108
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية
المبحث السادس:أهمية التربية والتعليم في النهوض الحضاري:
أدرك المشرفون على عملية التغيير وفقه النهوض أن عز هذه الأمة وقوتها في تمسكها بدينها وعملها بكتاب ربها وسنة نبيها وأن الجيل الأول من سلف هذه الأمة ما انتصر على أعدائهم إلا بقوة العقيدة، وأن النصر والتأييد والتمكين لهذه الأمة مقرون بالالتزام بعقيدة التوحيد الخالصة، والعمل بمقتضاها، وأن هذه الأمة تكون هدفاً للسهام وطعمة لسيوف الأعداء بمجرد الزيغ عن هذه العقيدة، والإنحراف عن هذا المنهج وأن الهزائم التي حلت بالمسلمين أمام حملات الصليبيين كانت ثمرة طبيعية ونتيجة حتمية للانحراف العقائدي والفساد الفكري الذي أصاب الأمة ( ) ، وقد ألهم الله قادة الأمة من أمثال نور الدين محمود إلى إدراك دور العقيدة الصحيحة في صناعة النصر وأن الأمة بدونها تتحول إلى قطيع من الأغنام لا تقوى على شيء ولذلك فإن أول ما بدأت به عملية التغيير والإصلاح والتجديد هو إعادة بناء العقيدة في النفوس، وإعادة صياغة الإنسان المسلم على التوحيد الخالص، بتجديد العقيدة في نفوس الناس وإزالة كل ما علق بالنفوس من بدع وعقائد فاسدة ولذلك راحوا يواجهون التحديات الباطنية في إفساد العقائد الإسلامية بنشر العقيدة الصحيحة عن طريق مؤسسات تجسد العقيدة في النفوس وواقع الحياة اليومية عن طريق التعليم الإسلامي النقي في عدد من المدارس والمساجد تم إنشاؤها وإعدادها لهذا الغرض قام بالتدريس فيها صفوة من علماء الأمة وخيرة مفكريها ( ).
وقد كانت بداية حركة الإصلاح والتجديد على يد السلاجقة السنة الذين زحفوا على بغداد واستنقذوا الخليفة العباسي من الأسر والذل الفاطمي الرافضي الشيعي بعد الإنقلاب الذي دبرته الدولة الفاطمية على يد القائد العسكري البساسيري الذي تشيع وترفض واعتنق المذهب الإسماعيلي، وقد هدى الله قادة تلك الدولة السلجوقية السنية إلى أن السيوف تفل السيوف، وأن الحجة لاتقرع إلا بالحجة، وأن الأفكار والعقائد لابد من غرسها عن طريق التعليم والتربية والتهذيب لا بالسيف والسنان خصوصاً وأن مذهب أهل السن والجماعة هو مذهب الحق ودين الله تعالى الذي بعث به رسوله، فأنشاوا لهذا الغرض ما عرف باسم المدارس النظامية نسبة إلى الوزير العظيم نظام الملك وقد تحدثت عن سيرة نظام الملك والمدارس النظامية في كتابي دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي وإلى جانب نظام الملك كان هناك عشرات من الذين تولوا الإدارة والجيش والقضاء والحسبة وآخرون تولوا القيام على المدارس النظامية كالإمام الجويني وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي القاسم القشيري والإمام الغزالي وغيرهم ولقد واجهت الدولة السلجوقية ورجالها العظام الخطر الفاطمي الباطني الذي انتشر في مختلف البقاع الإسلامية، لقد كانت المدارس النظامية والحركة المباركة التي قادها السلاطين السلاجقة من أمثال ألب أرسلان – مع العلماء لمواجهة التحدي الفاطمي الرافضي الباطني أطيب الأثر في وضع الأمة على الطريق الصحيح الذي سار عليه من بعدهم رجال من القادة السياسيين والعلماء العاملين المخلصين، فكانت لتلك الشجرة الطيبة الكثير من الغصون والثمار التي طابت وأينعت وامتدت ونمت وتفرعت حتى عم خيرها الجميع ( ) ، وقد تحدثت عن حركة الإصلاح التي قام بها الإمام الغزالي في كتابي عن دولة السلاحقة وعن جهوده الفذة في مقارعة التشيع الرافضي الباطني وسيأتي الحديث بإذن الله عن المدرسة القادرية وشيخها عبد القادر الجيلاني وجهوده في الإحياء السني ودوره في نهضة الأمة وترشيد التصوف السني، فقد لعبت المدرسة القادرية دوراً مهماً جداً في حركة الإصلاح والتجديد والتغيير الاجتماعي وتهيئة الأمة للجهاد في سبيل الله. وعندما جاء نور الدين للحكم استفاد من الجهود العلمية والتربوية التي سبقته وأدركت دولته أن التعليم هو الدعامة الإساسية في بناء الشخصية المتكاملة من جميع النواحي العقائدية، والثقافية والفكرية... إلخ
واعتبرت الإنسان الكنز الذي لا يقدر بأي ثمن، فجعلته مدار اهتمامها، وقطب الرحى في تفكيرها فعمدت إلى بناء المؤسسات التعليمية من مدارس ودور القرآن والحديث، وأحيت رسالة المسجد ليسهم في عملية البناء والتصحيح الجديدة، وتوجيه وتوعية الأمة وتعبئتها تعبئة عامة شاملة لمواجهة الأخطار ومجابهة التحديات الداخلية الباطنية والخارجية الصليبية، وكونت مجلساً عاماً يشرف على العملية التعليمية والصياغة التربوية يضم أهل الحل والعقد وهيئة كبار العلماء العاملين المخلصين والقادة العسكريين والفقهاء والشيوخ المستنيرين وكان نور الدين أحد أعضاء هذا المجلس الأعلى الذي يشرف على التخطيط العام والشامل، وكان يجلس مع العلماء والشيوخ يتدارسون الأمور إلى ما يحقق المصلحة الإسلامية ( ) ، ورسم هذا المجلس الأعلى للتخطيط والتنسيق بين السياسات العامة الواجب اتباعها نحو إعداد الأمة الإسلامية كلها إعداد جديداً، وبنائها بناء سليما على طريقة السلف الصالح، فقرروا ضرورة تأسيس مئات المدارس ونشر التعليم الإسلامي في جميع أنحاء البلاد، كما قرروا إقامة مئات المساجد للقيام بواجب التزكية والتحلية، بالفضائل والتخلية من الرذائل، واستقدموا آلاف العلماء، والمربين المشهورين للقيام بواجب التدريس في المدارس والتوجيه في المساجد وكانوا من خريجي المدرستين الغزالية والقادرية ( ) ولم يكن التعليم لدى دولة نور الدين مجرد نشاط أكاديمي يستهدف توفير الموظفين والمهنيين، وإنما كان بالدرجة الأولى نشاطاً عقائدياً استهدف إعادة صياغة الجماهير المسلمة بما يتفق وأهداف الإسلام والحاجات القائمة ( ) .
وكانت الصفة الجماعية للنشاط التعليمي الذي رافق الدولة الزنكية تبدو واضحة من تباري الوزراء القادة والأغنياء والرجال والنساء في إنفاق أموالهم في بناء المدارس والمؤسسات التعليمية وتوفير الفرصة لجميع أفراد الأمة لدخولها والاستفادة ( ) منها فقد أعطت الخطة الزنكية أهمية خاصة لتعليم كافة المسلمين من عمال وفلاحين ومزارعين من الكبار والصغار والرجال والنساء، وعملت الخطة على تعليم الجميع أصول العقيدة وأركان الدين والقيم والمبادئ الإسلامية، كما عمدت الخطة الحكيمة على تعرية المذاهب الهّدامة، والفرق الضالة من إسماعيلية باطنية، وشيعية إمامية، وشعوبية، وأبانت عن خطرها وضررها على النفس والمجتمع والأمة وأن ولا خروج من المحنة، ولا خلاص من الضياع إلا بالعودة إلى روح الدين النقية الطاهرة في صورتها الأولى التي كانت عليها سلف هذه الأمة دون زيادة أو نقصان، ودون تعقيدات فلسفية ومجادلات كلامية، لا طائل من ورائها ولا خير فيها ولا في مروجيها.
لقد التزمت الدولة الزنكية بالإسلام عقيدة وعملاً ومنهج والتزمت بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة للجميع، فأصلحت ما يمكن إصلاحه من أصحاب الاتجاهات والفلسفات كالصوفية المنحرفةِ التي استطاعت الدولة الزنكية أن تنقيها مما علق فيها من أتباع الفكر الإسماعيلي الباطني، فأقامت لشيوخها الزّوايا والأربطة وأنفقت عليهم الأموال، وأمدتهم بالعطايا والهبات، وأخرجت التصوف من أسر الفكر الباطني وبذلك أصبحت المؤسسات الصوفية تؤدي دورها – التربوي ونشر السلوك الإسلامي وفق منهج أهل السنة والجماعة إلى جانب المدارس والمساجد في التوجيه والإرشاد والتعليم والتهذيب حسب الخطة العامة للدولة وتحت إشراف المجلس التعليمي الأعلى. لقد وجه التعليم الإسلامي عناية خاصة لإعداد الأمة كلها للجهاد بكافة أنواعه من الإعداد المادي والمعنوي وتربية النفوس ومجاهدتها في ذات الله، ومجاهدة الشيطان والجهاد بالمال والنفس، والتعبئة الروحية العالية، وتربية الإرادة القتالية عند جميع أفراد الأمة دون أن يقتصر ذلك على طائفة دون أخرى بالإضافة إلى طائفة مختصة عنت الدولة بإعدادها إعداداً قتالياً خالصاً، وتدريبها تدريباً عسكرياً متميزاً يجعلها تتفوق على ما عند الأعداء ( ) .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق