2-مضمون الكتاب :
منُذ فاتحة الكتاب وإلى نهاية القسم الأول يطالعنا الغزالي بحرصه الشديد على الربط بين مذهب الباطنية والكفر.
أ-فهم كفّار في نشأتهم : ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفّف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين وينفّس عنهم ما دهاهم من أمر المسلمين .
ب-وهمّ كفار في صفاتهم : لا يرجون لله وقاراً ولو خاطبهم دعاة الحق ليلاً ونهاراً لم يزدهم دعاؤهم إلا فراراً فإذا أطّل عليهم سيف أهل الحق آثروا الحق إيثاراً وإذا انقشع عنهم ظلّه وأصروا واستكبروا استكبارا .
ج-وهم أيضاً كفّار إذ غرضهم الأقصى إبطال الشرائع ففي مستوى الإلهيات هم يقولون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان ، وهم بذلك يلتقون مع الثنوية والمجوس وفي مستوى النبوات " رؤيتهم للنبي والنبوة " هم يرون أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق " الإله الأول " بواسطة التالي (الإله الثاني)
قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات .
ح-أما القرآن في مفهومهم فهو تعبير عن المعارف التي فاضت على الرسول من العقل الذي هو المراد باسم جبريل .
س-أما عن الإمامة فقد : اتفقوا على أن الإمام يساوي النبي في العصمة والإطّلاع على حقائق الحق في كل الأمور إلا أنه لا ينزل إليه الوحي وإنما يتلقى ذلك من النبي خليفته وبإزاء منزلته .
ش-وأما القيامة والمعاد فقد أنكروهما وأوّلوهما على أنهما مجرد رمز خروج الإمام وقيام قائم الزمان .
و-وأما موقفهم من التكاليف الشرعية، ينبني على استباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع إن هذه الصفات والمعتقدات تسوي الباطنية بالكفار إلا أن الكفَّار يهّددون الإسلام من الخارج في حين أن الباطنية يهّددونه من الداخل، فهم عنصر مخّرب من داخل العقيدة ذاتها بما أنهم ينتسبون إلى الإسلام ويستظلون برايته ويّدعون أنهم حماته والمعّبرون عنه بصدق، لذلك فإن طريقة التعامل معهم يجب أن تكون أشد وأقصى من تلك التي يعامل بها الكفار ، كان لكتابات الغزالي أثر قوي في مجال الرد على الباطنية، فقد استطاع بفكره القوي وبما نال من شهرة أن يكون ذا تأثير قوي في مقاومة الباطنية، وأن يناصر المذهب السني، فقد استطاع توظيف العلوم الشرعية، والعلوم العقلية من الفلسفة، والمنطق والكلام في نسف جذور المذهب الباطني وقال فيهم كلمته التي سارت مسير الأمثال : ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهم يتسترون بالتشيع وما هم من الشيعة في شيء وإنما هو قناع يخفون وراءه كيدهم لأهل الإسلام ، ومما يذكر للغزالي : استمراره على نقد هذه الطائفة، وكشف اللثام عن تناقض أفكارها، وفضائح أعمالها، وسوء نواياها، برغم ما كان معلوماً في ذلك الوقت أن هذا النقد قد يكلفه حياته، وقد رأى بنفسه مصرع رجل الدولة الكبير، الوزير نظام الملك وفخر الملك ابن نظام الملك – أيضاً، فلم يجد بدا أمام ضغطه من الإذعان وكان الباطنية يهددون كل من يرونه خطراً عليهم من رجال الملك أو رجال العلم – بالانتقام في صورة طعنة في خنجر، أو سم يدس في طعام أو غير ذلك من الأساليب التي أتقنوها ونفذوها بكل دقة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على شجاعة الغزالي في صدعة بالحق، ومواجهة الباطل، مهما تكن النتيجة ولن يصيبه إلا ما كتب الله له . وهذا درس وتذكير للعلماء المعاصرين أن يصدقوا الله في مقاومة الباطنيين الجدد، وقد رأيت بعض المحسوبين على العلماء يخشونهم، ويخافون من القتل والاغتيال أو تهمة الوهم بالطائفية أو وقوعهم تحت أبر التخدير الباطنية، أو نتيجة مجاملات لا وزن لها في ميزان الشريعة أو حسابات دنيوية زائلة ولذلك تركوهم يعيثون بعقائد الأمة ومقدساتها، وساهم بعض علماء الأمة في تخدير الجمهور العريض من أبناء المسلمين مع علم هؤلاء العلماء بخطر هؤلاء القوم على عقائد الأمة وأخلاقها، أما يخشى هؤلاء الناس من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ويسأل الله فيه الصادقين عن صدقهم.
3-البعد السياسي في كتابات الغزالي :
يعتبر الغزالي المنظر الكبير للدولة السلجوقية السنية ولم يكن يعيش بعيداً عن الأحداث وصراعات السلاجقة مع خصومهم الفاطميين الإسماعيليين، فقد كان قبل عزلته وتركه للنظامية " فيلسوف الدولة الذي عاش في كنفها، بالمعنى الإيديولوجي الكامل لكلمة " فيلسوف" .
لقد انخرط في سلك حاشية الوزير السلجوقي نظام الملك منُذ الثامنة والعشرين من عمره، وباستثناء كتابين في الفقه ( التعليق والمنخول) ، فإن جميع ما كتبه الغزالي كتبه بعد انخراطه في سلك كبار رجال الدولة السلجوقية، وكما هو معروف فلقد كان الخصم الأساسي والخطير لهذه الدولة الإسماعيلية الباطنية – إسماعيلية " الموت"، بزعامة الحسن بن الصباح. وقد ركزت الإسماعيلية آنذاك في دعوتها السياسية على القول بضرورة " المعلم " أي الإمام، وكما هو معروف فقد كتب الغزالي في الرد على الباطنية "، وقد كتبه كما صّرح هو بنفسه بأمر من الخليفة العباسي المستظهر بالله، فأهداه إليه وسمي الكتاب أيضاً " المستظهري " ومذهب الإسماعيلية مذهب ديني فلسفي سياسي، وإبطال آرائهم السياسية والدينينة يتطلب أيضاً إبطال فلسفتهم، ولم تكن فلسفتهم شيئاً آخر غير الفلسفة التي كان يلتقي عندها في المشرق فلاسفة العصر يؤمئذ أعني الأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية الهرمسية. ومن هنا هجوم الغزالي على الفلسفة وعندما نفحص كتاب فضائح الباطنية، فنحن نتبين بوضوح كيف أن التهافت قد كتب فعلاً من أجل فضائح الباطنية، إذ هناك أمور تفهم بقراءة الفضائح في مقدمة تلك الأمور الدافع إلى الهجوم على الفلاسفة والذي هو دافع عقائدي واضح، لئن الفلاسفة يمدون الباطنية بالجانب التنظيري لمذهبهم، فقد كان الفلاسفة نصيراً قوياً ومعيناً لهم من ذلك، مثلاً عقيدتهم في المعاد فالملاحظ، كما يقول الغزالي، إن مذهبهم في المعاد : هو بعينه مذهب الفلاسفة، وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة، فكل واحد نصر مذهبهم طمعاً في أموالهم وخلعهم واستظهارً بأتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه، فصار أكثر مذهبهم موافقاً للثنوية والفلاسفة في الباطن، وللروافض والشيعة في الظاهر ، فقد انتشر مذهب الباطنية عندما انتصر لُه الفلاسفة، وانتصر له الفلاسفة طمعاً في أموالهم وصلاتهم والنتيجة وجود المصلحة المتبادلة التي ينتج عنها توافق في القول بين الفلاسفة والباطنية ولذلك كان الهجوم الكبير من الغزالي على الفلاسفة واستطاع تحويل المعركة التي كانت تدور فيما سبق بين الأشاعرة والمعتزلة إلى معركة بين الأشاعرة والفلاسفة وكتاب تهافت الفلاسفة ألفه الغزالي في المرحلة التي كان فيها أستاذ المدرسة النظامية دون منازع ، وأما الجانب الآخر فهو أن دعوى " المعلم " و" التعليم " التي ركزت عليها الإسماعيلية يومئذ وهناك من يقول أنه لا سبيل إلى إبطالها إلا بطرح بديل؛ والبديل- عند الغزالي هو المنطق وبالتالي فإلحاح الغزالي على ضرورة اصطناع المنطق منهجاً وحيداً في تحصيل العلم لم يكن من أجل المنطق ذاته، بل كان ضد نظرية " التعليم" العرفانية الإسماعيلية الباطنية ومن أجل تقوية المذهب الأشعري الذي كانت الدولة السلجوقية قائمة على أسسه الفكرية والعقائدي وبالتالي كان هذا البعد يعتبر توجيه ضربة قوية لخصوم السلاجقة كالدولة الفاطمية الإسماعيلية ودعاتها في مرتكزاتها الفكرية ويبقى الجانب الثالث وهو الدعوة إلى التصوف، والتصوف كما هو معروف كان الأساس الإيديولوجي والتنظيمي لكيان الدولة السلجوقية، وإذن فموقف الغزالي من هذه الناحية مفهوم ومبرر، ليس هذا وحسب، بل إن الغزالي من هذه الناحية قد أدرك بوضوح أن الجانب الروحي في العرفان الشيعي عامة لا يمكن تعويضه باصطناع المنطق، فلم يبق إذن إلا تجريد التصوف الباطني من طابعه السياسي الذي طبعته به الشيعة الإمامية والإسماعيلية – ومحاولة – توظيفه توظيفاً سنياً، وقد فعل الغزالي ذلك انطلاق من التراث السني العظيم .. وأذن فالأطراف الثلاثة : الدعوة إلى التصوف، مهاجمة الفلاسفة الدعوة إلى اصطناع المنطق – ربما – تجسم فعلاً تناقضاً واضحاً، ولكن فقط على صعيد الفكر المجرد، أما على صعيد السياسة والإيديولوجياً، فقد كانت، في وقتها أسلحة ثلاثة متكاملة موجهة نحو خصم واحد .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق