132
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الرابع : أشهر علماء المدارس النظامية في العهد السلجوقي :
ثانياً : إمام الحرمين عبد الملك الجويني :
الإمام الكبير، شيخ الشافعية، إمام الحرمين، أبو المعالي، عبدُ الملك ابن الإمام أبي عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّويه الجُوينُّي، ثم النيسابوري، ضياء الدين الشافعين صاحب التصانيف ولد في أول سنة تسع عشر وأربع مائة .
1-شيوخه :
دأب إمام الحرمين منُذ صغره على تحصيل العلم، وبذل من أجل ذلك جهد عظيماً، فكان يصل الليل بالنهار ، تلقياً عن كبار علماء ومشايخ عصره، واستمر الجويني في ذلك حتى بعد أن قعد للتدريس في مجلس والده ، ومن أشهر شيوخه والده أبو محمد الجويني، وأبو القاسم الاسفراييني، وكان من رؤساء متكلمي الأشاعرة، وأعيان الشافعية، والمعروفين في الفتوى وكان يميل إلى الزهد والورع، وله قدم في النظر والتدريس مع ميل إلى طريق السلف وتتلمذ على الشيوخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان إمام الحرمين، يلازمه ويقرأ عليه الأصول حتى تخرج بطريقته ومن شيوخه أبو عبد الله الخباز، اختص بالقراءة حتى أصبح شيخ القراء في عصره، وكان إمام الحرمين يبكر كل يوم قبل الاشتغال بالتدريس إلى مجلس الخبازي ويقرأ عليه القرآن ، ومن شيوخه القاضي حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروذي، كان فقيه خراسان في عصره وشيخاً للشافعية ويقال حبر الأمة تفقه على إمام الحرمين وكان يقول فيه : إنه حبر المذهب على الحقيقة ومن شيوخه أبو نعيم الأصفهاني الحافظ وكان من كبار الصوفية والمحدثين الحفاظ الثقات، والفقهاء الكبار، وإتقن الحديث دراية ورواية من تصانيفه المشهورة؛ حلية الأولياء، ودلائل النبوة وتاريخ أصبهان، ومعرفة الصحابة، والمستخرج على البخاري ومسلم، أخذ عنه إمام الحرمين وحصل على الإجازة منه ، ومن شيوخه أبو القاسم الفوراني، اشتغل بالفقه وأصوله، وله مصنفات كثيرة في المذهب والأصول والخلاف والجدل والملل والنحل، كان الجويني يحضر درسه وهو شاب بمرو ، ومن شيوخه أبو الحسن المجاشعي، بالنحو لذا يقال له : النحوي صنّف العوامل والهوامل، وشرح عنوان الأعراب، والإشارة في تحسين العبارة ، ومن شيوخه أبو سعيد الميهني وكان من أهل التصوف له أحوال وكرامات نقده الذهبي وتكلم فيه ابن حزم الأندلسي ودافع عنه السبكي وقال : وكان صحيح الاعتقاد حسن الطريقة أحواله تبهر العقول .. روى عنه إمام الحرمين ويمكن أن تكون نفحة الصوفية التي لازمت الحرمين بفعل أبي سعيد الميهني ، وغير ذلك من المشايخ.
2-تلامذته :
لا خلاف بين أصحاب التراجم، بأن الجويني قد أصبح في نيسابور محط أنظار العلماء والتلامذة، لذا رحل إليه الطلبة، والمشايخ من مختلف الأرجاء، وثابروا على حضور مجالسه العلمية، وحلقات درسه، فتخرج به كثير من العلماء، ومما ساهم في كثرة تلامذة إمام الحرمين؛ تسلمه عمادة أمر الننَّظامية التي بنيت في نياسبور والتدريس بها، واستمر على هذا الحال زهاء عشرين عاماً وكان يجلس في حلقات درسه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل من الطلبة والأئمة وفي السنة التي توفي بها الجويني، كان عدد تلامذته في النظامية قريباً من أربعمائة طالب علم، وتلامذة الجويني في أغلبهم لم يكونوا من العلماء المغمورين، وإنما قد اشتهر كثير منهم، وذاع صيته، وأصبح علماً للعلم في ميدانه، ومن هؤلاء التلامذة .
أ- الإمام الغزالي. ب – أبو نصر القشيري. ج- الكياهراسي .
3-ثناء العلماء عليه :
عاش إمام الحرمين في عصر كثر فيه العلماء الأعلام من مختلف المذاهب العامة، والأقطاب الشافعية، ففي وقت قصير نسبياً، تمكَّن بواسع علمه، وعمق ثقافته، من دفع أقرانه من الشافعية والأشاعرة على حد سواء، إلى الاعتراف بعلو مكانته، وأقروا له بزعامتهم ورئاستهم، إذ " قُلَّد زعامة الأصحاب ورياسة الطائفة ، كذلك تولى الجويني مناصب أخرى، كان أغلب معاصريه يحرصون على توليها، ومن هذه المناصب : أمور الأوقاف، والمحراب والمنبر، ومجلس التذكير يوم الجمعة، والخطابة ، ومما يؤكد المكانة العالية التي تبوأها هذا الإمام، أنه عندما بُنيت نظامية نيسابور، طلب إليه تولي إدارتها، والتدريس بها، والخطابة، والمناظرة بها ، وكان لتوليَّ الجويني أمر هذه النظامية دور كبير في نجاحها، وإقبال الطلبة عليها من كل حدب وصوب، ويذكر المؤرخون أن أعداد الطلبة في هذه المدرسة أيام إمام الحرمين كان يصل إلى نحو من أربعمائة رجل من الأئمة والطلبة .
وقال عنه أبو محمد الجرجاني : إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره، عديم المثل في حفظ لسانه . وقال سعيد السَّمعاني : كان أبو المعالي، إمام الأئمة على الإطلاق مُجمعاً على إمامته شرقاً وغرباً، لم تر العيون مثله، تفقَّه على والده، وتُوفي أبوه ولأبي المعالي عشرون سنة فَّدرس مكانه، وكان يتردَّدُ إلى مدرسة البيهقي، وأحكم الأصول على أبي القاسم الاسفراييني الإسكاف. وكان ينفق من ميراثه ومن معلوم له، إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين، واضطربت الأحوال فاضطر إلى السفر عن نيسابور، فذهب إلى المعسكر، ثم إلى بغداد وصحب الوزير أبا نصر الكُنُدري مدة يطوف معه، ويلتقي في حضرته بكبار العلماء، ويناظرهم، فتحنَّك بهم، وتهذَّب، وشاع ذكره، ثم حَجَّ وجاور أربع سنين يدرَّس ويفتي، ويجمع طرق المذهب، إلى أن رجع إلى بلده بعد مُضيَّ نوبة التعصب، فدرّس بنظامية نيسابور، واستقام الأمر، وبقي على ذلك ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مُسلمَّاً له المحراب والمنبر والخطبة والتدريس، ومجلس الوعظ يوم الجمعة، وظهرت نصانيفه وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلّبة، كان يقعد بين يديه نحو من ثلاث مائة، وتفقه به أئمه .
4-من أخلاقه وصفاته :
فقد حباه الله صفات عالية وأخلاقاً سامية هيأت له تلك المنزلة التي شغلها بين العلماء، وجعلته جديراً بالمكانة التي أعتلاها بين الحكماء ومن هذه الأخلاق.
أ-التواضع : فقد ذكروا أنه كان من التواضع لكل أحد بمحل يتخيل منه الاستهزاء لمبالغته فيه، وما كان يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول هذه الفائدة مما استفدته من فلان .
وكان يتعلم من تلاميذه بعضد الفنون التي ينبغون فيها، ولا يجد في ذلك حرج ولا غضاضة، وجاء في ترجمة الإمام عبد الرحيم بن الإمام أبي القاسم القشيري : تخرج على إمام الحرمين.. وواظب على درسه، وصبحه ليلاً ونهاراً ... وكان الإمام يعتد به ويستفرغ أكثر أيامه معه مستفيداً منه بعض مسائل الحساب في الفرائض، والدور، والوصية . وكان يُعنى بأقواله في الفقه قال السبكي عن ذلك : وأعظم به الإمام عبد الرحيم أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية، وهذه مرتبة رفيعة .
ب-حر الرأي والضمير : كان حر الرأي والضمير لا يقلد أحداً، فمنُذ شبابه رفض أن يقلد والده وأصحابه، وأخذ في التحقيق . وفي هذا المجال لم يكن يحابي أحداً ولو كان أباه، أو أحد الأئمة المشهورين. قال في اعتراض عن والده : وهذه زلة من الشيخ رحمه الله .
ج-قوة الذاكرة : كان يتمتع بذاكرة نادرة وحافظة لاقطة. رووا عنه أنه : كان يذكر دروساً يقع كل واحدة منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها مكان غيرها بل يمر فيها مراً كالبرق الخاطف بصوت مطابق كالرعد القاصف .
خ-صبره في طلب العلم : تميز رحمه الله بصبر ودأب نادرين في طلب العلم والبحث، فمع أنه قعد للتدريس مكان أبيه فلم يشغله ذلك عن البحث والدرس، فكان يبكر قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات ويقتبس من كل نوع من العلوم ، وعن أبي الحسن بن أبي عبد الله بن أبي الحسين : سمعت إمام الحرمين في أثناء كلامه له يقول : أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلاً، أو نهاراً وآكل إذا اشتهيت الطعام أيَّ وقت كان ... ثم يقول أبو الحسن : كان لذته ولهوه وتفننه في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان ، قال عنه المجاشعي النحوي : ما رأيت عاشقاً للعلم مثل هذا الإمام .
د-رقة القلب وخشوعه : رزقه الله رقة القلب وخشوعه، وشفافية نادرة، قالوا : ومن رقة قلبه أنه كان يبكي إذا سمع بيتاً أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، خاصة في علوم الصوفية، في فصول مجالسة بالغدوات أبكى ببكائه، وقطر الدماء من الجفون بزعفاته وإشاراته لاحتراقه في نفسه، وتحققه مما يجري من دقائق الأسرار .
ويصور السبكي هذا قائلاً : وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوباً جديداً، ونادته القلوب : إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديد .
إن التصوف في حقيقته هي التزكية وحفظ الجوارح من المعاصي وتطهير النفوس من أمراضها والزهد في الدنيا والتعلق بالله وحده مع الخلو من البدع والانحرافات والخرافات والغلو التي ما أنزل الله بها من سلطان وهي جوهره جزء من الإسلام، لأنه عبارة عن تربية النفس لتوثيق صلتها بالله تعالى، وتعميق مراقبتها له في كل لحظة واستمرار القلب واللسان في ذكر الله تعالى، وكان العلماء في سلف هذه الأمة يهتمون بتزكية نفوسهم والإكثار من الذكر والأوراد ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، إلا أن طريق التصوف في وقتنا الحالي يحتاج إلى تنقية وعرض تراثه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد تسربت بعض الأفكار الدخيلة إلى العقيدة مما ينكره الدين والإسلام، فعلم التزكية له أصوله من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام والتابعين بإحسن، من أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار ومحمد بن واسع وعبد الله بن المبارك وغيرهم كثير.
ذ-كرمه وجوده : وأما كرمه وسخاؤه، فقد كان مضرب المثل، لم يشغل بمال يثمره، ولا براتب يدخره، فقد كان ينفق على طلبة العلم، ويبحث عمن يدرس الفقه لينفق عليهم، ويبحث عنهم . هذه بعض صفاته التي ذكرها المؤرخون.
5-القيمة العلمية لكتاب الإمام الجويني غياث الأمم :
من مقدمة كتاب " غياث الأمم في التياث الظلم " يمكن الاستنتاج بأن هذا الكتاب " غياث الأمم في التياث الظلم " يمكن الاستنتاج بأن هذا الكتاب قد وضع أصلاً لتبيان حقيقة الدين الإسلامي في أمور الإمامة والولاية وحملة الشريعة وفق اجتهاده، والخطاب فيه موّجه إلى وزير الدولة نظام الملك، فقد حاول تبيان أهمية الدور الذي لعبه الوزير نظام الملك في تثبيت أركان المذهب السني وإعزاز مكانته في الدولة السلجوقية وقد بالغ في وصفه في مقدمة الكتاب حيث قال : سيد الورى وموصل الدين والدنيا، وملاذ الأمم، مستخدم السيف والقلم ومن ظَل ظل الملك بيمن مساعيه ممدوداً، ولواء النصر معقوداً فكم باشر أوار الحرب وأدار رحى الطعن والضرب ، الخ.
إن كتاب " غياث الأمم في التياث والظلم " كتاب شامل في مسائل الإمامة وما يتصل بها من أمور، وهي شمولية لا تتصف بها كتب السابقين وخصوصاً كتاب " الأحكام السلطانية " كما أنه لا يقوم على الاجتهاد المحض كما هو الأمر لدى الماوردي، بل على الأدلة الشرعية التي تخص المسألة المطروحة للبحث ، والبنية الأساسية لموضوع الكتاب هي الرد على المخالفين لأهل السنة وعلى الأخص الفرق الإسلامية من الشيعة في موضوع الإمامة، ولذا أصبح مرجعاً في هذا الشأن، كما تميّز كتاب غياث الأمم في التياث والظلم أوسع كتاب ظهر في الفكر السياسي الإسلامي في مسائل الإمامة إذا قارناها بالأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وتحرير الأحكام لابن جماعة، إضافة إلى المنهج النقدي الذي اتبعه إمام الحرمين في دراسته، إذ لا يكتفي بعرض الموضوع من الناحية الشرعية فقط وآراء الفقهاء السابقين عليه حوله، بل يُمحّص هذه الآراء ويفنّد الخاطئة منها، وهذا أمر قلّ حدوثه في المؤلفات الإسلامية في حقل السياسية ، وقد ناقش الإمام الجويني في كتابه غياث الأمم، نظرية الإمامة وما يدور حولها، كوجوب نصب الأئمة وقادة الأمة، الجهات التي تعين الإمامة وتوجب الزعامة، في صفات أهل الحل والعقد واعتبار العدد فيمن إليه العهد، في صفات الإمام القوام على أهل الإسلام، في الطوارئ التي توجب الخلع والانخلاع، في إمامة المفضول، في نصب إمامين، تفصيل ما إلى الأئمة والولاة وكتاب غياث الأمم التياث الظلم يعطي صورة واضحة عن الفكر السياسي السني في ظل الذروة التي وصل إليها المذهب السني على يد السلاجقة واستقرار الأمن الفكري على يد الوزير نظام الملك .
إن شخصية الإمام الجويني رحمه الله تتميز بالاستقلالية، والإضافة والأمانة – بالنسبة لكتابته – وهذه الأمور الثلاثة هي أكثر ما نحتاج إليه في البحوث الإسلامية المعاصرة إنه لم يكن يرضى بتقليد والده مع أنه كان إماماً في عصره وكان لا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها ويقول : إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، وأخيراً فإن هناك ثلاثة كتب تعد من أنفع كتب التراث للاقتصاديين المسلمين، وهي : الغياثي للإمام الحرمين وهو أسبقها، وقواعد الأحكام لسلطان العلماء وهو أمتعها، ومقدمة ابن خلدون وهو أشملها .
6-عودته إلى مذهب السلف ورجوعه عن علم الكلام :
يعتبر الجويني إمام الحرمين من أعظم أعلام الأشاعرة، ولا يكاد يذكر المذهب الأشعري إلا يسبق إلى الذهن هذا الإمام المشهور كأحد من يتمثل هذه المذهب في أقواله وكتبه، وقد قام إمام الحرمين باجتهادات داخل المذهب الأشعري، فالجويني وإن تبنى أقوال شيوخه السابقين ونقلها إلا أنه رد أو ناقش منها ما يرى أنه يستحق الرد والمناقشة ، ولما كان الجويني ممن خاض في مسائل علم الكلام أكثر ممن سبقه وما تميزت به شخصيته من استقلال واعتداد، بحيث لا يرى غضاضة في مخالفة شيوخه ولو كانوا أعلاماً كالأشعري والباقلاني، وابن فورك وأبي إسحاق الاسفراييني وغيرهم، فقد برز في كتبه ما يدل على تراجعه على بعض أقواله ويمكن عرض الشواهد التالية :
أ-حيرته في مسأله العلو : وسُئل عن قوله : " الرحمن على العرش استوى " (طه، آية : 5) فقال : كان الله ولا عرش. وهو الآن على ما كان عليه، فرد عليه أحد العارفين، لكن الضرورة في قلوبنا تطلب العلو ولا نلتفت يمنة ولا يسره، وما قال عارف قط يا رّباه إلاّ وسبقه نظره إلى فوق، فما كان من إمام الحرمين إلا ضرب بكمه السرير، وصاح بالحيرة والدهشة ، وجاء في رواية الذهبي : أخبرني أبو جعفر الحافظ، سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله : " الرحمن على العرش استوى " (طه، آية : 50) فقال : كان الله ولا عرش، وجعل يتخبَّطُ، فقلت : هل عندك للضرورات من حيلة ؟ فقال : ما معنى هذه الإشارة ؟ قلت : ما قال عارف قط : يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة – يقصد الفوق – فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؛ فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت ؟ وبكيت وبكى الخلق، فضرب بكّمَّه على السرير، وصاح الحيرة، ومَزَّق ما كان عليه، وصارت قيامة في المسجد، ونزل يقول : يا حبيبي : الحيرة الحيرة والدهشة ، وجاء في رواية : حيرني الهمذاني .
ب-عودته إلى مذهب السلف في الصفات : قال أبو المعالي في كتاب الرسالة النظامية : اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحقَّ فحواها ، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في القرآن، وما يصح من السُّنن، وذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، ندين الله به عقداً اتباع سلف الأُمَّة، فالأولى الإتباع، وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحبُ الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو مختوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا تصَّرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل؛ كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتُبَّع، فحقَّ على ذي الدين أن يعتقد تنزُّه الباري عن صفات المُحدَثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويَكِل معناها إلى الرب، فليُجْر آية الاستواء والمجيء – أي " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " (الفجر ، آية : 22) – وقوله " لما خلقت بيديّ" (ص ، آية : 75). " ويبقى وجه ربك "(الرحمن ، آية : 27) " تجري بأعيننا " (القمر، آية : 14). وما صّح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه .
وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرُّستمي قال : حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال :دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال : أشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السُّنة، وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور ، وقال في كتابه الغياثي – الذي ألفه بعد النظامية – فهو من آخر كتبه موصياً مغيث الدولة الذي هو نظام الملك قائلاً : والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء، وكانوا – رضي الله عنهم – ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجميع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكفون – رضي الله عنهم – عما تعرض له المتأخرون عن وعي وحصر، وتبلد في القرائح، هيهات، قد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً .
ت-نهيه أصحابه عن علم الكلام : فقد رجع عن علم الكلام وهو من الأمور المشهورة عنه ومن أقوله، ما رواه الفقيه غانم الموشلي : سمعت الإمام أبا المعالي يقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام وروي عنه أنه قال : قرأت خمسين ألفاً في خمسين، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص : لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني
7-مؤلفاته : ترك الإمام الجويني رحمه الله ثروة هائلة من الكتب والمصنفات ومن أهم مؤلفاته :
في العقيدة :
-لمع الأدلة في قواعد أهل السنة.
-الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد.
-الشامل في أصول الدين.
-شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل.
-رسالة في أصول الدين.
-مسائل الإمام عبد الحق الصقلي وأجوبتها.
-مختصر الإشاد للباقلاني.
-العقيدة النظامية.
-كتاب النفس.
-كتاب الكرامات.
-مدارك العقول.
-كتبه في الفقه وأصوله :
-نهاية المطلب في دراية المذهب.
-مختصر النهاية.
-البرهان في أصول الفقه.
-الورقات.
-التلخيص في أصول الفقه.
-مؤلفات في الخلاف والجدل والسياسة :
-مغيث الخلق في اختيار الأحق.
-الدرة المعنية فيما وقع من خلاف بين الشافعية والحنفية.
-الأساليب في الخلاف.
-الكافية في الجدل.
-العمد.
-غياث الأمم في التياث الظلم ومن أراد التوسع فليراجع مقدمة كتاب العقيدة النظامية.
فقد أفاد محقق الكتاب الدكتور محمد الزبيدي في سيرة الجويني وأثاره، وكذلك كتاب فقه إمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب، وكتاب الإمام الجويني إمام الحرمين للدكتور محمد الزحيلي.
8-وفاته :
أصيب الجويني قبل وفاته بمرض اليرقان عدة أيام، انقطع خلالها عن المجالس وحلقات التدريس بالنظامية ثم تعافى من المرض ورجع إلى التدريس والمناظرة، وأضفى ذلك سروراً بالغاً على تلامذته ومحبيه، لكن المرض عاوده من جديد واشتد عليه، فزاد ضعفه، ولم يقَو على مزاولة أعماله ثم نقل إلى بلدة بشتقان إحدى قرى نيسابور، وكانت معروفة باعتدال هوائها. إلا أن المرض تمكّن منه وبدت عليه أحوال الموت، ثم توفي في هذه البلدة وقت صلاة العشاء في الخامس والعشرين في شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وسبعين وأربع مائة للهجرة، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة ، ثم نقل جثمان الجويني في تلك الليلة إلى نيسابور، وحمل في يوم الأربعاء بين الصلاتين إلى ميدان الحسين في المدينة وصلى عليه ثم أعيد إلى داره ودفن فيها، لكن جثمانه نقل فيما بعد إلى مقبرة الحسين في نيسابور ودفن إلى جانب والده . وكان لوفاة الجويني وقعاً شديداً على أهالي نيسابور والبلاد المجاورة بعامة، وعلى تلامذته ومحبيه بخاصة ، فقد كسروا منبره، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربع مائة تلميذ، وكسروا محابرهم وأقلامهم، وأقاموا حولاً، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه وكانت الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع . وقد علق الذهبي على ذلك فقال هذا كان من ذيّ الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين ومما رثي به :
قلوب العالمين على المقالي
وأيام الورى شبه الليَّالي
أيثمر غصن أهل العلم يوما
وقد مات الإمام أبو المعالي
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق