95
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية :
المبحث الخامس:النظام الاقتصادي والخدمات الاجتماعية:
أولاً :مصادر دخل دولة نور الدين وسياسته الاقتصادية:
12- القطاع التجاري :
اتبعت الدولة النورية سياسة انطوت على الرعاية الكاملة للتجارة الداخلية وكذلك الخارجية واستطاعت التحكم في طرق التجارة في إقليم الجزيرة وخاصة بعد استرداد الرها جعلها تتحكم في طرق التجارة التي تربط بين العراق وآسيا الصغرى من ناحية وبلاد الشام من ناحية ثانية. كما أن سيطرة نور الدين بعد ذلك على الأراضي المصرية وضمها لمشروع الجبهة الإسلامية المتحدة بعد القضاء على الدولة الفاطمية في القاهرة سنة 567ه/1171م مكنه من الاتصال بتجارة الهند والشرق عبر ممرين مائيين هما الخليج العربي والبحر الأحمر ( ). وكانت العشور يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة النورية سواء الداخلية أو الخارجة منها، وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركيّة في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له : (العاشر) أي : الذي يأخذ
العشور ( ) ، ولم يكن لهذه الضريبة وجود في عهد النبَّي صلى الله عليه وسلم، وخليفته الأوَّل أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – لأنَّ تلك الفترة كانت فترة دعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل نشره، وبناء الدولة الإسلاميَّة، فلما اتسعت الدولة في عهد الخليفة عمر – رضي الله عنه – وامتَّدت حدودها شرقاً وغرباً وصار التبادل التجاري مع الدول المجاورة ضرورة تمليها المصلحة العامَّة، ورأى الخليفة
عمر – رضي الله عنه – أن يفرض تلك الضَّريبة على الوارد إلى دار الإسلام، كما كان أهل الحرب يأخذونها من تجَّار المسلمين القادمين إلى بلادهم، معاملة بالمثل ( ) وقد أجمع المؤرَّخون ( ) أن أوَّل من وضع العشر في الإسلام عمر بن الخطاب ( ) – رضي الله عنه.
اهتمت الدولة الزنكية بالحركة التجارية وإقامة العدد من المؤسسات التجارية مثل الخانات ( )، والفنادق ( ) ، وأورد ابن عساكر العديد منها في مدينة دمشق، كذلك شجعت التجار اليهود على المشاركة في النهضة التجارية التي شهدتها البلاد وقد استقروا في مناطق خطوط التجارة العالمية المارة بمدن الشام والجزيرة الكبرى مثل، دمشق وحلب، وشيزر، ومعرة النعمان والموصل وغيرها، ففي دمشق مثلاً وجدوا بأعداد كبيرة وعرفت حارة باسمهم ( ). وقد تزايدت أعدادهم بها حتى بلغوا الآلآف ووصفوا بأن منهم " ذوو اليسار " ( )، أي أنهم اشتغلوا بالتجارة حيث كانت أكثر المجالات المحققة للثروة وكذلك وجدوا مجالاً متسعاً في أعمال الصيارفة ( ).
وقد تاجرت الدولة النورية مع العديد من الكيانات السياسية في عالم البحر المتوسط، فهناك الإمبراطورية البيزنطية، والقوى التجارية الإيطالية مثل جنوة، والبندقية، وبيزا، وأمالفى، ( ) وتمكن الإيطاليون على نحو خاص من زيادة حجم تجارتهم مع بلاد الشام والجزيرة، وأقام قناصلهم في المدن الشامية والجزرية مثل حلب، ودمشق، والموصل وغيرها، حيث عملوا على رعاية مصالح بلادهم الاقتصادية ( ) ولا مراء في أن ذلك العهد قد شهد صحوة للطبقة الوسطى التجارية يدل على ذلك ما نلاحظه من تخصص التجار في العمليات التجارية وانقسامهم إلى فئات تقوم بجانب من النشاط التجاري في العمليات التجارية وانقسامهم إلى فئات تقوم بجانب من النشاط التجاري المتخصص فهناك الخزانون ثم الركاضون، والمجهزون ( ) ، ويكشف لنا الدمشقي المزيد من التفاصيل عن كل نوعية منهم كذلك ظهرت عدة أسرات تجارية كبيرة النفوذ مثل أبناء الرحبي ت 632ه/1234م الذي عاصر نور الدين محمود، فقد ترك أبناء لهم اشتغال جيد في هذا الفن ( ) ، ووجدت في حلب بيوتات قديمة معروفة بالثروة ( ) يتوارثونها وطبيعي أنها نجمت عن النشاط التجاري في مدينة اشتهرت بذلك الطابع. يضاف إلى ذلك أن تجارة الشرق الأدنى خلال عصر الحروب الصليبية قد شهدت نهضة تجارية لم تكن موجودة من قبل ( ) ، ودفعتها دفعة كبرى إلى الأمام ( )، وانطبق ذلك على بلاد الشام والجزيرة، حينذاك نظراً للموقع الجغرافي المتوسط ومرور العديد من الطرف التجارية العالمية، وقد فرضت الدولة النورية المكوس على النشاط التجاري، وكانت حلب أحد المراكز الرئيسية لجمع تلك الضرائب التجارية حيث جبيت فيها أموال الروم وديار بكر ومصر والعراق ( ) ويبدو أن الدولة النورية احتكرت تجارة بعض السلع الاستراتيجية ولم تنشأ أن تجعلها في أيدي بعض كبار التجار الأثرياء خوفاً من احتكارها، وتزايد ثرواتها على حساب احتياجاتها، واحتياج السوق الشامي واستقراره، ويبدو أنها احتكرت بعضها كتجارة الحديد والأخشاب والقار وهكذا فعندما توقفت في إحدى السنوات عن مطالبة أهل الشام بالخشب أشارت المصادر إلى ذلك كحدث مهم وجديد ولذا وجدنا ابن عساكر يمتدح نور الدين محمود لذلك ببعض الأشعار ووقع ذلك في عام 567ه فقال :
لما سمحت لأهل الشام بالخشب
??عوضت مصر فيها من النشب ( )
إن الدولة النورية من خلال توسعها الخارجي أكثر ما غنمت واستفادة بعد الفتوحات ونصرة الإسلام من نشاطها التجاري إذ اخضعت تجارة شمال الشمال ومرت بها الطرق التجارية القادمة من شرق ووسط آسيا في أوروبا، وكذلك الطرق المارة من شمال العراق إلى شمال الشام وأيضاً القادمة من ذمشق، فضلاً عن تلك المتجهة إلى الإمبراطورية البيزنطية عبر مناطق نفوذ سلاجقة الروم، أما دمشق فقد غدت من أهم المراكز التجارية الشامية، ومر بها طريق الحجاج الشاميين وكذلك القوافل التجارية القادمة من غرب أوروبا إلى شمال إفريقيا إلى الشام، أما الموصل فقد اشتهرت نشاطها التجاري، وأنها مثلت حركة اتصال مؤثرة وحيوية بين تجارة شمال العراق وشمال الشام بصفة خاصة، وتجارة الإقليميين المتجاورين بصفة عامة ( ) ويلاحظ أن الدولة النورية من خلال توسعها الخارجي ساهمت في أحكام قبضتها على قسم حيوي من البحر المتوسط، ومن المؤكد فقد تمكنت من إخضاع الساحل الممتد من قرب غزة إلى طرابلس الغرب، ولا نغفل أن الدولة النورية بإحكام قبضتها على برقة وجبل نفوسة، قد اخضعت قسماً مهماً من تجارة الشمال الإفريقي خاصة تجارة الذهب والرقيق وهما عصب تجارة العالم الإسلامي في ذلك العهد، فإذا أضفنا إلى تلك المحطات التجارية البرية، المحطات البحرية مثل عيذاب على البحر الأحمر ودمياط والإسكندرية على البحر المتوسط أدركنا كم كان على كافة القوافل المارة عبر كافة تلك الطرق والمحطات التجارية المذكورة، ولامراء في أن خزينتها ربحت أموالاً طائلة من وراء ذلك على نحو دعم مشاريعها التوسيعة ( ) وقد تمكنت الدولة النورية من فتح أسواق جديدة في كافة المناطق التي أخضعتها لسيطرتها السياسية ( ).
أ- مبدأ التخصص في التجارة الخارجية :
شهدت التجارة في عهد تلك الدولة تطوراً مهماً من جراء التوسع الخارجي، فبعد أن كانت العمليات التجارية مرتبطة بحلب – قلب تجارة شمال الشام – صار هناك مبدأ التخصص في التجارة الخارجية، وفي قطاعات إقليمية منسقة وموزعة بين قسم من غربي قارة آسيا والشمال الأفريقي ويمكن ملاحظات ذلك من خلال ثلاث محاور :
* المحور الأول : المتاجرة مع الكيان الصليبي، فقد حتمتها الطبيعة الجغرافية للدولة النورية، إذ كانت دولة داخلية حبيسة ليست لها موانيء على الساحل الشامي، وحيث أن تلك الموانيء خضعت للسيطرة الصليبية، فإنها مثلت دور الوسيط التجاري بين تلك الدول والأسواق التجارية الدولية التي استهلكت منتجاتها التجارية مثل الإمبراطورية البيزنطية وجنوب أوروبا وغربها ومن المعروف أن ميناء صيدا كان ميناء تجارياً لدمشق، وكذلك كان ميناء طرابلس مجالاً لتصريف منتجات كل من حماه وحمص ولا نغفل هنا دور القوى التجارية الإيطالية مثل مدن جنوة، والبندقية، وبيزا، وأمالفى، دورها في دعم النشاط التجاري الصليبي ( ).
* المحور الثاني : تجارة التوابل فقد نهض بأمرها الكارمية، فقد احتلت أهمية كبيرة في ميزانية الدولة ويلاحظ أن هيمنة الدولة النورية على تجارة التوابل الهندية قد تأتي لها بعد أن سيطرت على مصر وقضت على النفوذ الفاطمي بها، واحتاج الأوروبيون على نطاق متسع لتلك التوابل التي حددها لوييز بأنها كانت تشمل أصنافاً متعددة من السلع المستخدمة في الزينة والعطور، والعقاقير، والصيانة الكيماوية، والطهو ( ) .
* المحور الثالث : تجارة الرقيق والذهب من بلاد السودان الغربي عبر الصحراء الكبرى، فقد مثلت أهمية بالغة للدولة النورية، وقد تهيأ لها أن تشارك في تلك التجارة بصورة متزايدة بعد أن مدت سيطرتها السياسية إلى مصر، وأمنتها بالسيطرة على برقة، وجبل نفوسة ( ) بطرابلس، وكذلك بإحكام قبضتها على النوبة أما تجارة الرقيق فكانت لها أهمية خاصَة ( ) وازدهرت تجارة الذهب مع إفريقيا وعبر الصحراء الكبرى وغنمت من وراء ذلك غنائم عظيمة، ولكن ينبغي أن نُدرك أن أمتدادها إلى تلك الحدود جاء متأخراً أي بعد سقوط الدولة الفاطمية في مصر عام 567ه/1171م وبالتحديد قبل ثلاث سنوات من وفاة نور الدين محمود نفسه ( ).
ب- التجارة بين الدولة النورية ومملكة بيت المقدس :
لم تقطع الدولة النورية مملكة بيت المقدس اقتصادياً لاسيما التجارة، بل إن القوافل استمرت تتردد بين الجانبين، لذا فإن تلك المملكة أفادت من وراء المتاجرة مع عدوها الرئيسي، وذلك من خلال عائد المكوس المفروضة ومن المرجح أن الإزدهار التجاري الذي شهده ميناء عكا بالذات يرجع – في أحد أسبابه – إلى المتاجرة مع الدولة النورية إذا اعتبر أحد الموانيء الرئيسية الهامة لتصريف تلك الدولة وقد أثرت سياسة التوسع النورية والتداخل الذي جرى بين تلك الدولة والكيان الصليبي على المستوى التجاري، أثرت على سياسة المملكة اللاتينية إذ أنها لكي تتاجر مع المسلمين كان عليها أن تتبع الموازين والمكاييل المستعملة في البلاد من قبل ( ) ، كما كان الصليبيون في حاجة إلى استعمال نوع من العملات يقبلها التجار المسلمون، وفي الوقت الذي استعمل فيه الصليبيون نوع من العملات يقبلها التجار المسلمون، وفي الوقت الذي استعمل فيه الصليبيون العملات النقدية الإغريقية وغيرها، عملت عملة خاصة عرفت بالدينار الصوري وتم استخدامه في التجارة مع المسلمين على أوسع نطاق وقد شابه البيزنت البيزنطي وقد نقشت عليه عادة بعض الآيات القرآنية، وبصورة تدريجية صارت الدنانير الصورية أكثر العملات المتداولة انتشاراً في كافة أنحاء بلاد الشام ( ) ، ويلاحظ أن الهدنات التي عقدتها الدولة النورية مع مملكة بيت المقدس، كان لها أثرها الفعال على التبادل التجاري بين الجانين، إذ توقفت عند ذلك المعارك ووجد التجار فرصة سانحة لمرور قوافلهم التجارية دون التعرض لمخاطر الحروب ( )، وأما الإمارات الصليبية فقد أفادت – شأنها في ذلك شأن المملكة اللاتينية نفسها – من المتاجرة مع الدولة النورية ( ).
ج- مكانة التجار عند نور الدين زنكي :
تجدر الإشارة أن الدولة النورية حرصت على إرضاء كبار التجار من أهل أن يستمر استثمارهم لأموالهم في عمليات تجارية على أرضها على نحو يدعم اقتصاديات الدولة ويدر الأموال الطائلة على ميزانيتها من عوائد المكوس لا أن تذهب إلى خارجها، في وقت تصارعت فيه مع القوى الإسلامية والصليبية المجاورة ولاسيما الأخيرة ومما ساعد على التعاون بين التجار ودولة نور الدين أن مصالحهما ألتقت مع بعضهما، فعندما سقطت دمشق في قبضة نور الدين محمود عام 549ه/1154م وبصورة غير دموية ودون جهد عسكري ضخم، مثل دليلاً واضحاً على أن كبار التجار وجدو في سلطان حلب قوة مهيئة لنشاطهم التجاري أكثر من ذي قبل، ومن الأمور ذات الدلالة : أن نور الدين عندما دخل المدينة، حرص أشد الحرص على الاجتماع مع كبار التجار الدماشقة، من أجل بعث الطمأنينة في نفوسهم، ولتوضيح معالم سياسته الاقتصادية المرتقبة ( ) وقد استفاد التجار من هدنات الدولة النورية مع مملكة بيت المقدس الصليبية في صفقاتهم التجارية ( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق