107
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية
المبحث الخامس:النظام الاقتصادي والخدمات الاجتماعية:
ثانياً:سياسة الانفاق في الخدمات الاجتماعية:
10-فك الأسرى :
وثمة مساحات أخرى امتدت إليها خدمات الدولة وضمانها الاجتماعي في عصر نور الدين، لقد فرّق الرجل اثنى عشر ألف دينار في فداء أسرى أهل الشام : فكان يقول هؤلاء يفتكهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم ( ) . في عام 569ه خدمات اجتماعية كبيرة :
في عام 569ه، السنة التي توفي فيها نور الدين، شهدت دولته جملة خدمات اجتماعية أخرى، شملت الكثير من القطاعات وتطلبت الكثير من النفقات : فزيدت الأوقاف ووسَعت الصدقات، ووفرت النفقات، ويجمع عدد من المؤرخين على أن تلك السنة شهدت نماذج من الخدمات الاجتماعية تدعو للإعجاب وتوضّح لنا إلى أي مدى كان نور الدين يسعى جاداً إلى تغطية حاجات أمته بفئاتها الفقيرة المحتاجة، ملبساً ونفقة وإشباعاً : إكساء الأيتام والنسوة وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء ختان الأطفال ( ). ويعلق العماد الأصفهاني على حملة تلك السنة بقوله : .. حسبنا ما تصّدق به على الفقراء في تلك، الأشهر فقد زاد على ثلاثين ألف دينار ذهباً وكان إذا مر بصدقة غلَّة أو ذهب تقدم إلى خادمه بإحضار جماعة من أماثل البلد وعدوله من أهل كل محلة فيقول لكل واحد : كم تعرف في جوارك من .. وغيرهم ؟
فيقول : أعرف كذا وكذا فيسلم إليه صدقات أولئك الأعداد، حتى يستقرئ بالسؤال جميع الحاضرين. ثم يأتيه كل منهم يثبت ما فّرقه ( ) .
لقد تحقق في عهد نور الدين محمود ظهور مجتمع العدل والتضامن والتكافل والمواساة في الحاجات الأساسية. إن المسألة ليست مسألة دولة تعطي وتضمن وتخدم فحسب.. ولكنه (المجتمع) الذي تسعى هذه الدولة إلى تشكيله، المجتمع الذي يمحى فيه الاستغلال، وتضيق الفوارق ويشترك الجميع بالحق والعدل فيما يمكنهم من إشباع حاجاتهم الأساسية، لكي يقدر الجميع على التحرك إلى ما وراء ذلك الآفاق الواسعة الرحيبة التي جاء الإسلام لكي يقوم الناس إليها. لقد تحقق التعاون الفعّال بين القيادة والقواعد ( ) ، فنهض الجميع من كبوته واستوعب مشروعه الحضاري وقام بدوره الريادي. وهذه صورة من بين عشرات الصور، التي وصف بها هذا المجتمع يحدثنا عنها شاهد عيان بعد حوالي العقد فحسب من وفاة نو ر الدين : .. إن الحاج الدمشقي مع من انضاف إليهم من المغاربة، عند صدورهم إلى دمشق في هذا العام (580ه)، خرج الناس لتلقيهم، الجّم الغفير رجالاً ونساءً يصافحونهم .. وأخرجوا الدراهم لفقرائهم يتلقونهم بها وأخرجوا إليهم الأطعمة .. وكل من وفقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد، يلتزم – إن أحبّ – ضيعة من الضياع فيكون فيها طيب العيش، ناعم البال، وينتال الخبز عليه من أهل الضيعة ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء ومتى سئم المقام خرج إلى ضعية أخرى ( ) . وفي مكان آخر يقول ابن جبير شاهد العيان هذا – مثمناً أخلاقية المجتمع الإسلامي
هناك : .. ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها إلاّ مبادرة أهلها لإكرام الغرباء، وإيثار الفقراء ولا سيما أهل باديتها لكفى بها فضلاً ( ).
إن من أبرز المعالم في تاريخنا كله : الإيمان بكرامة الإنسان وفطرة الإنسان، وحرمة الإنسان : حرمة دمه وعرضه وماله، وحقوق الإنسان : حقه في الحياة، وحقه في الحرية، وحقه في المساواة، وحقه في عيش كريم له ولمن يعول وأصل ذلك : أن الإسلام الذي صنع هذا التاريخ : يكرم الإنسان من حيث هو إنسان من ذرية آدم، الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله في الأرض خليفة قال تعالى : " ولقد كرمنا بني آدم " (الإسراء : 70). وأكد القرآن مع كتب السماء " أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً "
(المائدة : 32). كما أكد الإسلام : أن البشر جميعاً سواسية كأسنان المشط، لا يفرق بينهم عرق ولا لون ولا لغة ولا إقليم ولا طبقة، وإنما يتفاضلون عند الله بالتقوى قال تعالى : " يا ايها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم : إن الله عليم خبير " (الحجرات : 13).
لهذا كان من أبرز المعاني الإنسانية المرعية والمؤكدة في تاريخنا كله : المساواة بين البشر جميعاً : بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، حكاماً ومحكومين، أغنياء وفقراء شرفاء ووضعاء مسلمين وغير مسلمين ( ) في إقامة العدل.
ومن المعاني الإنسانية العميقة البارزة في تاريخنا الإسلامي البر والإحسان بالناس، وبذل المعروف لهم، وإعانتهم في السراء والضراء، وخصوصاً الضعفاء والمحرومين منهم، أيا كان سبب ضعفه، فمنهم من ضعفه بسبب فقد المال كالمسلمين ومنهم من ضعفه بسبب فقد الوطن كابن السبيل، ومنهم من ضعفه بسبب فقد الحرية كالأسير والرقيق وقد أوصى الإسلام بهم جميعاً كما قال تعالى في وصف عباده الأبرار : ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً " (الإنسان : 8،9) وقال تعالى : "ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب " (البقرة : 117) وهؤلاء لهم في الإسلام حقوق بعضها واجبه وبعضها مندوبة وبعضها تطالب به الدولة.. وبعضها من الصدقات المعتادة، وبعضها من الصدقات الجارية، التي تمثلت في نظام الوقف الخيري، الذي رسخت جذوره، وسبقت فروعه، وامتدت ظلاله، وآتى ثماره في الحياة الإسلامية وتميز به تاريخ المسلمين أكثر من غيرهم من الأمم ( ) .
* ومن أبرز الدلائل على رسوخ المعاني الإنسانية في حضارتنا ووضوحها في تاريخ أمتنا : كثرة المؤسسات التي تعني بخير الإنسان والبربة ( ) ، وإليك هذه الصفحات المشرقة مما كتبها الداعية الكبير والمجاهد الشهير العلامه الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه البديع من روائع حضارتنا عن هذه المؤسسات – فقال كانت المؤسسات نوعين : نوعاً تنشئة الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، نوعاً ينشئه الأفراد من أمراء وقواد وأغنياء ونساء ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدد أنواع المؤسسات الخيرية كلها، ولكن حسنا أن نلّم بأههمها :
- فمن أول المؤسسات الخيرية :
المساجد، وكان الناس يتسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسسونها وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبدالملك من أموال بالغة على بناء الجامع الأموي مما لا يكاد يصدقه الإنسان لكثرة ما أنفق من مال وما استخدم في إقامته من رجال ومن أهم المؤسسات الخيرية : المدارس والمستشفيات.
- ومن المؤسسات الخيرية " بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر.
- ومنها : التكايا والزوايا التي ينقطع فيها من شاء لعبادة الله عز وجل.
- ومنها : بناء بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر داراً.
- ومنها : السقايات أي تسبيل الماء في الطرقات العامة للناس جميعاً.
- ومنها : المطاعم الشعبية التي كان يفرق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شُربة)، وحلوى، ويقول الدكتور السباعي : ولا يزال عهدنا قريباً بهذا النوع من كل من تكية السلطان سليم، وتكية الشيخ محيي الدين بدمشق.
- ومنها : بيوت للحجاج في مكة ينزلونها حين يفدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت وعمت أرض مكة كلها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج، لأنها كلها موقوفة على الحجاج.
- ومنها : حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين، فقد كانت كثيرة جداً بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقراها، حتى قل أن يتعرض المسافرون – في تلك الأيام لخطر العطش.
- ومنها : أمكنة المرابطة على الثغور لمواجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، فقد كانت هنالك مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وذخيرة وطعام وشراب، وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم أيام العباسيين، وصد غزوات الغربيين في الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر، ويتبع ذلك وقف الخيول وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله عز وجل، وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصناعة الحربية وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا – أيام الهدنة – ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء، فانظر كيف انقلب الأمر الآن فأصبحنا عالة على الغربيين في السلاح لا يسمحون لنا به إلا بشروط تقضي على كرامتنا واستقلالنا ويتبع ذلك أوقاف يُعطى ريَعها لمن يريد الجهاد وللجيش المحارب، حين تعجز الدولة في الإنفاق على كل أفراده، وبذلك كان سبيل الجهاد ميسراً لكل مناضل يودُّ أن يبيع حياته في سبيل الله ليشتري بها جنة عرضها السماوات والأرض .. فانظر كيف عاد بنا الأمر إلى أن نقيم أسبوعاً للتسلح تجمع فيه التبرعات لتقوية الجيش وتسليحه، ولو كان عندنا وعي اجتماعي وإيمان صادق لأقمنا من أموالنا كل يوم – لا أسبوعاً للتسلح تجمع فيه التبرعات لتقوية الجيش وتسليحه، ولو كان عندنا وعي اجتماعي وإيمان صادق لأقمنا من أموالنا كل يوم – لا أسبوعاً واحداً في العام – مصانع لتزويد جيشنا بالسلاح والعتاد حتى يكون من أقوى الجيوش وأكثرها استعداد لصد العدوان وحماية الديار.
- ومن المؤسسات الاجتماعية ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور .
- ومنها : ما كانت للمقابر يتبرع الرجل بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة.
- ومنها : ما كان أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم.
- ومنها : المؤسسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي. واليتامى ولختانهم ورعيتهم، ومؤسسات للمقعدين والعميان والعجزة، يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كل ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضاً .
- وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين، ورفع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب، لصيانة صحتهم، ومؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم إليها اليوم.
- ومنها : مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية نقطة الحليب عندنا، مع تمحُّصها للخير الخالص لله عز وجل، وقد كان من مبرأَّت صلاح الدين : أنه جعل في أحد أبواب القلعة – الباقية حتى الآن في دمشق – ميزابا يسيل منه الحليب، وميزابا آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر ( ) .
ومن أطرف المؤسسات الخيرية : وقف الزبادي ( ) للأولاد الذين يكسرون الزبادئ وهم في طريقهم إلى البيت، فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنهم لم يصنعوا شيئاً وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات : المؤسسات التي أقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق الذي يقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفاً للخيول والحيوانات العاجزة المسنة ترعى فيه حتى تلاقي حتفها. أما بعد فهذه ثلاثون نوعاً من المؤسسات الخيرية التي قامت في ظل حضارتنا فهل تجد لها مثيلاً في أمة من الأمم السابقة ؟ بل هل تجد لكثير منها مثيلاً في ظل الحضارة الراهنة ؟ .. اللهم إنه سبيل الخلود تفردنا به وحدنا يوم كانت الدنيا كلها في غفلة وجهل وتظالم، اللهم إنه سبيل الخلود كشفنا به عن الإنسانية المعذبة أوصابها والآمها .. فما هو سبيلنا اليوم؟ أين هي تلك الأيادي التي تمسح عبرة اليتيم، وتأسوا جراح الكليم، وتجعل من مجتمعنا مجتمعاً متراصاً، ينعم فيه الناس جميعاً بالأمن والخير والكرامة والسلام ( ) ؟
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق