131
دولة السلاجقةوبروز مشروع إسلامي لمقاومةالتغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الرابع
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
المبحث الرابع : أشهر علماء المدارس النظامية في العهد السلجوقي :
أولاً :أبو إسحاق الشيرازي :
هو الشيخ، الإمام، القدوة، المجتهد، شيخ الإسلام، أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي، الشيرازي، الشافعي، نزيل بغداد، قيل لقبه جمال الدين ، كان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاث مائة .
1-شيوخه وتلاميذه :
تفقه على أبي عبد الله البيضاوي، وعبد الوهاب بن رامين بشيراز وأخذ بالبصرة عن الخرزي وقدم بغداد سنة خمس عشرة وأربع مائة، فلزم أبا الطيب الطبري، وبرع وصار مُعيده، وكان يُضرب المثلُ بفصاحته وقوة مناظرته، وسمع من أبي علي بن شاذن، أبي بكر البرقاني ومحمد بن عبيد الله الخرجُوشي، وحدث عنه : الخطيب، وأبو الوليد الباجي، والحمُيديُّ، وإسماعيل ابن السمرقندي، والزاهد يوسف بن أيوب، وأبو نضر أحمد بن محمد الطوسي، وأبو الحسن بن عبد السلام، وأحمد بن نصر بن حِمّان الهمذاني خاتمة من روى عنه .
2-مكانته وثناء الناس عليه :
قال السمعاني : هو إمام الشافعية ومدرس النظامية، وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة والطريقة المرضيّة، جاءته الدنيا صاغرة، فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته. صنف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهداً، ورعاً، متواضعاً، ظريفاً، كريماً، جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة . وقال أبو بكر الشاشي : أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر ، وقال الموفق الحنفي : أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء . ولما قدم أبو إسحاق نيسابور رسولاً تَلقَّوه، وحمل إمام الحرمين غاشية، ومشى بين يديه وقال : أفتخر بهذا . وكان عامة المدرسين بالعراق والجبال تلامذته وأتباعه – وكفاهم بذلك فخراً، وكان ينشد الأشعار المليحة، ويوردها، ويحفظ منها الكثير . وكان الوزير ابن جهير كثيراً ما يقول : الإمام أبو إسحاق وحيد عصره وفريد دهره، ومستجاب الدعوة . وقال نظام الملك : وأثنى على أبي إسحاق، وقال : كيف حالي مع رجل لا يُفرَّق بيني وبين نهروز الفَرَّاشي في المخاطبة ؟ قال لي : بارك الله فيك وقال له ما صبَّ عليه كذلك . وقال محمد بن عبد الملك الهمداني : حكى أبي قال : حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي عزاءً، فتكلم الشيخ أبو إسحاق واجلاً، فلما خرجنا قال الماوردي : ما رأيت كأبي إسحاق، لو رآه الشافعي لتجمَّل به ، وقال السَّلفي سألت شجاعاً الذُّهلي عن أبي إسحاق فقال : إمام أصحاب الشافعي والمقَّدم عليهم في وقته ببغداد، كان ثقة، ورعاً، صالحاً، عالماً بالخلاف علماً لا يشاركه فيه أحد ، قال محمد بن عبد الملك : ندب المقتدى بالله أبا إسحاق للرسلية إلى المعسكر، فتوجَّه في آخر سنة خمس وسبعين، فكان يخرج إليه أهل البلد بنسائهم وأولادهم يمسحون أردانه ، ويأخذون تراب نعليه يستشفون به، وخرج الخبَّازون ونثروا الخبز، وهو ينهاهم، ولا ينتهون، وخرج أصحاب الفاكهة والحلواء، ونثروا على الأساكفة، وعملوا مداسات صغاراً ونثروها، وهي تقع على رؤوس الناس، والشيخ يعجب، وقال لنا : رأيتم النَّثار، ما وصل إليكم منه ؟ فقالوا : يا سيدي وأنت أيَّ شيء كان حظك منه ؟ أنا غطَّيت بالمحَفَّة . وهذا الأثر يدل على محبة الناس له ومكانته في قلوبهم وقد حاول الشيخ أن ينهاهم عن هذه التصرفات وهذه هي أخلاق العلماء ولكنّ العوام تصدر منهم مثل هذه الأمور نتيجة العاطفة وإن كان فيها بعض التجاوزات وقال شيرويه الدّيلمي في تاريخ همذان : أبو إسحاق إمام عصره قدم علينا رسولاً إلى السلطان ملكشاه، سمعت منه، وكان ثقة زاهداً في الدنيا على التحقيق، أوحد زمانه ، وقال الذهبي عنه : درّس بها – أي المدرسة النَّظامية – بعد تمنع، ولم يتناول جَامِكّية ، أصلاً، وكان يقتصر على عمامة صغيرة وثوب قطني، ويقنع بالقوت، وكان الفقيه رافع الحمال رفيقه في الاشتغال، فيحمل شطر نهاره بالأُجرة، وينفق على نفسه وعلى أبي إسحاق، ثم إن رافعاً حجَّ وجاور، وصار فقيه الحرم في حدود الأربعين وأربع مائة .
3-مؤلفاته وشيء من شعره :
قال الشيخ أبو إسحاق : كنت أُعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت أخذت قياساً آخر على هذا، وكنت أُعيد كل درس ألف مرة، فإذا كان في المسألة بيت يُستشهُد به حفظت القصيدة التي فيها البيت . وكان يصلى عند فراغ كل فصل من المهذب ، وكان إماماً في الفقه والأصول والحديث وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة ، وبحسن نيته في العلم اشتهرت تصانيفه في الدنيا ، كالمهذَّب في المذهب، والتنبيه والنكت في الخلاف واللمع في أصول الفقه، والتبصرة والمعونة وطبقات الفقهاء وغير ذلك ، ومن شعره الذي نظمه :
أحِبُّ الكأس من غير المدام
وألهو بالحساب بلا حرام
وما حُبَّي لفاحشة ولكن
رأيت الحُبَّ أخلاق الكرام
وقال : سألت الناس عن خلل وفيَّ
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بِوُدَّ حُرَّ
فإن الحُرَّ في الدنيا قليل
وقال :
ولو أنَّي جُعِلتُ أمير جيش
لما قاتلت إلا بالسُّؤَال
لأنّ الناس ينهزمون منه
وقد ثبتوا لأطراف العوالي
وقد امتدحه الشعراء في حياته ومنهم عاصم بن الحسن حيث قال فيه :
تراه من الذَّكاء نَحيفَ جسم
عليه من توقُِّده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعاني
فليس يضيره الجسم النحيل
4-وفاته :
توفي ليلة الحادي والعشرين من جمادي الآخرة سنة ستَّ وسبعين وأربع مائة ببغداد، وغسَّله أبو الوفا بن عقيل الحنبليُّ، وصُلىَّ عليه بباب الفردوس من دار الخلافة وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر الله، وتقَّدم للصلاة عليه أبو الفتح المظفَّرُ ابن رئيس الرُّؤساء، وكان نائب الوزارة، ثم صُلىَّ عليه مرة ثانية بجامع القصر ودُفن بباب أبرز في تُربة مجاورة للناحية، رحمه الله تعالى ، وعمل العزاء بالنَّظامَّية، ثم رَتَّب، المؤيد بن نظام الملك بعده في تدريس النظامية أبا سعد المتولي، فلما بلغ ذلك النظام، كتب بإنكار ذلك، وقال : كان من الواجب أن تُغلق المدرسة سنة من أجل الشيخ، وعاب على من تولَّى، وأمر أن يُدرَّس الإمام أبو نصر عبُد السيد بن الصباغ بها . وممن رثاه أبو القاسم بن ناقياء الأديب الشاعر حيث قال :
أجرى المدامع بالَّدم المهراق
خطب أقام قيامة الآماق
خطب شَجَامِنّا القلوب بلوعة
بين التراقي ما لها من راق
ما لِليَّالي لا تُؤَلفَّ شملها
بعد ابن بجدتها أبي إسحاق
إن قيل مات فلم يمت من ذكره
حيُّ على مَّر الليالي باق
ومات أبو إسحاق، ولم يخلف درهماً ولا عليه درهم، فليكن الزهد، وما تزوج فيما أعلم ، ولم يمت إلا بعد أن ترك أثراً نافعاً خلفه من المصنفات والعلماء والخطباء والقضاة، فعن أبي إسحاق قال : خرجت إلى خراسان فما دخلت بلدة إلا كان قاضيها أو خطيبها أو مفتيها من أصحابي .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق