207
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثالث سياسة نور الدين الخارجية
المبحث الرابع : سياسة الدولة النورية تجاه القوى المسيحية :
رابعاً : أهم الدروس والعبر والفوائد :
في هذا الفصل كثير من الدروس والعبر والفوائد منها :
1- التفكير الاستراتيجي عن نور الدين :
بعد أن تولى نور الدين الحكم كّرس جهوده وإمكانيات دولته لحرب الصليبيين وجعل القضاء على ممالكهم وإماراتهم وتحرير البلاد من احتلالهم من أهدافه الاستراتيجية وسعى لتحقيق ذلك بكل ما يملك من قوة وخاض ضدهم معارك عديدة قتلوا أسر خلالها أمراءهم وقادتهم وعشرات الآلآف من رجالهم واستعاد أكثر من خمسين موقعاً وبلدة ومدينة منهم، ونور الدين محمود لم يكن قائداً عسكرياً فقط، بل كان زعيماً سياسياً يعلم أن للسياسة الدور الأكبرفي مواجهة العدو وأن استخدام القوة العسكرية وخوض العمليات العسكرية إنما يكون لتحقيق الأهداف السياسية، فإذا أمكن تحقيق هذه الأهداف دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية أو باستخدامها، كتهديد فقد دون التورط في القتال فإن ذلك أفضل وأوفر للرجال والمال ومع أن تطبيق هذا المبدأ على حالة المسلمين مع الفرنجة لا يستقيم، لأن النزاع بينهما في بلاد الشام هو نزاع وجود، فلا تتحقق أهداف المسلمين إلا بالقضاء على الفرنجة، وهذا لا يتم إلا باستخدام القتوة العسكرية في نهاية الأمر، إلا أن النزاع طويل ولابد أن تتخللّه فترات هدوء يتم فيها الاستعداد والتحضير للجولات القادمة، أو التحول من جبهة إلى أخرى، كانت فترات الهدوء تحصل في بضع الأحيان بالاتفاق بين الطرفين على هدنة محددة المدة، لسنتين أو ثلاث سنوات، لا تجري فيها عمليات عسكرية بين الطرفين، وكان نور الدين لا يوافق على هدنة مع إحدى الإمارات الفرنجية إلا إذا كان ينوي التركيز على المواجهة مع إمارة أخرى، أو التفرغ لمعالجة بعض القضايا الداخلية، ففي عام 543ه/1148م اضطر إلى منح جوسلين أمير تل باشر هدنة لمدة عاملين، لأنه لجأ إلى معسكره رافعاً الرايات البيض مستجيراً وطالباً حماية نور الدين واعتبر نفسه تابعاً له ( ) ، كان الموقف محرجاً لنور الدين فهو لا يرغب منح جوسلين حمايته واعتباره احد اتباعه ولا يستطيع ردّه خائباً عملاً بآداب العقيدة السمحة وتقاليد الفروسية التي كان يتمثل بها ويحرص عليها، فكانت الهدنة لمدة سنتين حلاً وسطاً بين الحالتين. وفي عام 544ه/1149م حاصر نور الدين مدينة أنطاكية وطال الحصار دو أن يتمكن من فتحها فعرض عليه الفرنجة أموالاً وهدايا وطلبوا منه مهلة يقررون خلالها أمرهم فأمهلهم وسار إلى حصن أفامياً القريب من أنطاكية وكانت تحت الحصار أيضاً فافتتحه وعاد إلى أنطاكية يطلب من أهلها الاستسلام ويعرض عليهم الأمان لأنفسهم إذا استسلموا ولكنّهم تحَّصنوا بالمدينة ورفضوا العرض، وكان نور الدين قد علم بقدوم جيش الفرنجة من الجنوب لنجدة المدينة، كما وصلته أخبار عن معارك بين جوسلين أمير تل باشر وقلج أرسلان سلطان سلاجقة آسيا الصغرى، فاضطر إلى الاتفاق مع فرنجة أنطاكية على أن تكون المواقع القريبة من المدينة فقد تابعة لهم وأن تكون باقي المناطق باتجاه الشرق تابعة لحلب، ورفع الحصار عن المدينة متوجهاً نحو الشرق ليراقب الأحداث الجارية على الحدود الشرقية لمملكته ( ) . وفي عام 549ه/1154م بعد استلائه على دمشق التزم نور الدين بالهدنة التي كانت قائمة بين مجير الدين آبق حاكم دمشق وملك بيت المقدس وحّددها عام 551ه/1156م لمدة عامين آخرين ليتفرغ لعلاقاته مع جيرانه في الشمال سلاجقة آسيا الصغرى والأراتقة في الجزيرة الفراتية ( ) . ولكن ملك بيت المقدس نقض الهدنة في العام التالي واعتدى على بعض المواقع والبلدان التابعة لدمشق ونهبها، فانتقم منه نور الدين وانتصر عليه في عدة مواقع ( ) وفي عام 554ه/1159م وقع نور الدين هدنة طويلة الأجل مع إمبراطور القسطنطينية مانويل كومنين الذي وصل على رأس جيش كبير إلى أنطاكية وحاول أمراء الفرنجة معه وتوريطه الغزو حلب، فراسله نور الدين واتفق معه على هدنة طويلة الأجل وأطلق سراح بعض الأسرى النصارى، الذين أسرهم نورالدين وأرسل الأمبراطور لنور الدين هدايا كثيرة وثمينة الأمر الذي أغاظ أمراء الفرنجة، وأفشل مساعيهم وجهودهم للتحالف مع الأمبراطور ضد نور الدين ( ) ، وفي عام 567ه/1172م كان تركيز نور الدين على الجبهة الجنوبية مع مملكة بيت المقدس، فقد كان يعتقد أن الوقت قد حان لتوجيه الضربة القاضية لها، بعد ضم مصر واستقرار الأوضاع فيها فّوقع هدنة مع إمارتي طرابلس وأنطاكية ليتفرغ لأمر مملكة القدس... ولكن توفي قبل أن يحقق ذلك ( ).
كان الدور السياسي لنور الدين محمود أهم الأدوار في حياته فقد حقّق من خلاله أعظم إنجازاته بتوحيد المشرق الإسلامي، بلاد الشام ومصر وشمال العراق وشبه جزيرة العرب في دولة واحدة بزعامته، فكان هذا الإنجاز المرحلة الأساسية في مقاومة غزو الفرنجة والقضاء عليهم فيما بعد، وقد بذل نور الدين جهوداً مضنية في سبيل تحقيق هذا الإنجاز. ظهرت من خلالها حكمته ومهارته السياسية، لقد كان واضح الرؤية منُذ بداية حكمه حتى نهايته، فقَّرر أهدافه الاستراتيجية الرئيسية وحّدد أولوياتها، ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها فكان كما قيل : عبقرياً في التخطيط والتنفيذ ( ) ، قضى أولاً على إمارة الرها التي كانت تشكل تهديداً خطيراً لدولته من جهة الشرق، فلايستطيع أن يتوجّه غرباً أو جنوباً دون ان يحسب حسابها، ثم ركّز على إمارتي أنطاكية وطرابلس فجردها من جميع المواقع شرق نهر العاصي، وحصرهما في شريط ضيق على البحر، وأصبحا لا يشكلان خطراً كبيراً على دولته وتفّرغ بعد ذلك لضّم دمشق، فاستولى عليها دون إراقة دماء في خطة رائعة كانت مزيجاً من الدهاء والتهديد والترغيب، ومن بعد ذلك تطلع إلى مصر وأخذ يتهيأ لضمها وعندما سنحت الفرصة لذلك أظهر من العزم والتصميم والصبر والمرونة ما حقق له الفوز على الفرنجة وحليفهم الوزير المصري شاور وعندما لاحت الفرصة لضم شمال العراق عام 566ه/1171م لم يتردد في اغتنامها فاستولى على الموصل دون إراقة دماء أيضاً بفضل ما يكنهُّ أهلها له من حب واحترام ( ) ، كان نور الدين حاكماً عظيماً، واكتسب احترام رعاياه وأعدائه على حد سواء ( ) وكان دوره السياسي سلسلة من النجاحات والإنجازات العظيمة المتوالية التي وضعته عن جداره واستحقاق في مكان الصدارة بين الزعماء السياسيين في زمنه وجعلت منه مثالاً رائعاً للقيادة السياسية الحكيمة الناجحة على مدى الأزمان من بعده ( ) .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق