5
دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الفصل الأول
السلاجقة ، أصولهم وسلاطينهم
المبحث الأول:أصولهم ومواطنهم وبداية ظهورهم:
وهكذا نرى ظلم هذه الدولة وتعسفها وتعصبها فهي لم تقدم جديداً للحضارة الإسلامية،
وأما كرم وزيرهم الصاحب بن عباد وتشجيعه للأدب وتنظيم عضد الدولة لبعض المشاريع في العراق وإنشاؤه المستشفى العضدي، كل ذلك لا يذكر أمام اتجاه الدولة العام في تمزيق أواصر المجتمع الإسلامي وتخريبه عقدياً واقتصادياً ووصف مؤسسها عماد الدولة بالعقل والحلم لا يغير من النتيجة العامة، وهي أن ضررها أكثر من نفعها، قال الذهبي : وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد وهاجت نصارى الروم، وأخذوا المدائن وقتلوا وسبوا . وقال : فلقد جرى على الإسلام في المئة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البُويهية بالمشرق، وبالأعراب القرامطة، فالأمر لله تعالى وقال عن عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو : .. وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي بنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء، ونُقل أنه لما احتُضر ما انطلق لسانه إلا بقوله تعالى : " ما أغنى عنَّي ماليه، هلك عني سلطانيه " ( الحاقة : 28،29) .
ح-مناصرة الأمراء البويهيين لحركة التشيع وإثارة التفرقة والنعرات الضيقة :
بحلول سنة 334ه / 945م كانت الأوضاع العامة في العراق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً غاية في السوء وعدم تمكن البويهيون من بغداد زادوا الأمور سوءاً وكشفوا عن تشيعهم وإيمانهم بعقيدتهم معاضدين أبناء الفرق الشيعية العلوية الأخرى والتي كانت منتشرة في بغداد وبعض المراكز الحضرية في العراق آنذاك مثيرين للفتن الطائفية ولم يكن حال الخلفاء خلال هذه الفترة يسمح لهم بمواجهة بني بويه فقد تولى الخلافة خلال العصر البويهي خمسة من الخلفاء تفاوتت مدد خلافتهم وفقاً لموقف الأمير البويهي من كل منهم وقد لاقى كل من أولئك الخلفاء الكثير من ضروب الإهانة والاستخفاف والعنت من البويهيين ، ومن منطلق اعتقادين بويه بأن سيطرتهم على الخلافة وإضعاف نفوذ الخليفة لن يمكن أهل السنة من التصدي لهم، فقد باشروا خططهم في محاولة نشر التشيع العلوي في المجتمع ومحاربة السنة مساندين في ذلك دعاة التشيع من أمثال موسى بن داود الشيرازي والذي اشتهر بلقب المؤيد في الدين وهو من عائلة عريقة في التشيع على المذهب القرمطي وكان أبوه محل احترام الخلفاء العبيديين، كما كان هو أيضاً محل احترام المرزبان بن عماد الدين أبو كاليجار البويهي وكان إذا كاتبه خاطبه بقوله : لشيخنا وظهيرنا ومعتمدنا المؤيد في الدين عصمة أمير المؤمنين أبي النصر أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده ، وقد كان المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي من المجيدين للغتين العربية والفارسية وله الكثير من المؤلفات التي يعتمد عليها الإسماعيلية إلى يومنا هذا ، وقد لعبت كتبه دوراً كبيراً في نشر الضلال والإنحراف والزيغ وعبرة عن مدى تمسكه بمبادئ الحركة القرمطية، ومن أشهر كتبه كتاب المجالس المؤيدية ويضم ما كان يلقيه في مجالس الدعوة الإسماعيلية بعد أن ترقى في سنة 451ه/1059م إلى مرتبة داعي الدعاة وله أيضاً كتاب الإيضاح والتبصير في فضل يوم الغدير بالإضافة إلى عدة كتب أخرى وديوان شعر منحرف أيضاً ، وهكذا وبدعم امراء بني بويه لا مثال هذا الداعية الشيعي لم يمض وقت طويل حتى بدأت الفتن العارمة التي نجم عنها العديد من المعارك الداخلية وحالات الاقتتال الطائفي تأخذ مداها بين أهل السنة والشيعة .
وأول إشارة إلى الفتن بين الشيعة وأهل السنة خلال العصر البويهي حصلت سنة 338ه /951م وقد كان من نتيجتها أن نهيت الكرخ ، وفي رمضان من سنة 340ه / 951م وقعت فتنة عظيمة بالكرخ بسبب المذهب ، وفي السنة نفسها ظهر ببغداد رجل أدعى بأن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليه، وقد وجدت في داره كتباً تدينه بالزندقة فتم القبض عليه : فلما تحقق أنه هالك أدعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه وقد كان معز الدولة بن بويه يؤيد الرافضة، فلما اشتهر عنه ذلك، لم يتمكن الوزير منه خوفاً على نفسه من معز الدولة وأن تقوم عليه الشيعة، إنا لله وإنا إليه
راجعون وتقدم هذه الحادثة الدليل الواضح على مدى إسناد بني بويه لفرق الشيعة الرافضة الأخرى ومدى تشجيعهم ومناصرتهم لهم، وللمنتسبين لهم حتى ولو كانوا من الزنادقة ويدعم هذا الرأي ما حدث في سنة 341ه / 952م حيث ظفر الوزير المهلبي بقوم من التناسخية وفيهم امرأة تزعم أن روح فاطمة رضي الله عنها، انتقلت إليها، وفيهم آخر يزعم أنه جبريل، فضربوا فتعزروا بالانتماء لأهل البيت فأمر معز الدولة بإطلاقهم لتشيع كان فيهم، والمشهور عن بني بويه التشيع والرفض ، وهكذا كان لمغالاة بني بويه في التشيع نتائج سيئة الأثر حيث عمت الفوضى والانحرافات العقدية ولم تعد الفوضى قاصرة على بغداد أو مدن العراق الأخرى، بل شملت بعض أنحاء الدولة العباسية الأخرى وفي سنة 346ه/957م تجددت الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد بسبب سب الصحابة وكان من نتيجة ذلك أن قتل من الفريقين خلق كثير دون أن تتحرك السلطة لمعالجة الصراع وفي السنة التالية 347ه /958م انتشرت ظاهرة سب وتكفير الصحابة في كثير من البلدان واشتدت الفتنة الطائفية بين الرافضة والسنة ووقعة في جمادى الأولى سنة 348ه / 959م حرب شديدة بين أتباع مذاهب السلف من أهل بغداد والمتشيعة وقتل فيها جماعة واحترق من البلد كثير وفي السنة التي تلت، أي
سنة 349ه/960م وبسبب الفتنة الطائفية تعطلت صلاة الجمعة في جميع مساجد بغداد ، وفي سنة 351ه كتب العامة على مساجد بغداد لعن معاوية بن أبي سفيان ولعن من غصب فاطمة فدكاً، ومن أخرج العباس من الشورى ومن نفي أبا ذر الغفاري ومن منع دفن الحسن عند جده ولم يمنع معز الدولة ذلك وقد ثار أهل السنة من هذا التعريض المباشر بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول وأقدموا خلال ساعات الليل على إزالة الشعارات التي رفعها الرافضة، غير أن الأمير البويهي معز الدولة أصر على ضرورة إعادة تلك الشعارات وإبقائها مرفوعة رغم ما تشكل من تحد سافر لمشاعر عموم المسلمين من إتباع مذاهب السلف وأهل السنة، وقد نصحه وزيره المهلبي بالامتناع عن ذلك مداراة للرأي العام وبأن يكتب مكان ما محى : لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصرحوا بلعنة معاوية فقط . وهكذا يثبت الأمير البويهي مدى ضيق افقه وتحزبه الأعمى لأبناء مذهبه فقد أيد الروافض وتعصبهم وموقفهم المنافي لعقيد الإسلام التي نزلت على رسول الله من الله تعالى وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين. وقد اتسع نطاق الصراعات الطائفية ولم تعد قاصرةً على بغداد بل إنها شملت البصرة وهمذان وقتل فيها خلق كثير ، مما قدم الدليل على أن أمراء بني بويه وعلى رأسهم معز الدولة قد اسندوا الشيعة الغلاة الذين كانوا يطمعون في تشييع المجتمع خلال فترة سيطرة البويهيين على مقاليد الحكم وتسلطهم على الخلافة ودون إعطاء أي اعتبار للخليفة العباسي السني الذي يحكمون باسمه وقد توسع في بيان تشجيع الأمراء البويهيين لحركة التشييع وإثارة التفرقة والنعرات الضيقة الدكتور رشاد عباس معتوق فمن أراد التفصيل فليراجع كتابة القيم الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي. ويعتبر العصر البويهي : من أقبح عهود التاريخ الإسلامي وأشدها فقد أحتل البويهيون قسماً كبيراً من شرقي بلاد الخلافة العباسية بما فيها العراق وبغداد وكانوا شيعة غلاة ولم يلغوا الخلافة العباسية لأسباب سياسية فأدى الأمر إلى صراع مرير جداً بين السنة والشيعة وكانت بغداد خاصة مسرح هذا الصراع .
ط-إنشاء مراكز شيعية متخصصة في التأليف والتعليم في بغداد والنجف والكاظمية :
كان لتشيع البويهيين دوره الخطير في تشجيع العلماء القائلين بوجهة نظرهم فقد عملوا على الاهتمام بالعلوم المذهبية وتقديم الرعاية للعلماء والمتشيعة للعلويين بصفة عامة حتى يظهروا أمام أتباعهم بمظهر الحريص على المذهب المدافع عنه وهم بذلك يعبرون عن ميول شيعية متعصبة دفعتهم إلى تأسيس العديد من المراكز الشيعية في العراق والتي خدمت أغراض تعصبهم المذهبي فقد حرصوا على تحويل المجتمع الإسلامي نحو الإيمان بمعتقدهم وهكذا تجدهم يقربون علماء الشيعية ويرعونهم ويشجعونهم على الكتابة في الكثير من التخصصات الفلسفية والمنطقية بالإضافة إلى الرياضيات وعلم الهيئة، وشجعوهم بشكل خاص على التأليف في العلوم التي تخدم المذهب الشيعي وهكذا ظهرت العديد من المجاميع الخاصة بهم والتي كرست لوضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمثلة ذلك المحدث الرافضي أبي الفضل الشيباني
(ت387ه / 997م).
الذي كان يروي غرائب الأحاديث، وكان ممن يضع الأحاديث للرافضة ، وقد التبس أمره على الناس فكتبوا الكثير من مروياته فلما ظهر لهم كذبه مزقوا أحاديثه ، وقد شهد العصر البويهي عدداً غير قليل من محدثي الشيعة كأبن الجعابي وأبي الطيب الدوري، والمعبدي وابن البقال والنوبختي والكلوذاني وغيرهم ممن عملوا على إسباغ صبغة الاعتزال والتشيع على مروياتهم وكان ذلك بمناصرة ومعاضدة أمراء بني بويه لخدمة أهدافهم في تشييع المجتمع الإسلامي ، ولم يتوان أمراء بني بويه عن تشجيع عدد كبير من فقهاء التشيع والرفض في إظهار مساهماتهم في نشر التشيع بين عامة الناس في المجتمع الإسلامي وكان خطر هؤلاء المبتدعة كبيراً على الأمة الإسلامية لما اتصفوا به من انحراف في المعتقد وتزييف للحقائق وافتراء على المشرع ومن أولئك على سبيل المثال أبو القاسم علي أحمد العلوي الكوفي ت (352/963م) وهو من الشيعة الغلاة ومن كتبه الاستغاثة في بدع الثلاثة، ويقصد بالثلاثة الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وقد قال في جملة ما قاله في هذا الكتاب بأن القرآن الذي بين أيدي الناس هو قرآن ناقص ، ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد النعمان المعروف بالشيخ المفيَد
(ت 413ه- 1022م) وكان ذو مكانة كبيرة لدى إمراء بني بويه ، وكانت له تصانيف كثيرة ويكفي الإشارة إلى ما كتبه الخطيب البغدادي عن الشيخ المفيد ابن المعلم ليظهر مدى خطره على الناس من العامة خاصة، فلقد ترجم له بقوله : شيخ الرافضة والمتعلم على مذاهبهم، صنف كتباً كثيراً في ضلالاتهم والذي عن اعتقاداتهم ومقالاتهم والطعن على السلف الماضين من الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء المجتهدين وكان أحد أئمة الضلال هلك به خلف من الناس إلى أن أراح المسلمين منه ، وقد أدى اهتمام البويهيين بالعلم والعلماء إلى انتشار خزانات الكتب وإلى جانبها دور للعلم يمكن اعتبارها من المؤسسات المساعدة لمراكز التشيع حيث كان الغرض منها حث علماء الشيعة على الإطلاع والتأليف ومن بينها دار العلم ببغداد وهي دار ابتاعها الوزير أبو نصر سايور بن أردشير 383ه/993 بمحلة الكرخ جدد عمارتها ونقل إليها كتب كثيرة وأوقف عليها أوقافاً كثيرة وسماها دار العلم ، ومن بينها الدار التي أسسها نقيب العلويين الشريف الرضي المتوفي سنة 406ه/1015م في الكاظمية على الجانب الغربي من دجلة مقابل مقابر قريش وأسماها دار العلم وفتحها لطلبة العلم ووفر لهم كافة ما يحتاجونه ، ويعتبر أبو عبد الله المرزباني من الأدباء والكتاب الذين جعلوا دورهم مركزاً للتشيع والاعتزال فقد كان المرزباني معتزلياً يتشيع ، ولقد أنشأ البويهيو خلال مدة حكمهم العديد من مراكز التشيع واعتنوا عناية كبيرة بتلك التي كانت موجودة وقائمة قبل وصولهم، ووجدت هذه المراكز في كل من كرخ بغداد والكوفة والنجف وكربلاء والكاظمية والبصرة والحلة وقد لعبت تلك المراكز أدواراً مهمة في تجميع الشيعة وتوحيد صفوفهم ودفعهم إلى نشر أفكارهم ومعتقداتهم خاصة وأنهم وجدوا مناصرة ومعاضدة من المتسلطين على الخلافة العباسية من أمراء بني بويه، وكذلك من وزرائهم الذين نهج معظمهم نفس النهج .
ي-إشاعة الآراء المنحرفة للفلاسقة مثل حركة إخوان الصفا : من أخطر الحركات الفلسفية التي ظهرت خلال العصر البويهي حركة إخوان الصفا التي تتمثل في أفكارها الانحرافات الباطنية والتي تعبر عنها شكلاً ومضموناً، وقد اختلف المؤرخون حول زمن نشأة حركة إخوان الصفاء، وأن أقدم من ذكر إخوان الصفاء هو أبو حيان التوحيدي، ومن خلال ما أورده عنهم يتبين أن موطن نشأتهم كان مدينة البصرة منبت حركة الاعتزال ومرتع المتشيعة والمقر التاريخي لصاحب حركة الزنج، ولقد عرفت جماعة إخوان الصفاء في منتصف القرن الرابع الهجري، وهي فترة شهدت ضعفاً وتردياً كبيراً في قوة ومكانة الخلافة العباسية وتسلطاً أجنبياً خبيثاً ومنحرفاً، وقد تهيأت الظروف خلال هذه المرحلة لظهور العديد من الأفكار والحركات، ومن بينها أفكار إخوان الصفاء، وتكاد المصادر أن تجمع على أن جماعة إخوان الصفا جماعة سرية تتألف من طبقات متفاوتة وفق أسس ذكروها في رسائلهم، كما تتفق على أنهم من الشيعة الإسماعيلية وتمثل آرائهم وأفكارهم الفلسفية المبادئ الأساسية لفرقة الإسماعيلية التي تقوم أساساً على التأويل الباطني، ويصف إخوان الصفا الصلاة مثلاً بأنها هي المقصودة بالقيود، بل أنهم يقرون أن للدين ظاهراً وباطناً ولقد حظيت آراء وأفكار الفلاسفة خلال العصر البويهي بالكثير من التشجيع والمعاضدة فلقد كانت عناية أمراء بني بويه كبيرة بكل ما له اتصال بالفلسفة والمنطق والكلام والتنجيم وأولت المختصين بها عناية فائقة ، وقد حفلت مجالس البويهيين على الدوام بحضور العديد من المعتزلة والفلاسفة والمنطقيين وغيرهم من العلماء المتشيعين الذين سخروا علمهم لخدمة أمراء بني بويه والشيعة الرافضة .
ك-نهاية الدولة البويهية : تمت على أيدي السلاجقة بعد أن بدأ الانقسام والنزاع بين أفراد البيت البويهي، حيث تنازع أبناء عضد الدولة فيما بينهم على الحكم واستقرت الأمور بيد بهاء الدولة حتى نشب الصراع ثانية بين أولاده سلطان الدولة وشرف الدولة وجلال الدولة واندلعت الحروب بينهم ، مما صرفهم على مواجهة خصومهم في الخارج، فكانت نهاية حكمهم على يد السلطان السلجوقي طغرل بك الذي أزال الله به ملكهم وأراح المسلمين من شرهم، عندما دخل بغداد وقبض على آخر حاكم منهم وهو الملك الرحيم أبو نصر خسرو وذلك سنة 447ه وبعث به مقيداً إلى الري وأسقط أسمه من الخطبة في شهر رمضان من تلك السنة وبذلك زالت الدولة البويهية من الوجود لتأخذ مكانها الدولة السلجوقية .
5-اجتماع السلاجقة على زعامة طغرل بك وتوسع دولتهم :كانت الغنائم التي حصل عليها السلاجقة في معركة دَنَدانقان كثيرة جداً، وبعد انتصارهم في تلك المعركة عاد طغرل بك إلى نيسابور فدخلها مع جموع في أواخر عام 431ه وأوائل 432ه ، ولم تنج المدينة هذه المرة من النهب، فلما أحرز السلاجقة النصر في هذه المعارك ازدادوا قوة ولحقت بهم جيوشهم المتفرقة في أطراف خراسان، فاشتد وقعهم في القلوب وتقرر الملك لهم، واجتمع بعد ذلك الإخوان جفري بك وطغرل بك مع عمهما موسى بن سلجوق الذي كان يطلق عليه " بيغو " وأبناء أعمامهم وكبار قومهم وقواد جنودهم، وتعاهدوا على الاتحاد والتعاون فيما بينهم ويقول الراوندي : ولقد سمعت أن طغرل بك أعطى لأخيه سهماً وقال له : اكسره. فتناول أخوه السهم وكسره في هوادة، ثم جمع له سهمين فكسرهما أيضاً في هوادة ثم أعطاه ثلاثة فكسرهما بصعوبة، فلما بلغ عدد السهام أربعة تعذر عليه كسرها، فقال له طغرل بك : إن مثلنا مثل ذلك فإذا تفرقنا هان
لا قل الناس كسرنا وأما إذا اجتمعنا فلا يستطيع أحد أن يظفر بنا، فإذا نشأ خلاف بيننا لم يتيسر لنا فتح العالم، وتغلب علينا الأعداء وذهب الملك من أيدينا . وجدد السلاجقة العهد لطغرل بك كقائد أعلى لجيوشهم وسلطاناً لهم على دولتهم، ورغم أن جفري بك كان أكبر منه سناً، إلا أن طغرل بك كان يتميز بشجاعته النادرة وقوة شخصيته مع تدين ملحوظ وذكاء حاد ، وكلها صفات رجحت كفته، وهكذا قامت دولة السلاجقة وقد شملت فتوح السلاجقة الأولى خراسان وكرمان وأذربيجان وهمدان وجرجان، فقسموا هذه الولايات التي كانوا قد استولوا عليها فيما بينهم ، وكانت بلخ من أقوى مراكز السلاجقة في الشرق، ونيسابور في الغرب، ومن هذين المركزين أخذ نفوذهم في الانتشار والتوسع ، وقد اختار طغرل بك مدينة الري لتكون حاضرة ملكه .
أ-تنظيم إدارة الدولة في عهدها الأول : من أجل تنظيم إدارة دولته فقد قسمها السلاجقة إلى أقاليم، وعينوا على كل إقليم منها حاكماً، من أفراد البيت السلجوقي أطلقوا عليه لقب " شاه "
و " ملك " وأما الرئيس الأعلى للدولة بأجمعها، فأطلق عليه لقب " سلطان " وكانت له الكلمة النافذة في جميع أنحاء الدولة، وبهذا التنظيم وطّد طغرل بك سلطته في تلك البلاد، وضمن الوحدة بين أفراد أسرته، لقد كان أخوة طغرل بك وأبناؤهم يتولون الحكم في أطراف البلاد تحت
سلطته ، ومذهبهم السياسي في الحكم أنهم كانوا يعدون المناطق المفتوحة ملكاً لأفراد الأسرة المالكة ولم يعمل طغر بك على إقامة حكم فردي ينحصر في شخصية، بل فتح حكم المناطق التي تدخل في حوزة السلاجقة حديثاً إلى المقربين من آل سلجوق وترك لهم سلطة الحكم كاملة هدفه من ذلك الإبقاء على الترابط والوحدة بين طغرل بك وإخوته وأبنائهم وهكذا يتضح بشكل جلي الطبيعة القبلية في سلوك السلاجقة وحبهم للرئاسة والجاه وقد حاول طغرل بك زعيمهم إرضاء هذه النزعة فعينهم حكاماً وقادة وملوكاً، لكل منهم جيشه الخاص ووزيره وحجابه ومعاونوه في الحكم والإدارة، كما حرص السلاجقة على تكريم علماء الدين وشيوخ الصوفية كي يثنوا عليهم ويزداد حكمهم قوة ، ومع ذلك فإن تقسيم الدولة إلى ولايات شبه مستقلة أصبح شراً في عهد ضعف السلاجقة وكثرة المنازعات في أرجاء الدولة، مما ساعد على تمزقها وسرعة انهيارها وزوالها .
ب-اعتراف الخليفة العباسي بالسلاجقة : بعد أن وطّد طغرل بك أركان دولته وأرسى قواعدها لم يبق سوى الحصول على اعتراف من الخليفة به ليكسب سلطته الصفة الشرعية في أعين المسلمين، لذلك أنفذ في عام 432ه رسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله حملها إليه أبو إسحاق
القفاعي ، تضمنت ولاء السلاجقة له، وتأكيد تمسكهم بالدين الإسلامي، والتزامهم بالجهاد في سبيل الله وحبهم للعدل والتماسهم الحصول على اعتراف الخليفة بقيام دولتهم . وكان السلاجقة في أشد الحاجة للدعم المعنوي من الخليفة العباسي صاحب النفوذ الروحي على العالم الإسلامي السني وكانت نوعية هذه العلاقة بين السلاطين والخلفاء من ثقافة ذلك العصر الذي ضعفت فيه مؤسسة الخلافة وتقلص نفوذها وسلطانها وصلاحياتها وهي ظاهرة مرضية في الأمة.
وقد جاء في هذه الرسالة ما نصه " نحن معشر آل سلجوق أحطنا دائماً الحضرة النبوية المقدسة وأحببناها من صميم قلوبنا، ولقد اجتهدنا دائماً في غزو الكفار وإعلان الجهاد، ودوامنا على زيارة الكعبة المقدسة وكان لنا عَمٌ مقدم محترم بيننا اسمه إسرائيل بن سلجوق فقبض عليه يمين الدولة محمود بن سبكتكين بغير جرم أو جانية وأرسله إلى قلعة كالنجرد ببلاد الهند فقضى في أسره سبع سنوات حتى مات، وأحتجز كذلك في القلاع الأخرى الكثير من أهلنا وأقاربنا، فلما مات محمود وجلس في مكانه ابنه مسعود لم يقم على مصالح الرعية، واشتغل باللهو والطرب، فلا جرم إذ طلب منا أعيان خراسان ومشاهيرها أن نقوم على حمايتهم، ولكن مسعود وجه إلينا جيشه فوقعت بيننا وبينه معارك تناوبناها بين كروفر، وهزيمة وظفر، حتى ابتسم لنا الحظ الحسن، فأنحاز إلينا آخر مدد لمسعود ومعه جيش جرار، وظفرنا بالغلبة بمعونة الله عز وجل، بفضل إقبالنا على الحضرة المقدسة المطهرة، وانكسر مسعود وأصبح ذليلاً وانكفأ علمه، وولى الأدبار تاركاً لنا الدولة والإقبال، وشكراً لله على ما أفاء علينا من فتح ونصر، فنشرنا عدلنا وإنصافنا على العباد وابتعدنا عن طريق الظلم والجور والفساد ونحُن نرجوا أن نكون في هذا قد نهجنا وفقاً لتعاليم الدين ولأمر أمير المؤمنين ، وما إن وصلت هذه الرسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله حتى سُرَّ بها غاية السرور، وأظهر رغبته في التقرب إليهم وبادر بإيفاد رسول إلى السلطان طغرل بك الذي كان في مدينة الري سنة 435ه وكان ذلك الرسول هو أبو الحسن علي بن محمد الماوردي وقد تضمنت الرسالة رغبة الخليفة العباسي في عقد صلح بينه وبين الأمير البويهي أبي كاليجار ، وتقبيح ما فعل أصحابه من فساد، وأن معاملة الرعية، كما أمر الخليفة رسوله أن يتقرب على طغرل بك ويدعوه للحضور إلى دار الخلافة في بغداد ، فضلاً عن الرسالة فقد كان الماوردي يحمل معه إلى طغرل بك الخلع السلطانية التي منحها إياه الخليفة، مع كتاب تفويض بحكم البلاد ، وعاد الماوردي إلى بغداد سنة 436ه بعد أن مكث مدة عام في جراجان ، فأخبر الخليفة عن طاعة طغرل بك له وتعظيمه لأوامره والتزامه بها ، كما أرسل طغرل بك إلى الخليفة مع الماوردي عشرين ألف دينار .
لقد كان لاعتراف الخليفة العباسي بقيام دولة السلاجقة أثر كبير في تقرب السلاجقة من الخلافة العباسية، فأخذت العلاقات بين طغرل بك والخليفة العباسي القائم بأمر الله تتوطدّ على مر الأيام، كما كان لهذا الاعتراف أثر في اكتمال الكيان الشرعي لدولة السلاجقة أمام المسلمين الخاضعين لسلطتهم في المشرق .
ج-اتساع رقعة الدولة : بعد أن شعر طغرل بك أول سلاطين السلاجقة بالإطمئنان على دولته أثر اعتراف الخليفة العباسي القائم بأمر الله بها، توجه أمراء السلاجقة كل إلى المنطقة المخصصة له، شرع بتنفيذ ما تبقى من خطته الرامية إلى إتمام سيطرة السلاجقة على بلاد فارس، ومن ثم التوجه منها للسيطرة على العراق، ففي عام 433ه تحرك طغرل بك على رأس جيش كبير من أجل تحقيق ذلك الهدف، وكان الديالمة يسيطرون آنذاك على معظم أجزاء بلاد فارس والعراق ولكنهم مع ذلك كانوا في نزاع مستمر مما أضعفهم وسهل على السلطان السلجوقي طغرلبك التغلب عليهم وإنهاء حكمهم، فقد كان النصر حليفه في كافة حروبه معهم والتي انتهت بسيطرته على بلاد فارس والعراق حيث دخل حاضرة الخلافة العباسية بغداد ، فقد بدأ طغرل بك بالهجوم أولاً على جرجان وطبرستان من أجل القضاء على حكم أنو شروان الزياري الديلمي الذي كان يسيطر على هذين الإقليمين وإدراكاً من هذا الأخير لقوة السلاجقة وإنه لا طاقة له بقتال طغرل بك، قرر أن يخضع له وأعلن تعهده بطاعته وأداء إتاوة سنوية له، وبذلك ضم طغرل بك هذين الإقليمين إلى دولة السلاجقة، ثم لم يلبث أن أزال حكم الزياريين الديالمة منها، وعين عليها والياً من قبله فكان هذا إيذاناً بسقوط الدولة الزيارية وانتهاء نفوذها في بلاد فارس ، وبعد ذلك توجه طغرل بك، خوارزم لفتحها وكان ذلك عام 434ه وما أن تم له ذلك حتى سيطر على ما يجاورها من المناطق، فأصبح السلاجقة أكبر قوة في بلاد فارس وما وراء النهر، وكان هذا سبباً في مسارعة حكام الأقاليم إلى إعلان طاعتهم وولائهم لهم وموافقتهم على دفع إتاوة سنوية كل هذا أتاح الفرصة لطغرل بك للتوجه إلى وسط بلاد فارس وغزو مدينة الري ، وفسار على رأس جيش كبير نحوها في العام نفسه فدخلها فاتحاً عاصمة له ومقراً لحكومته ، وكان لهذه الانتصارات التي حققها السلاجقة بزعامة السلطان طغرل بك في بلاد فارس وفي ما وراء النهر انعكاساتها على الخليفة العباسي القائم بأمر الله في بغداد، فما كان منه ألاّ أن بعث رسول من قبله إلى مدينة الري يحمل رسالة منه للسلطان السلجوقي يدعوه فيها لزيارة بغداد لقد أبلغ مبعوث الخليفة السلطان السلجوقي بأن الخليفة قد سُرَّ برسالة السلاجقة إليه كثيراً، وردَّ عليها برد حسن تضمن موافقته على قيام دولة السلاجقة، وأن الخليفة يسره أن يستقبل سلطان السلاجقة في بغداد عاصمة الخلافة كضيف عزيز كريم ، واستقبل السلطان طغرلبك مبعوث الخليفة العباسي أحسن استقبال ورحب بدعوته إياه لزيارة بغداد، ووعد بالقيام بها في الوقت المناسب ومن جهة أخرى فقد بقي مبعوث الخلافة في الري مدة ثلاثة سنوات من أجل مرافقة طغرك بك عند توجهه لزيارة بغداد ولكنه اضطر إلى الرجوع وحده إلى بغداد، بعد أن أكد له طغرل بك حرصه على هذه الزيارة وإنه سيلبيها بعد فراغه من غزو الأقاليم الغربية والجنوبية من بلاد فارس وقد فرغ السلاجقة من بسط سيطرتهم على الأقاليم الشرقية منها ، وبعد ذلك أخذ طغرل بك ببسط سيطرته على الأقاليم الغربية من بلاد فارس، فتمكن من ذلك دون عناء كبير بسبب ضعف أمراء الديلم هناك، فخضعت له قزوين وابهر وزنجان وهمدان وأذربيجان ، ودان لها حكامها بالطاعة والولاء، بعدها أرسل جيشاً لفتح كرمان التي خضعت له في شهر محرم من عام 443ه ، وبخضوعها انتهت دولة الديالمة في تلك المنطقة وكان طغرل بك قد حاول استغلال الوقت أثناء حصار جيشه لاصفهان، فأرسل جزءاً منه لفتح إقليم فارس وما جاورها فتمت له بذلك السيطرة التامة على المنطقة الجنوبية من بلاد فارس بأجمعها ، بعد ذلك توجه طغرل بك بجيشه لتفقد المناطق الشمالية الغربية من بلاد فارس وتوطيد سيطرة السلاجقة عليها، فسار في عام 446ه إلى إقليم أذربيجان، ودخل عاصمته تبريز وشمل نفوذه جميع أجزاء أذربيجان، فضلاً عن بعض أجزاء من بلاد الروم آسيا الصغرى ، المتاخمة لأذربيجان، بعدها عاد إلى عاصمته الري عام 447ه، وهكذا شمل نفوذ السلاجقة أكثر أجزاء بلاد فارس، فضلاً عن أجزاء من الدول المجاورة لها، وبهذا أصبح طغرل بك مستعداً لدخول عاصمة بغداد بناء على استدعاء الخليفة وبعد ذلك تمت سيطرتهم على معظم أنحاء العراق وقد أرسل طغرل بك أخاه من أمه إبراهيم ينال إلى همدان والأجزاء الغربية المجاورة لها من أجل تثبيت نفوذ السلاجقة فيها، فتوجه إليها عام 437ه ، فرحل من كرمان إليها، وهناك حدثته نفسه بالتمرد واتخاذها قاعدة له مما أجبر طغرل بك على التوجه نحوه بنفسه وذلك عام 441ه وما أن اقترب منها حتى أرسل إلى أخيه يطلب منه أن يسلم القلاع التي في يده إليه، غير أنه رفض ذلك فهاجمه طغرل بك وانتصر عليه ثم عفا عنه بعد أن استسلم له، ولم يعاقبه على تمرده هذا .
واستمر طغرل بك في تفقده للأقاليم التابعة لدولة السلاجقة غربي بلاد فارس من أجل إحكام سيطرته عليها، كما استطاع أن يبسط نفوذه على ديار بكر بعد أن وافق حاكمها نصر الدولة بن مروان على ذكر اسمه في الخطبة، وإعلان طاعته وولائه للسلاجقة ،وفي عام 441ه توجه طغرلبك نحو أصبهان التي كان قد حاصرها عام 438ه، فحاصرها وفيها حاكمها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة وضيق عليه كثيراً لكنه لم يوفق في ذلك ولكن في النهاية تم الصلح بين الطرفين على مال يقدمه فرامرز بن علاء الدولة لطغرل بك، فضلاً عن الخطبة له في اصبهات وأعمالها .
س-التوسع نحو الأناضول : في نسة 440ه قام إبراهيم ينال بغزو الروم حيث ظفر بهم وغنم كثيرة وكان السبب في ذلك أن جموعاً كثيرة من الغز فيما وراء النهر قد جاءوا إليه يريدون الاستقرار في بلادهم، ولكنه رفض ذلك وحاول إفهامهم أن بلاده ومصادرها تعجز عن حاجتهم، ونصحهم بالتوجه إلى غزو الروم والجهاد في سبيل الله فضلاً عن حصولهم على الغنائم، كما أخبرهم أنه سيلحق بهم ويساعدهم فاستجابوا له وساروا أمامه فتبعهم ، فلما وصلوا إلى ملازكرد وارزن الروم قاليقلا وطرابزون لقيهم جيش كبير من الروم والإبخاز، تذكر المصادر أن عدده ثمان وخمسين ألفاً فدار بينهم قتال شديد تبادل فيه الفريقان النصر والهزيمة وكان النصر في النهاية للمسلمين قتلوا عدداً كبيراً من الروم وأسروا العديد منهم بينهم كثير من البطارقة، وكان من بين الأسرى قاريط ملك الأبخاز الذي فدا نفسه بثلاثمائة ألف دينار وبهدايا قُدر ثمنها مائة ألف ، ولكن لم يقبل ذلك منه ومع ذلك فقد استمر إبراهيم ينال يغزو تلك البلاد وينهبها ولم يبق بينه وبين القسطنطينية سوى خمسة عشر يوماً، وكان من نتيجة هذه الغارات والغزوات أن غنم المسلمون الكثير، وسبوا ما يزيد على مائة ألف رأس، فضلاً عما لا يحصى من البغال والدواب والأموال حتى قيل أن الغنائم كانت قد حُملت على عشرة آلاف عجلة وأن من جملة الغنائم تسعة عشر ألف درع وكان لهذه الغزوة آثار كبيرة فقد ألحق السلطان طغرل بك بالروم خسائر كبيرة بما قام به من نهب وقتل وأسر وبعد ذلك توجه للري وأقام بها حتى حلول 447ه وعاد بعدها إلى العراق .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق