163
موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية
الفصل الثاني :عهد نور الدين زنكي وسياسته الداخلية
المبحث السابع:الإمام عبد القادر الجيلاني وجهوده في الدعوة الشعبية والإصلاح العام:
تاسعاً :الخطوط العريضة لدعوته الإصلاحية:
6-مدارس النواحي والأرياف والبوادي :
تعتبر مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد من المدارس المركزية في عاصمة الدولة العباسية في عهد نور الدين زنكي ويعتبر الشيخ عبد القادر أحد رواد المدراس الإصلاحية التي أثرت في حركة النهوض ومقاومة الغزاة، إلا أن هناك كانت مدارس متعددة ساهمت في دعم الدولة الزنكية والأيوبية ومن أهمها :
أ- المدرسة العدوية :
أسس هذه المدرسة الشيخ عدى بن مسافر الذي أدرجه ابن تيمية في قائمة (كبار الشيوخ المتأخرين " وأضاف أنه كان رجلاً صالحاً وله أتباع صالحون ( ) ، ونشأ عدي في قرية يقال لها "بيت فار" في منطقة البقاع غربي دمشق، تتلمذ على الشيخ عقيل المنيحي ثم رحل إلى بغداد حيث صحب الشيخ حماد الدباس وغيره واجتمع هناك بالشيخ عبدالقادر الكيلاني وأبي الوفاء الحلواني، وأبي نجيب السهر وردي، ثم ركز على خاصة نفسه، بأنواع المجاهدات والتهذيب زمناً طويلاً، ولذلك كان الشيخ عبد القادر يثنى عليه كثيراً ويقول : لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي بن مسافر ( ) قضى الشيخ عدي زمناً في مجاهدة "خاصة نفسه" بالتزكية، ثم عاد للمجتمع واستقر في منطقة " جبال هكار " في شمال العراق بين قبائل الأكراد الهكارية، حيث بنى له مدرسة وأقبل عليه سكان تلك النواحي إقبالاً هائلاً، لما رأوه من زهده وصلاحه وإخلاصه في إرشاد الناس ( )، ويصف ابن خلكان أثر الشيخ عدي في مجتمع الأكراد الهكارية فيقول : سار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير، وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحد ( ) ويذكر الذهبي أن من الآثار التي أحدثها الشيخ عدي بين الأكراد الهكارية انتشار الأمن في تلك المنطقة وارتداع مفسدي الأكراد وتوبتهم حتى صار لا يخاف أحد في تلك المنطقة الجبلية التي لم تكن آمنة قبل ذلك، وأنه انتفع به خلق كثير وانتشر ذكره. لقد وصف الحافظ عبد القادر الرهاوي شخصية الشيخ عدي ومكانته فقال : ساح سنين كثيرة وصحب المشايخ، وجاهد أنواعاً من المجاهدات ثم سكن بعض جبال الموصل في موضع ليس به أنس، ثم أنس الله تلك المواضع به وعمّرها ببركاته حتى صار لا يخاف أحد بها بعد قطع السبل، وارتدع جماعة من مفسدي الأكراد ببركاته وعمّر حتى انتفع به خلق، وانتشر ذكره، وكان معلماً للخير، ناصحاً متشرعاً، شديداً في الله، لا تأخذه في الله لومة لائم عاش قريباً من ثمنين سنة، مابلغنا أنه باع شيئاً ولا اشترى ولا تلبس بشيء من أمر الدنيا، كانت له غليلة يزرعها بالقدوم من الجبل ويحصدها ويتقوت، وكان يزرع القطن ويكتسي منه، ولايأكل من مال أحد شيئاً، وكانت له أوقات لا يُرى فيها محافظة على أوراده وقد طفت معه أياماً في سواد الموصل، فكان يصلي معنا العشاء ثم لا نراه إلى الصبح. ورأيته إذ أقبل إلى قرية يتلقاه أهلها من قبل أن يسمعوا كلامه تائبين رجالهم ونساؤهم إلا من شاء الله منهم، ولقد أتينا معه على دير رهبان فتلقانا منهم راهبان، فكشفا رأسيهما وقبّلا رجليه
وقالاً : أدع لنا فما نحن إلا في بركاتك وأخرجاً طبقاً فيه خبز وعسل فأكل الجماعة وخرجت إلى زيارة الشيخ أول مرة، فأخذ يجادلنا ويسأل الجماعة ويؤانسهم.. وكان يواصل الصوم الأيام الكثيرة على ما اشتهر عنه، حتى أن بعض الناس كان يعتقد أنه لا يأكل شيئاً قط، فلما بلغه ذلك أخذ شيئاً وأكله بحضرة الناس واشتهر عنه الرياضات والسير والكرامات والانتفاع به ما لو كان في القديم لكان أحدوثة. ورأيته قد جاء إلى الموصل فخرج إليه السلطان وأصحاب الولايات والمشايخ والعوام حتى آذوه مما يقبّلون يده، فأجلس في موضع بينه وبين الناس شباك بحيث لا يصل إليه أحد إلا رؤية، فكانوا يسلمون عليه وينصرفون ثم رجع إلى زاويته ( ). قال عنه الذهبي : الشيخ الإمام الصالح القدوة، زاهد وقته ( ) .وقد ظهرت الآثار العلمية والعملية لمدرسة عدي بن مسافر في الدور الكبير الذي لعبه أكراد جبل هكار - فيما بعد - في جيش صلاح الدين حيث شكَّلوا أهم فرقة، واحتل عدد منهم منزلة الأمراء والقادة الذين حقّقوا الانتصارات وأنجزوا الفتوح ( ) . توفي الشيخ عدي بن مسافر في بلدة الهكارية ودفن بها عام 557ه ( ).
ب- مدرسة عثمان بن مرزوق القرشي :
أسس هذه المدرسة الشيخ عثمان في "مصر" وكان يعُتبر من أعيان المشايخ الذين جمعوا بين الشريعة والزهد. كان حنبلي المذهب، وكانت له علاقات مع الشيخ عبد القادر الكيلاني. لقد لعب - فيما بعد - دوراً هاماً في تمهيد الأجواء لحملات نور الدين على مصر. استمر الشيخ عثمان في عمله بالقاهرة حتى وفاته عام 564ه عن عمر يناهز السبعين ودفن بجانب قبر الإمام الشافعي ( ).
ج- مدرسة أبو مدين المغربي :
اشتهرت هذه المدرسة في "المغرب" وعرفت باسم الشيخ أبي مدين شعيب بن حسين الأندلسي الذي نشأ في منطقة أشبيلية في الأندلس ودرس فيها على مذهب الإمام مالك بن أنس، ثم سلك طريق الزهد وجال في المغرب واستوطن مدة في مدينة (بجاية) إلى أن استقر به الطواف في مدين "تلمسان " وبدأ في الإرشاد والتدريس حيث تخرج على يديه الكثير من شيوخ المغرب وزهادها ( ) ، ويصف الذهبي الشيخ أبا مدين بأنه كان من أهل العمل والاجتهاد والانقطاع للعبادة والنسك والتربية ( ). كذلك اعتبره ابن تيمية من كبار الشيوخ المتآخرين الذين كانوا على طريقة صالحة ومنهج مستقيم ( ) . واستمر أبو مدين مواظفاً على التدريس والعبادة حتى وافاه الأجل حوالي عام 590ه وكان آخر كلامه : الله الحي، ثم فاضت نفسه ( ).
ح- مدرسة أبو السعود الحَريمي :
درس في المدرسة القادرية وتربّى على الشيخ عبد القادر وصار المشار إليه بعده وصار له القبول التام عند الخاص والعام، وأسس مدرسة خاصة به ونجح نجاحاً قويا بين جماهير الفقراء وفتح لهم بابه ( ).
خ- مدرسة ابن مكارم النعال : تنُسب هذه المدرسة إلى محمود بن عثمان بن مكارم النعال البغدادي الذي كان يُشرف على رباط الوافدين من خارج بغداد والعراق إلى المدرسة القادرية ثم استقل بعد وفاة عبد القادر وصار يخرج بأصحابه لينكروا المنكر ويريقوا الخمور ويتعرضوا للأذى في سبيل ذلك ( ).
د- مدرسة عمر البزاز : تنسب هذه المدرسة إلى عمر بن مسعود البزاز الذي وصُف بأنه من أعيان أصحاب عبد القادر. شاع ذكره وأقبل عليه الأتباع، وتاب على يده خلق كثير من مماليك الخليفة، ويذكر ابن النجار أنه كان يحضر مجالسه ( ) .
ذ- مدرسة الجبائي : أسسها عبدالله الجبائي الذي كان في الأصل مسيحياً من قرية "جبة" في جبل لبنان سُبي وهو فتى ثم نُقل إلى دمشق حيث أسلم هناك، فاشتراه على بن إبراهيم بن نجا أحد أصحاب عبد القادر، فأعتقه ثم أرسله إلى بغداد عام 540ه/1145م حيث لازم الشيخ عبد القادر وصحب ابن قدامة في الدراسة، وتدل أخباره أن الشيخ عبد القادر كان يرعاه ويوده. نال الجبائي منزلة عالية في بغداد وظل يعمل مع الشيخ حتى وفاته، فرحل إلى أصبهان حيث درس وأفتى حتى وفاته عام 605ه/1208م عن أربع وثمانين سنة ( ) .
ر- مدرسة الشيخ ماجد الكردي : أسس هذه المدرسة ماجد الكردي في منطقة "قوسان" في العراق وكان قد اشتهر أمره في تلك المنطقة وقصده المريدون والأتباع من مختلف أرجائها. وكان على علاقة وطيدة بالشيخ عبد القادر الذي كان يجله ويثني عليه ولقد استمر في عمله حتى وفاته عام 562( ) ه.
ز- مدرسة حياة بن قيس الحراني : الشيخ القدوة الزاهد العابد، شيخ حرّان، وزاهدها، حياة بن قيس ابن رَجَّال بن سلطان الأنصاري الحراني، صاحب أحوال وكرامات وتألهُّ وإخلاص وتعفف وإنقباض، كانت الملوك يزورونه، ويتبرَّكون، بلقائه وكان كلمة وفاق بين أهل بلدة وقيل : إن السلطان نور الدين زاره، فقَّوى عزمه على جهاد الفرنج ودعا له وإن السلطان صلاح الدين زاره وطلب منه الدعاء ( ). وقد تخرج على يد الشيخ حياة الجم الغفير من الأتباع والمشايخ الذين استأنفوا منهجه في الدعوة والإصلاح، وانتمى إليه أعداد عظيمة من الناس وأشار إليه العلماء بالاحترام والتقدير. وكان أهل حران وما حوله يجلّونه ويقصدونه بالزيارة وطلب الدعاء للاستسقاء. لقد استمر في عمله حتى وفاته في حران نفسها عام 581ه ( ) .
وقد ذكر الدكتور ماجد عرسان الكيلاني مدارس أخرى كالمدرسة كمدرسة الشيخ رسلان الجعبري، ومدرسة عقيل المنيحي، ومدرسة الشيخ علي بن الهيتي، ومدرسة الحسن بن مسلم، ومدرسة الجوسقي، ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي، ومدرسة مولى الزولي، ومدرسة محمد بن عبد البصري، ومدرسة القيلوي، ومدرسة علي بن وهب الربيعي، ومدرسة الشيخ بقا بن بطو ( ) ومما يكمل الصورة للمدارس التي تناولها البحث في مدارس النواحي والأرياف والبوادي أن نقول إنها كانت تطبق منهاجاً موحداً في التربية والتدريس يتطابق إلى حد كبير إلى التعاليم والمبادئ التي دعا لهما الغزالي والجيلاني، وأنها كانت امتدادات أصغر في الأرياف والجبال والبوادي بحيث يمكن القول أنها بلغت المئات، لأن الأمر لم يتطلب أكثر من استقرار أحد الخريجين في مسجد من مساجد الريف مثلاً، أو الإقامة في رباط أو زاوية وتكريس الوقت للتدريس وسلوك الزهد ( ).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق